صناعة تيمات الحكي والمقاصد التداولية للخطاب السردي

في المجموعة القصصية (نظرة وداع لحسام أبو العلا)

بقلم: الأستاذة الدكتورة عزة شبل محمد   

أستاذة اللغويات وتحليل الخطاب – كلية الآداب- جامعة القاهرة

 

تسعى هذه المقالة إلى محاولة التعرف على كيفية صناعة المبدع تيمات الحكي، وربطها بالمقاصد التداولية للخطاب السردي، كاشفةً عن وظائفه النقدية، والجمالية، وإلقاء الضوء على القضايا الاجتماعية الشائكة التي تطرحها المجموعة القصصية، وخصوصية الشفرات الدلالية الضمنية الموجَّهة للقارئ. وللخوض في هذه الرحلة، كان لا بد من الاستعداد لها، وهذه المِنطقة الغائمة عادةً ما لا يتم الحديث عنها من قِبل النقاد. لماذا؟ لأن الناقد إذا ما تبنى نظرية نقدية حديثة وناقش العمل في إطارها، فسوف يلقى اتهامًا بالتطبيق الآلي الأجوف، والتبعية للتنظير الغربي، وإذا ترك هذا وراء ظهره، وبدأ عملية القراءة دون تحديد وجهة معينة، انطلاقًا من النص ذاته، فإنه لا يسلم من التهم أيضًا، وسيقع تحت معول النقد الانطباعي الذاتي، وعدم الموضوعية.

على أية حال، فمما لا شك فيه أن سر تميز هذ ا العمل هو محاولته إلقاء الضوء على دور الأدب في علاقته بالمشكلات المعاصرة، والواقع الذي نعيشه، والتفكير فيها، وهذا التفكير في حد ذاته يعد أولى خطوات السعى نحو تغيير الواقع للأفضل. وفي الحقيقة، يعود مصدر إعجابي بهذه المجموعة القصصية إلى قدرة المؤلف على إنتاج (31) قصة تعرض صورًا متعددة من المشكلات الاجتماعية المعاصرة يجمعها نهاية واحدة، وهي (نظرة الوداع)، على خلاف العديد من المجموعات القصصية التي نرى مؤلفيها يجمعون أشتاتًا متفرقة من الموضوعات، ويضعونها في كتاب واحد لنشره. أما هذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا، فإنها تؤكد أن مؤلفها قد خطط لكتابتها، ولم يجمعها جمعًا عشوائيًّا، وإنما هي تمثل وحدة خطابية كلية، وتكشف عن عقل مهموم بقضايا المجتمع، وهو أمر لافت يستحق الإشادة به، وتهنئة المؤلف عليه.

ولشعور الغريب الذي راودني بعد الانتهاء من عملية قراءة هذه المجموعة القصصية، هو ثقل الامتلاء، أو العبء الشديد الذي تركته هذه المجموعة القصصية على كاهل القارئ؛ لأنها على الرغم من بساطتها التي تبدو للوهلة الأولى، والمرتبطة بصغر حجم كل قصة فيها الذي يتراوح بين ورقة واحدة، أوبضع وريقات، فإنها تقدم تجارب حياتية شديدة التعقيد، وقضايا اجتماعية شائكة تحتاج إلى تأمل كبير، فهي تلقي الضوء عليها، وتجعل المتلقي في حيرة من أمره تجاهها. وقد استطاع المبدع إرباك الناقد؛ لكونه يمثل الدورين معًا من أدوار الخطاب، دور الناقد، ودور المبدع.

لذا أحببت أن أخوض مغامرة الرحلة إلى هذه المجموعة القصصية من منظورين متداخلين، هما منظور القارئ الذي يشارك المؤلف القضايا المجتمعية الراهنة، ومنظور محلِّل الخطاب.

المؤلف ناقدًا

هذه المجموعة تقدم للقارئ إحدى وثلاثين مشكلة اجتماعية، تقع تحت مظلة العنوان الرئيس للمجموعة (نظرة وداع)، وهي تلك اللحظة الفارقة التي يُتخَذ فيها قرار الفراق، لكن هذا القرار على الرغم من أنه بمثابة كشف أو تنوير لا تتجاوز ذروة الوصول إليه سوى لحظة، فإنه يأتي بعد نظرة تأمل سريعة وعميقة في الوقت نفسه؛ إذ إنها تمثل قمة الجبل الجليدي لحالة معيشية، أو لنقل لحالات معيشية، تتنوع بتنوع القصص التي سوف نستعرض القضايا التي تطرحها، والتي يشعر القارئ أن كاتبها خَبَر الحياة، لذا فهو يقدم لنا خلاصة هذه التجارب المعيشية، وسأمِه منها، والضجرِ من تفشيها، وإلا لما مرَّ عليها مرور الكرام دون أن يلتفت إليها، أو يكتبَ عنها؛ لذا فالمؤلف يعدُّ في الأساس هو الناقد الأول لما يمكن أن نطلق عليه (الخطاب المعيشي) ويرجع استلهام هذا المصطلح الجديد إلى النظريات المعرفية المعاصرة التي تُدخل مكونات العالم من حولنا في مصادر المعرفة الذهنية. فالمؤلف يلتفت إلى ما لا يلتفت إليه غيرُه، ويلتقطه بعدسته، ويعبر عنه، ويخرجه للقارئ بعد عملية تأثير وتأثر مع مخزونه المعرفي، فيَنتُج خطابٌ جديدٌ هو مزيج من الواقع المعيش، والواقع المتخيَّل في ذهن المبدع.

لذا؛ فإن العنوان الرئيس للمجموعة القصصية (نظرة وداع) يحمل هذه الازدواجية، ازدواجية نظرة المؤلف، وهي تلك النظرة التي تلقيها إحدى الشخصيات داخل القصة، مقررةً الرحيل، وهي في الوقت ذاته نظرة الناقد الذي يتمنى أن تنتهي تلك الأمراض المجتمعية، مقررةً الرحيل عن جسد المجتمع. وهذا ما يجعل القارئ يستشعر التناص مع قصة (نظرة) ليوسف إدريس من مجموعته القصصية الأولى (أرخص ليالي 1958)، لتصبح الوظيفة النقدية، فضلاً عن الوظائف السردية الأخرى هي الخصيصة المشتركة والمائزة التي تجمع هذين العملين.

نقد مشكلات الواقع المعيش وصناعة تيمات الحكي

ترتبط صناعة تيمات الحكي في المجموعة القصصية بالمشكلات الحياتية التي تعرضها القصص، وأول هذه التيمات، وأبرزها وضوحًا لدى القارئ، وأشدها تأثيرًا فيه، لأنها تيمة متكررة بقوة داخل كل قصة، ولا تخلو منها قصة من قصص المجموعة، هي (تيمة الحزن).

فالحالة الشعورية المسيطرة على كامل المجموعة هي (الحزن) وتصاب به الشخصية التي تتعرض لصدمة ما داخل العمل السردي، فتصبح (ضحيةً). فيخلق الحزن حالةً من التعاطف معها لدى القارئ، وتلك هي طبيعة النفس البشرية التي تميل إلى التعاطف مع الضعيف المأزوم، فيولد هذا الشعور حالة وجدانية موازية لدى القارئ، وفي الوقت نفسه تمثل تلك الحالة الشعورية (مثيرًا معرفيُّا) ينتقل بالقارئ من المستوى الوجداني إلى المستوى المعرفي، أو الإدراكي. إذا جاز لنا أن نستعير مفهومي (المثير والاستجابة) من النظرية السلوكية. هذه النقلة تحث القارئ على التفكير والتأمل في تفاصيل المشكلات التي يعرضها السارد، ويسعى إلى الخروج منها، فتعدُّ بذلك أولى خُطوات عملية (التطهير) التي قدمها (أرسطو) في كتابه “فن الشعر”.

فثبات تيمة (الحزن)، وتكرارها عبر قصص المجموعة كلها، فضلًا عن تضخيمها، بتخصيص عنوان لها في قصة (شجرة الأحزان) تلك الشجرة التي تنبت في مناخ الحزن وتحت سمائه، وتثمر حزنًا وشقاءً. فتيمة الحزن لا تمثل وحدة داخل المجموعة فحسب، تسهم في انجسامها، وتحقيق مقاصد السارد داخل العالم القصصي، بقدر ما هي تحقق وظائف تواصلية، أو تداولية، تتجاوز العالم التخييلي الإبداعي الذي صنعه المؤلف إلى العالم الفعلي، أو الواقع المعيش الذي يجمع المؤلف والقارئ، فاستطاع المؤلف أن يدخل القارئ معه في بوتقة واحدة. وهذا ما صنعه الكاتب الأستاذ حسام أبو العلا ببراعة شديدة من خلال تمريره تيمة الحزن وصوره وأسبابه وأشكاله إلى ذهن القارئ، عبر الذاكرة قصيرة المدى التي هي في حركة تفاعل دائم مع الذاكرة طويلة المدى والضفيرة الوجدانية. إذن الإطار العام الشمولي لهذه المجموعة القصصية يتجلى في صناعة تيمات الحكي، وخصوصية ارتباطها به. ومن المعروف أن بروب هو أول من استخدم مصطلح (تيمات الحكي، ووظائفه) في تحليل الحكايات الخرافية.

التيمة الحكائية الشمولية الأخرى التي صنعها المؤلف هي (تيمة المرض) وقد عمد أيضًا إلى تكرارها بصور مختلفة في قصص المجموعة، كما أنه وظفها لخدمة مقاصده، وتوجيه رسائل تداولية غير مباشرة للقارئ، تطرح تساؤلات ضمنية عن أسباب المشكلات، وتحث على التفكير في إيجاد حلول، أو على أقل تقدير الحذر من الوقوع في مثل هذه المشكلات. وبذلك أصبحت (تيمة المرض) تيمة مزدوجة الوظيفة، إحداها داخل عالم القص، للتعبير عن مرض الشخصيات، والأخرى داخل الواقع المعيش، للتعبير عن الأمراض المجتمعية. والتوظيف السردي لهذه التيمة يصلح لعمل دراسة مستقلة إذا ما أخذنا في الاعتبار وجوه هذا التوظيف المتنوعة في كتابات الأدباء، من مثل “المعذبون في الأرض” لطه حسين، و”الحرام” ليوسف إدريس.

كذلك يوظف المؤلف تيمة سردية أخرى في بناء عالمه القصصي، وهي (تيمة الفقر)، والظروف المعيشية القاسية التي قد تدعو بعض الشخصيات إلى الانحراف، أو الخيانة، ومن ثم تصبح (نظرة الوداع) هي الرد المنطقي لإنهاء العلاقة.

وتشترك مع هذه التيمات الحكائية في صناعة الإطار الشمولي الذي يعد بمثابة هيكل المجموعة القصصية، أو مفاصلها، أو بنيتها العليا، وهي (الثنائيات الضدية) أو ما يمكن أن نطلق عليه (التقابلات السردية) بدءًا من الإهداء الداخلي الذي يقدمه المؤلف: “إلى من طعنت القلب برحمتها: بعض الجروح عصيةٌ على الشفاء” الذي ينطوي على مفارقة واضحة، وعلى الشعور بمرارة الألم، وعدم الشفاء من الجروح التي سببتها المحبوبة. وهذا الإهداء وإن كان يشف عن خطاب عنصري ضد المرأة، يخصها بكونها المسئولة الوحيد دومًا عن الجروح والطعنات التي تستعصي على الشفاء، في حين إذا ما قرأنا هذا البوح في سياق قصص المجموعة، سنجده يتعارض في مواضع كثيرة منها، حيث يكون الرجل فيها هو المتسبب في الألم، بينما تكون المرأة هي الضحية.

ولنستعرض بإيجاز بعض المشكلات المجتمعية التي يلقي المؤلف الضوء عليها، ويضعها أمام أعين القراء؛ للتفكير فيها.

مشكلة خيانة الزوجة مع الصديق، في قصة (سخاء). تعرض من خلال دلالة العنوان مدى تضحية الزوج (سعيد) من أجل إسعاد زوجته التي كانت مريضة لفترات طويلة ثم شفيت، ومدى العبء الذي تحمله في العمل لتوفير الإنفاق على مرضها، والتفاني من أجل إسعادها وإسعاد أولاده؛ لينعم بدفء الأسرة، ومدى خطورة هذا السخاء الذي جعل الزوج يوافق على سفر زوجته وأولاده لقضاء رحلة في أحد الشواطئ برفقة صديقه (حسين)، وزوجته وأولاده، ولكن النهاية كانت صادمة عندما وجد على سبيل المصادفة رسالة على الفيس بوك من زوجته قبل دقائق من سفرها لصديقه تقول فيها “وحشتني”.

تأتي المفارقة الساخرة في هذه القصة من دلالة العنوان (سخاء) الذي قوبل باستنتاج القاري خيانة الزوجة مع الصديق في المقطع النهائي من القصة. وأن هناك مفارقة أخرى ترتبط بتسمية الزوج باسم (سعيد) على الرغم من كونه أصبح شقيّا بعد اكتشاف خيانة زوجته، كما وظَّف الكاتب تسمية الصديق الخائن باسم (حسين)؛ وهي تسمية تشي الحسن والوجاهة بسبب ثرائه. أما الزوجة الخائنة فقد سلبها المؤلف التسمية، واكتفى بتكرار الوصف الاجتماعي لها بـ (الزوجة)؛ تاركًا باب التأويلات مفتوحًا للقارئ على مصراعيه. وإن كنت أميل إلى أن هذا من باب (التأدب)؛ حتى لا تنشأ لدى بعض القراء دلالة تلازمية بين الاسم وفعل الخيانة. أما فضاء النص، فقد كان متسمًا بالعمومية الشديدة، متوزعًا بين منزل الأسرة، ومكان عمل الزوج، وأحد الشواطئ الجميلة التي قضوا فيها رحلتهم. وربما كان اختيار المكان دون تسمية للسبب ذاته.

وإذا تأملنا هذه القصة، سنجد أن الكاتب يشير ضمنيًّا إلى التحذير من بعض السلوكيات الاجتماعية الخاطئة الغريبة عن العادات والتقاليد في المجتمعات الشرقية، وهي إزالة المسافة الفاصلة بين أهل البيت، والغرباء! التي مهدت الطريق لوقوع الخيانة من الطرفين.

مشكلة أخرى وهي نظرة المجتمع لفكرة (الزوجة الثانية) في قصة (الشرنقة). فالزوج يعاني من احتدام المشاكل مع زوجته، وله منها ابنته إلى تستعد لمرحلة الزفاف، والمتعلقة به، وبدلًا من أن يسعى الزوج إلى إصلاح علاقته بزوجته، وحل مشاكله معها داخل البيت، لجأ إلى حل سريع، خارج البيت، وهو الارتباط بامرأة أخرى، زميلة له خمسينية، لها أبناء، لكنها ترفض الزواج من رجل متزوج. وهنا يمنحها المؤلف اسم (وفاء) الذي جاء منسجمًا مع وصف زوجها السابق بـ “الخائن البخيل”. فصنع هذا (الزميل) لنفسه وهمًا وسجن روحه بداخله، فأصبح داخل شرنقة هو الذي نسج خيوطَها بنفسه. وتثير هذه القصة قضية شائكة تتعلق بنظرة المجتمع لفكرة (الزوجة الثانية)، وهو باب كبير مفتوح لاختلاف الآراء حوله، والأسباب المؤدية له، وقد تناولها المؤلف في أكثر من قصة داخل المجموعة، مثل قصة (دفء العمر). وفي الوقت ذاته نلمح بين ثنايا القصة رسالة تحذير خفية من أضرار وسائل التواصل الاجتماعي المنفتحة، التي كشفت خصوصية الحياة الاجتماعية، وجعلت المعلومات الشخصية تطفو على السطح للمتابعين، فهي بدورها تمهد  الطريق لهؤلاء الأشخاص الذين يلعبون دور الصياد في الركض وراء الفريسة.

مرض اجتماعي آخر وهو (الكذب) الذي يحول الإنسان إلى صورة (إبليس)، كما في قصة (إبليس)، وهو هنا بالطبع (المرأة) التي تركت المحب الفقير الذي يضحي من أجلها، وذهبت إلى الغني ذي المنصب الرفيع، وقد وظف المبدع المرض في هذه القصة لخدمة المثل الشعبي (مراية الحب عامية)، بأن جعل المحب مريضًا مصابًا في عينيه، غيرَ قادرٍ على الإبصار بشكل طبيعي، وقد أطلق على محبوبته اسم (نور)، على سبيل المفارقة الساخرة.

وأيضًا نجد تحذيرًا ضمنيًّا من خطورة صفحات التواصل الاجتماعي، والقدرة على تتبع الأخبار، والتلصص من خلالها.

قضية رؤية المجتمع لـ (إنجاب الإناث)، في قصة (ماسة)، وهي رؤية تتعلق بمشكلة أخرى، وهي  (قضية الميراث)، وما يورثه من كره في نفوس الأبناء، فهناك يحرم أقاربه الميراث، مما يتسبب في حدوث صدع اجتماعي لا يمكن رأبه، وبالتالي كانت دلالة اسم (شريف) ابن العم المحروم من الميراث دلالة على النقيض من اسمه، فهو مختلس، متآمر على زوجته (ماسة) التي هي اسم على مسمى، فقد اجتهدت في إرجاع الحقوق إلى أصحابها، ورد الميراث لعمها، وهو حقه الشرعي الذي حرمه والدها منه.

والقصة مليئة بالعديد من صور كسر التوقع، فهي القصة الوحيدة التي تحمل اسم امرأة في المجموعة القصصية كلها، وتصور دور الابنة العظيم في رأب صدع العائلة بينهم وبين عمها الذي كان والدها قد حرمه من الميراث، فقامت هي برده إليهم وقد كانت الضحية هنا هي (المرأة)، وليس الرجل على غرار القصص السابقة، وأيضًا المفاجئة في تحول شخصية العم من دور المنتقم إلى دور العفو والسماحة، فلم تعد  لديه الرغبة في الحصول على ميراثه، أو الانتقام منهم. وكانت هناك مفارقة أخرى في إطلاق اسم (شريف)، على شخص مختلس ومتآمر، وللقارئ أن يلتفت إلى نوع آخر من أنواع التوريث، وهو توريث الحقد والغل من الأباء إلى الأبناء تجاه أحد أفراد أسرتهم، وخطورة ذلك على مستوياتهم النفسية، وعلاقاتهم الأسرية.

مرض مجتمعي آخر وهو (سوء معاملة الزوج لأم زوجته (حماته)، وطلاق الزوجة بسبب عدم قدرتها على الإنجاب، وسوء معاملة زوجة الأب لأبنائه من غيرها) كما يتجلى في قصة (نظرة وداع) التي تحمل المجموعة القصصية عنوانها. والقصة تلفت الانتباه إلى قضية في غاية الأهمية، وهي قضية توريث الكره والحقد، الذي ينقله السلف إلى الخلف، ويلخصه  اختيار الكلمة المفتاحية (نسخة)، على ما تحمله هذه الكلمة من دلالات المشابهة التي تصل لحد المطابقة في الصفات، والأفعال، الذي يتضح في هذا المقطع من القصة :”كلما زاد إصراره على الاقتراب منها، زادت مخاوفها من وجود رجل نسخة من أبيها، أو زوجِها السابق، لن تتحمل أي صدمة جديدة تقتل ما تبقى بداخلها من أمل لاستكمال الحياة، ولن تقبل أي إساءة لأمها”.

مشكلة نظرة المجتمع إلى (زواج الأم بعد رحيل زوجها)، خاصة مع وجود رفض الأبناء كما في قصة (ليلة العيد)، مما يؤدي إلى حرمان الأم حقًّا من حقوقها الشرعية. وقد أبرزت القصة الجانب النفسي، والضرر الواقع عليها، فقد اختار المؤلف لها اسم (زهرة) على سبيل المجاز؛ تشبيهًا لها بالوردة المتفتحة المقبلة على الحياة، المحبة لها، كما اختار لها رجلًا سمته الصلاح والتقوى، أحبته، ورغب كلاهما في الزواج، وأعطى له اسم (صلاح)، لكن تقع المفارقة بمعارضة الأبناء، ولا سيما أن أولادها لا يهتمون بها، ولا يشاركونها الحياة، ففي ليلة العيد قرروا الذهاب إلى أهل والدهم، وتركِها وحيدةً.

من أهم القضايا المطروحة على الساحة الآن قضية (حقوق المرأة) التي تعرضها في قصة (عشق الروح) من خلال مشكلة سوء معاملة الزوج لزوجته، والتي تناولها الكاتب في قصص أخرى من المجموعة، مثل قصة (التركة)، وقصة (هبة) التي تنقل صورة رفض المجتمع، والأبناء لمبدأ (الخُلع) حتى مع أصعب الحالات التي تتعرض فيها الزوجة لسوء المعاملة، وقضية إجبار الأب ابنته على الزواج المبكر دون رغبتها، وحجم المشكلات النفسية، والاجتماعية الناجمة عن ذلك، وأثرها النفسي على الزوجة، وعلى الأبناء، أو إجبارها على الزواج من رجل ثري، كما في قصة (غروب). وتلقي القصة الضوء على بعض العادات الدخيلة على المجتمع الشرقي، كما تبدى في المقطع الحكائي التالي: “دعتني لتناول العشاء في بيتها في فترة سفر زوجها، ارتبكت من جرأة العرض، وترددت في القبول، لكني استسلمت….”

قضية مجتمعية أخرى تقدمه قصة (المكافاة)، وهي الضغوط المجتمعية التي تقع على كاهل الزوج، للتفكير في الزواج من أخرى في حالة عدم إنجاب زوجته، وانصياع الزوج لهذه الضغوط، وقد وفِّق المؤلف في اختيار اسم “مرزوق” للابن الذي أنجبته الزوجة الأولى بعد طول انتظار دام تسعة أعوام، باعتبار أن الأبناء رزق من الله سبحانه وتعالى، ولا دخل للبشر في ذلك، كما وفِّق في صناعة المفارقة الساخرة من خلال اختيار عنوان القصة (مكافأة)، وقد فاجأ الزوج زوجته بأنه كان قد تزوج بالفعل من أخرى دون علمها، ولها منها ابنة تبلغ من العمر خمسة أعوام، وقد أحضرهما معه للاحتفال بسبوع ابنه من الزوجة الأولى.

مشكلة بر الوالدين تطرحها قصة (الرداء الأسود)، وتلفت الانتباه إلى ضرورة تواصل الأبناء مع الوالدين بعد استقلالهم، وتكوين حياة أسرية خاصة بهم، ولا سيما إذا سافروا لبلد آخر، أو انتقلوا للعيش في مكان بعيد، تاركين أحد الوالدين يعيش في وحدةٍ وعزلة. فقد عرضت القصة لمرارة الشعور بالوحدة  وأثره على الحالة النفسية. وقد استطاع المؤلف براعة توظيف التقابل بين دلالة اللون الأبيض المعبر عن انقضاء العمر، وحالة المشيب، واللون الأسود الدال على حالة الحزن والألم الملازمة للشعور بالوحدة؛ نتيجة موت الزوجة، رفقة الحياة، وفراق الأبناء؛ لسفرهم بالخارج.

وفي ثنايا السرد تعرض القصة مشكلة أخرى تتعلق بنظرة المجتمع إلى (الأرملة)، و”تعرضها للمضايقات، وشعورها بالصدمة، وخيبة الأمل حتى من أقرب الناس”.

ومن أروع القصص التي تجسد وقائع حياتية متكررة قصة (ساندويتش وحاجة ساقعة) تالتي تعرض لمشهد اجتماعي ملحوظ ومتكرر، وهو جلوس الأمهات على باب لجان الامتحانات في قلق منتظرات أبنائهن حتى يفرغوا من أداء امتحاناتهم. والقصة تعرض ضمنيًّا للمشاعر التي يمر بها الأبناء الذين فقدوا أمهاتهم، كيف يستقبلون فترة الامتحانات، ومن الذي يعوضهم عن حنان الأم في هذه الأوقات الصعبة، فتبرز القصة الدور الإيجابي للأب الصديق الحاني على أولاده الذي يعوضهم عن فقدان الأم. وهي قصة تتناص مع مشاهد مرئية ومسموعة من الواقع الفعلي أمام المدارس في نهاية كل عام.

ومن أطرف القصص التي يمتزج فيها الشعور بالحزن، مع الحس الفكاهي، والإضحاك (قصة البرواز)، حيث تعرض لمشكلة تعامل الآباء مع الأبناء في فترة المراهقة، وفي الوقت ذاته تعرض لمشكلة المراهقة المتأخرة لدى بعض الأزواج؛ حيث يتلصص الابن بصورة مستمرة على (نوال) الشابة الفاتنة زوجة جارهم أثناء خروجها إلى الشرفة، فينهره والده ويعطيه علقة ساخنة، ويأمره بالالتفات لدروسه، وإذا بالمفاجأة عندما تطلب الأم من ابنها إنزال أحد البراويز الكبيرة في غرفة النوم، والذي كان والده يصر على تنظيفه بنفسه، فيجد الابن ثقبًا خلف البرواز يطل على بلكونة الجارة الحسناء. وهذه القصة تتناص مع الفيلم السينمائي (بنت الجيران 1954م)  الذي قام ببطولته فؤاد المهندس، مع زهرة العلا وشادية.

الفضاء المكاني والقص بين المحلية والعالمية

وعلى الرغم من تنوع الأماكن التي تقع فيها الأحداث واختلافها من قصة لأخرى، بين مكان العمل، أو المنزل، أو المستشفى، أو الجامعة، أو أحد الشواطئ، أو إحدى المقاهي، أو مدينة ساحلية، أو شركة، أو شقة، أو غرفة، أو حفل، أو مصحة نفسية، أو حديقة، أو بنك، أو النادي…إلخ. فإننا نجد الفضاء المكاني في المجموعة القصصية يعبر بشكل عام عن أجواء العلاقات الاجتماعية، ، وإن كان التناص في بعض القصص، مثل قصة (عشق الروح)، وذكر اسم أغنية أم كلثوم (حيرت قلبي معاك) في إحدى المقاهي يهيئ القارئ للدخول في الأجواء المصرية، وكذلك اختيار عنوان قصة (أم العواجز) في إشارة إلى مسجد السيدة زينب رضي الله عنها، وتقديم المعتقد الشعبي وفكرة (التبرك) التي سبق أن طرحها يحيى حقي في قصته (قنديل أم هاشم)، ولكن المؤلف يعمد بشكل عام إلى عدم تحديد أسماء الأماكن، واللجوء إلى التعميم الذي يسهم في نفي الارتباط الشرطي بين المكان والمشكلة المجتمعية، ويسمح بإمكانية تكرار وجود مثل تلك المشكلات مع شخصيات عديدة في أماكن أخرى، فهي محاولة من الكاتب للهروب من محلية القص، إذا ما ذكر أسماء الشوارع، أو الميادين، أو الأحياء؛ ورغبةً في إدخال مجموعته القصصية في إطار الأدب العالمي الذي يعالج قضايا إنسانية عامة، تنفك عن قيود الارتباط بمكان محدد، أو بفترة زمنية معينة، أو بمجتمع بشري دون غيره.

وختامًا، بعد هذه الجولة في قراءة المجموعة القصصية الرائعة (نظرة وداع) للإعلامي المتألق حسام أبو العلا، لا يسعني إلا أن أقدم له خالص التهنئة على هذا العمل الأدبي الراقي، وأطيب أمنياتي له بمزيد من الإبداع الهادف البنَّاء. وتمنياتي للقراء بالاستمتاع بالقيمة الفكرية والجمالية للعمل.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: