صلاح المكاوي يكتب : هـي مَـدْرَسَـــة  

بقلم: صلاح المكاوي
 صوتُ مُبتهل إذاعة القرآن الكريم يهزُّ المكان،
تتسامى معه القلوب بسمو الزمان، القشعريرة تسري في الجلود فتلينُ من خشية الله!
يتسلّل ـ من النوافذ ـ الهواءُ الرَّطب مُحمَّلا بالندى لتنتعشَ به الصدور ويملأ النفوس بالبشر والحبور.
تندفعُ الأم إلى غرفة ابنها (نـادر) لتوقظه من نومه،
نادر، ذلكم الغلام الذي استمدّت من حبه نبضَ قلبها، ومن ابتسامته نور عينيها، ومن حيائه دماء وريدها، ومن حضوره الأخّاذ دفء مجالسها، تأتنس به وتهواه، ولايفارق قلبَها هواه، ولم لا وقد رأت في حمله البشريات، وأنه عطاءُ الله لها بعد المِحن والكربات!
تُهدهده أمه قائلة:
أفق يابنيّ كي تتوضأ وتذهب إلى المسجد لتصلي الفجر؛
هيا ياولدي فلم يتبق إلا القليل!
يتمللٌ نادر ويتمطع مُتثائبا: حاضر يا أمي، سأنهض حالا.
وهي بدورها تستحثه وتستنهضُ همته وتشحذ عزمه، تٌلبسه حذاءه وتضبط هندامَه، غير أن الوالد جاء مسرعا ليتدخل قائلا:
اتركيه يُكمل نومه؛ فلم يتبق على امتحانه غير ساعة من الآن، إنه بحاجة إلى الراحة كي يستطيع التركيز والإجابة على أسئلة الامتحان.
تعجبت الأم واعتراها الدهش وبادرته قائلة: وكيف سيجيب عن الأسئلة الأخروية؟!
إننا سنسأل عن عبادته لا شهادته، فشهادتُه له وعبادته له ولنا، أليس كذلك؟!
سكت الأب واعتراه الوجوم، ثم نزل على رغبتها احترامًا لها؛ إذْ لاقى كلامها في نفسه قبولًا واستحسانًا، قائلا في نفسه: لاشك أنها مُحِقة!
توضأ (نادر) مُسبِغًا وضوءه ، يُتمتمُ ببعض الأذكار ثم يتلعثمُ قائلا:
ولكن يا أمي… تعاجِلُه أمه قائلة: ولكن ماذا يانادر؟ انطق!
أخاف الظلام والكلاب يا أمي!
قالت له لا عليك، أمهلني حتى آتيك.
تجلببت سريعا، ثم انتزعت مِرْطًا لها وتلفّعت به، واصطحبته إلى المسجد القريب من البيت تُمسك بكنزها الثمين، يملأ قلبها إليه الحنين، يدلفُ نادر إلى المسجد، تنتظره حتى يفرغ من صلاته ثم تعود به إلى البيت، تملأ السعادة جوانحهما بطاعة الله!
بيْد أن إمام المسجد رقّ لحالها وصار يصطحبه من البيت إلى المسجد بنفسه بعد ذلك.
فأي همة تلك من أم تُهيِّئ ابنها لنيل كبرى الشهادات وتحصيل أعلى الدرجات؟!
وإي امتثال وعزيمة من طفلٍ غضّ الإهاب، لم يطرق بعد باب الشباب؟! فنادر لم يتجاوز العاشرة بعد، فأيُّ خيرٍ يناديك يانادر وأيُّ سَعد؟!
إنها الأقدار تعمل، وإرادة الله تنفذ!
تُسلمه أمه ـ بعد ذلك ـ لشيخٍ أمين يربيه على يديه ويتعهده بالرِّي والسُّقيا كفسيلةٍ خضراء يانعة، إلى أن تقوي وتشمخ وتؤتى أكلها ـ بإذن ربها ـ أعذاقَ وعناقيد خيرٍ في كل أصقاع الدنيا.
يترعرع بعد ذلك في ظل مدرسة ربانية، تلقى فيها علوم الدين قولا وعملا وفقهًا على أرض الواقع، يسبر أغوار الآيات ويستخرج منها الدرر واللآلئ، يطوف به شيخه في الأسواق في بيان عملي، يعلمه كيف يمسح على رأس اليتيم عمليًا، كيف يبيع ويشتري ويتعامل مع الناس، كيف يدعو إلى الله بوسطية واعتدال ومراعاة للحال والمآل، كيف يغوص في أعماق النفس البشرية مُحللا مراداتها دارسًا أهواءها.
يشتدُ عود نادر وينضج عقله ويبلغ رشده، إلّا أن الأقدار كانت تُعبّدُ له طريقًا مُتفرِّدًا يضيق به المكان، وقلّ من يسلكه في هذا الزمان!

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: