عرض كتاب التصوف وأيامه ” دور المتصوفة في تاريخ مصر الحديث ”  (2)

لمؤلفه : الأستاذ الدكتور/ محمد صبري الدالي.

بيانات النشر : دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية، 2022م.

حجم الكتاب : من القطع المتوسط، 463 ص.

عرض : أشرف خيري يوسف

نٌشر بالعدد رقم (43) قبل الفائت عرضنا لكتاب التصوف وأيامه، للأستاذ الدكتور محمد صبري الدالي، الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية في 463 ص من القطع المتوسط، عام 2022م، إلا أنه نٌشر غير مكتمل، لذا نحاول في هذا العدد استدراك ما سقط كي تعم الفائدة قدر المستطاع.

ففي هذه الدراسة الفريدة المتشعبة التي احتوت على سبعة فصول بعد المقدمة والتمهيد كما أوضحنا في العرض السابق، اعتمد المؤلف على مجموعة من حجج الوقف الموجودة بأرشيف الشهر العقاري، وأرشيف دار الوثائق، وأرشيف وزارة الأوقاف وعلى عدد من سجلات المحاكم الشرعية، فضلًا عن المصادر المخطوطة والمطبوعة والرسائل العلمية والمراجع.

ثم اختتم الكتاب بخاتمة هامة، اشتملت على مجموعة من النتائج التي أثبتتها وتوصلت إليها الدراسة، منها؛- وعلى خلاف ما قِيل- أن التصوف بدأ في مصر مبكرًا، من خلال مجموعة من الزهاد المتقشفين، وأن أول إشارة صريحة عن الصوفية وقد أصبحوا جماعة منظمة لها معالمها وأهدافها، وردت في نهاية القرن الثاني الهجري، وفي الوقت نفسه وجدت بعض بيوت الصوفية، وبالتحديد “الربط والزوايا” في مصر منذ ذلك الوقت وربما قبله، وكانت بداياتها عسكرية/دينية/علمية، لكنها تطورت لتصبح ذات مهمة دينية/صوفية. ومنها أيضًا، أن التصوف في مصر حتى نهاية العصر المماليكي مر بثلاث مراحل؛ الأولى اتصف فيها الصوفية بالصلاح والزهد والتقشف، وحاولوا القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل سلمي أحيانًا، وعندما فشلوا في ذلك، اتخذوا من الثورة سبيلًا لتنفيذ أهدافهم، خاصًة إبان الاضطرابات السياسية، بل ووصل الأمر إلى حد تدخلهم في اختيار حاكم مصر بالقوة، ولقد أدى الاضطهاد لهم ولآل البيت إلى اندماجهم وتكوينهم جبهة معارضة للسلطة، وهذا الاندماج الذي طبع التصوف المصري بطابع خاص مهد الطريق لغرس الدعوة الفاطمية الشيعية في مصر، والمرحلة الثانية كانت في عصر الدولة الفاطمية التي قامت على أسس شيعية/صوفية، مما انعكس في علاقة اتفاق وتعاون بين المتصوفة والحكام الفاطميين، وشهدت هذه المرحلة نشأة مؤسسات صوفية مثل “المصطبة” التي اختفت مع زوال الدولة الفاطمية لأسباب سياسية/مذهبية، وكذلك نشأت إحدى المشاهد العلوية/الصوفية المهمة؛ وهو المشهد الحسيني الذي أُنشىء لجذب الوجدان المصري الشعبي  الصوفي للحكم الفاطمي بعد ضعفه، وبعد انفضاض المصريين من حول الدعوة الإسماعلية الشيعية، وفي هذه المرحلة ظهرت أول طريقة صوفية في مصر وهي الطريقة “الكيزانية” التي تم القضاء عليها فيما بعد لبُعدها عن التصوف الشيعي والسني أيضًا. أما المرحلة الثالثة فقد عاصرت الدولة الأيوبية، واستمرت حتى نهاية الدولة المملوكية، وشهدت تحولًا كبيرًا على يد صلاح الدين الأيوبي الذي حاول القضاء على التصوف الشيعي بتشجيع التصوف السني على فكر الإمام أبي حامد الغزالي، فاستقدم بعض صوفية المشرق “السنة” وأقام لهم خانقاة ووفر لهم ما يلزم، ورغم نجاح صلاح الدين هو ومن جاءوا بعده في إضعاف التصوف الشيعي/العلوي بالاستقطاب والبذل والقسوة والقتل…فإنهم لم يتمكنوا من القضاء عليه نهائيًا، وهذه المرحلة شهدت انخراط غير مسبوق للمجتمع المصري في التصوف بما فيه المرأة، وكذلك المتصوفة الأعاجم، وظهرت “الخانقاة” كمؤسسة صوفية مهمة في العصر الأيوبي، وزاد عدد الزوايا والربط، التي لم تعد تُعبر عن الزهد والعبادة والتصوف فحسب، بل وعبرت عن معاني ووظائف اجتماعية واقتصادية وفكرية جديدة، وإن كانت تلك المرحلة شهدت انخراط المجتمع بشكل غير مسبوق في التصوف، فقد اختلفت نوعية التصوف فيها عن المرحلتين السابقتين، فقد تراجع التصوف الفلسفي لصالح الطرق والدروشة والجذب والكرامات، وتغير مفهوم التصوف ولم يعد يُعبر عن الزهد والتدين والتقشف، بقدر ما كان يعبر عن أمور دنيوية أخرى، عكستها طبيعة العلاقة بين المتصوفة والحكام، التي أصبحت علاقة نفعية في كثير من أدوارها منذ أيام صلاح الدين الأيوبي وحتى السلطان الغوري؛ فاستفاد كل طرف من الآخر، وهو ما كان على حساب أوضاع المصريين الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفكرية.

ومن هذه النتائج أن في العصر العثماني حدث انتشار غير مسبوق للتصوف في مصر، فتعددت طرقه وبيوته في المدن والقرى والنجوع وبين كل الفئات والطبقات بشكل غير مسبوق، كما شهدت مصر في ذلك العصر تفرقة بين المتصوفة أنفسهم: متصوفة السجاجيد، ومتصوفة الطرق، ومتصوفة المؤسسات “البيوت الصوفية”، بالإضافة إلى المتصوفة من الدراويش والفلاحين وأرباب الحرف ممن لم ينتموا لسجادة أو طريقة أو مؤسسة صوفية بعينها. وكل هذا كان وراءه مجموعة من الأسباب، فلم يكن التدين هو السبب الوحيد في ذلك، بينما كانت نتائج الاحتلال العثماني لمصر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من الأسباب الرئيسية لانتشار التصوف، ولنتيجة لذلك ولغيره من الأسباب أطلق المؤلف مصطلح “المتصوفة” لا “الصوفية” على معظم المعاصرين لتلك الفترة، ويرى أنه: “إذا كانت السجادة البكرية قد مجدت أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين “رضي الله عنهم”، فإن السجادة الوفائية مجدت علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” وجعلته الإمام بعد الرسول “صلى الله عليه وسلم” ورمزًا لضياع حقوق أهل البيت، بل وجعلته حقيقة من حقائق الإيمان!!”.

وأوضح المؤلف أن الدور السياسي لصوفية/متصوفة مصر في العصر العثماني كان متباينًا، فقد اتسم دورهم بالعفوية حتى نهاية العصر المملوكي، وغلب عليم التقوقع داخل بيوتهم الصوفية، أما في العصر العثماني فشاركوا بشكل متصاعد –مباشر وغير مباشر- في الحياة السياسية، ومن هنا اشتركوا في الديوان والجمعيات، وفي بعض أدوات الحكم العثماني، خاصًة في مجالي القضاء والإفتاء، كما أقاموا العلاقات مع الباشوات والولاة والقضاة والأوجاقات، بل ومع موظفي الدولة العثمانية في استانبول، ومن هنا لعب الصوفية/المتصوفة دورًا مهمًا في مساندة ممثلي السلطة، أو في مساندة المماليك ضدها، أو في الوساطة بين الطرفين، وفي النزاعات البينية بين المماليك. أما عن النواحي الاقتصادية فتوصلت الدراسة إلى أن معظم مشاركة المتصوفة في الحياة الاقتصادية جاءت باعتبارهم مستهلكين ومستثمرين ومٌستغلين، لا منتجين؛ فعملوا بالتجارة وتنظروا على مساحات هائلة من الأوقاف، وحصلوا على دخول مالية كبيرة.

وهناك الكثير من النتائج الهامة المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية والتعليمية والفكرية للصوفية، مما يضيق المقام للإشارة إليها أو الخوض في تفاصيلها، إلا أن الخلاصة كما يقول المؤلف في الختام : “صفوة القول أن التصوف قد توغل في المجتمع المصري إبان العصر العثماني بشكل لم يسبق له مثيل نتيجة لأسباب اقتصادية واجتماعية ومذهبية وسياسية متباينة ، لكن تلك الأسباب نفسها أحدثت تنوعًا واختلافًا كبيرين بين فئات المتصوفة؛ فكان منهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، والرفيع والوضيع. وقد ترك هذا التنوع آثارًا سلبية كثيرة على تاريخ مصر آنذاك، ومازال بعضها مستمرًا حتى الآن لبقاء الكثير من الأسباب، سواء أدركنا ذلك وفهمناه وأوليناه الاهتمام، أو لم ندركه وجهلناه أو تجاهلناه”.

على أية حال فإن الكتاب ملييء بالمعلومات والمصطلحات ومدلولاتها، لا نستطيع الحديث عنها  هي وباقية النتائج كما أشرنا،  لذا  سنتركها للقارىء الكريم يستمتع بها يتعرف عليها  بقراءة هذا الكتاب الماتع بكل الأحوال، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: