شمس ميرال الطحاوي وماكيت طارق إمام – امتداد العمران الروائي

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد

يصنع الإنسان أدبًا ليحتفظ فيه بعالمه الأول الذي التقطته الحواس وتشبّعت به، فانطبع في الإدراك، وتغلغلت صوره في الذاكرة لتظهر في أحلام اليقظة والنوم تطارده، وتدعوه لإعادتها إلى الواقع الذي يتابع سيرورته كل لحظة دون تعاطف مع النموذج المسكون في قصر الشوق الرمزي الذي تحمله مدينة الطفولة.

تخيّل أن شخصًا ما وقعت منه عملة معدنية أو ورقية، هل سيحاول استعادتها بصرف النظر عن قيمتها الرقمية أم سيتجاوز الحدث ويمضي في طريقه؟ وإن اقتنع ببساطة الفقد وسار إلى غايته، ألن يشغله الأمر ويتلفّت خلفه على نحو ما فعل أورفيوس حين التفت ليتأكد أن امرأته يوريديس تتبعه فكانت النتيجة أن غابت عنه ورجع وحيدًا من العالم السفلي؟ هل يترك الإنسان أوقاته التي أدرك فيها هويته، هيئته، أسرته، أحبته، الحركة والسكون، الإقامة والترحال، العلامات التي خطّها ومحاها على الرمال، أشجار البان الخضراء التي تنادي بصره في الفضاء المترامي، مثلما يهديه النجم المنير لمضارب أحبته؟ هل بإمكانه العودة دائمًا إلى أول منزل، ذاك البيت الذي جمعته فيه بحبيب لحظة لا تغادر المخيّلة؟ وإن عاد هل سيجد ما ترك على حاله؟

لابد من سبيل تجعلنا نواصل استعادة تجاربنا، والاستمتاع بها مع آخرين اشتركنا معهم في معايشتها، أو طرحها على أناس لم تدركها، فيحدث بيننا وبينهم تعارف يضيف لخريطة تكويننا البشري بعدًا وعمقًا، لابد أن نقول للإنسانية الممتدة طوليًا ودائريًا أن لنا أيامًا غير منظورة، أننا نتغيّر مثل الوقت، وأن هذا مؤلم لنا لكنه إضافة وثراء، لأن وجودنا ليس لحظة عالقة في التاريخ إنما هو خلية متجذّرة في الأمكنة، منسابة في التوقيت، ومن يحاول إدراك بعض حقيقتنا عليه أن يتأمل التراث الرمزي الذي يحتوي تجاربنا.

الوجود الرمزي، أو الفنون، أو الأشكال التعبيرية لغة تماثل أساليب حياتنا، هكذا يرى أرنست كاسيرر في تفسير المدارس الفنية، ولوسيان جولدمان في تحليل الأبنية الجمالية للأنواع الأدبية، وقديمًا تحدث حازم القرطاجني عن هذه الفكرة حينما رأى أن الوعي البياني العربي اتخذ من عمارة الخيمة مثالًا لعمود الشعر، وأن القوافي هي حرّاس أبيات القصيدة.

اليوم تتعدد اتجاهات الإبداع الروائي لتحمل الرؤى السردية المتنوّعة في تجلياتها، وهي تحاول أن تقتنص قوانين المتغيّرات الحضارية المتسارعة منذ أن اتجه العقل العالمي المعاصر للقياس الرقمي في التعبير عن مؤشر الحياة الصاخب من منطلق أن ما لايقاس لايدخل في حساب التطوّر العلمي، وأن المعايير التقنية للإنتاج الحضاري كافة لا تحددها سوى المقاييس الغربية، وأن النموذج العالمي هو ما يرسخه الشمال، وأن ما تراه المؤسسة الثقافية في الغرب من صور مصنوعة للحضارات الأخرى هو النموذج الذي يجب تصديره لتلك الحضارات مع ما يصدر إليهم من بضائع لازمة أو من لزوم ما لايلزم.

هنا يبحث الروائي عن صيغة إبداعية تعبّر عن اللحظة وتكشفها في الوقت نفسه، وهذا ما نجده في رواية أيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوي، ورواية ماكيت القاهرة لطارق إمام، ومشكلة المبدع أن النموذج الذي يكتب في إطاره هو ناتج السياق الحضاري بدرجة كبيرة، وأن المنتج الجمالي محكوم بمعايير السوق الثقافي من حيث التداول والانتشار، والنجاح المحسوب بعدد الجوائز ونسخ البيع والمراجعات وتردد العناوين في بورصة الاستهلاك الأدبي، فالإبداع يخضع لمعايير تفرض نفسها على الذوق الجمعي من ناحية وتمارس السلطة التجارية على حركة رواج العمل من ناحية أخرى.

هذا لا يعني أن المبدع يستسلم لقائمة التوصيف التي تجيز الأعمال وتمنحها صك النجاح بترشيحات الجوائز التي لم تعد تكتفي بمرحلة واحدة إنما أصبحت متتابعة من التصفيات كما يحدث في مسابقات كرة القدم ذات الطابع التنافسي الممتد طوال العام، لم يصل الأمر بالأديب أن يكون بوقًا لمؤسسات الدعاية كما يحدث في كثير من المسلسلات الدرامية، ولاشك أن كثيرًا من المبدعين يمارسون النقد الحضاري بوعي وهم يضعون الخطط الفنية لإنتاج أعمالهم بما يمنح تلك الأعمال مصداقية يواصل بها الأديب كتابة سيرته الناصعة.

وبدرجة ما يمكن القول إن الجوائز التي تسيطر على الدوري الإبداعي تحاول أن تتذرع بمصداقية تستمدها من مغازلة الأعمال التي تتجلّى فيها قدرة المبدع على التعامل الجدلي مع المنظومة التي ترعاها المؤسسات الاقتصادية، إن المبدع يتمتع بدرجة عالية من الذكاء والذاتية، لكنه مضطر إلى أن يتأمل ما في وعيه بعين، وعينه الأخرى على اتجاه السباق الرقمي في الساحة الإبداعية التي تتحكّم فيها أسواق المال العالمية.

في رواية أيام الشمس المشرقة يجد قارئ ميرال الطحاوي الخط الإبداعي للكاتبة مستمرًا مع التطوّر الجمالي الذي تدعّم به وجودها الروائي من جهة، والنضج الفكري الذي يتجاوز التقاط المتغيّرات الثقافية إلى اقتناص الاغتراب الجوهري العميق الذي تعانيه إنسانيتنا المعاصرة عبر الحدود من جهة ثانية، ميرال تعبّر عن الغرق الحقيقي والمجازي الذي تتعرض له اللحظة الحضارية الآنية، وإذا لم ينتبه العقل الواعي لمنحنى التدهور الروحي الذي تعاني منه البشرية الآن فلن تكون هناك سفينة نجاة تنقذ إنسان ذاك العصر المغترب، أيا كان مكانه وثقافته بعد أن سيطرت الشيئية المدعّمة بالتسليع الحسابي على مصائر الرؤوس الخراب، المدنية المعاصرة تعاني من التيار الجارف الذي يلقي بمصداقية حضارتنا  في قاع محيط القيم.

تبدأ رواية ميرال بقتل مجاني لشاب يمثّل الجيل الثاني من المهاجرين، وتستمر المرويات السردية عارضة أحداث مماثلة لضحايا مجتمع عشوائي ممزق يعيش في الهامش، لا فرق فيهم بين الشرقي والجنوبي، ومن لديه رؤية من أهل الشمال يدرك أن الأحوال لا تختلف، وأن المأزق الحضاري يشمل الجميع، وتنتهي الرواية بالسفينة عين الحياة محطمة بالمهاجرين، والإعلام يذيع مباراة كلامية يتنافس فيها أصحاب الآراء المحسوبة عن المسئولية الضائعة بصدد الأرواح المغدورة، والمثقفة الأكاديمية حائرة بعد أن غدرت بها المؤسسة الجامعية الشمالية وحولتها من ذات تحلم بأن تكون صاحبة فكر إلى مؤدية لسلعة تبحث لها عن المشتري الذي يفرض احتياجات غزيزية نمّاها الترويج التجاري الذي يفرض نموذجه على أقسام الدراسات طبقًا للتصنيف الحسابي لها في نشر بضاعته، وبالطبع تكون النتيجة إغلاق برامج الإنسانيات، وتحويل المبعوثين إلى أدوات تقنية أشبه بتطبيقات تؤدي أدوارًا محددة نتيجة لوقوعها في تصنيف يفرض عليها رؤيته بما يجعلها تفقد الثقة في إمكاناتها وبالتالي تفقد إرادتها أيضًا، إن الرواية تقوم على فكر نقدي لمسار حضارتنا، وتؤسس جماليتها التشكيلية من شخصيات وأحداث وفضاء وعلاقات درامية ومزاوجة بين الأزمنة، وتمثيلات الاغتراب والمعاناة عبر الأمكنة، بما يعكس التمزق النفسي وسيطرة النموذج الشهواني على أنماط الحياة.

وإذا كانت الأكاديمية الشمالية تفرض نموذجها الثقافي على المغترب مكانيا في رواية أيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوي فإن التقاليد الثقافية المستوردة تسيطر على صياغة المعايير الجمالية لرؤية صانعي الثقافة داخل أحداث الدراما في رواية ماكيت القاهرة لطارق إمام، لايوجد فرق كبير بين الأستاذة “هانا ميلر” عند ميرال وشخصية “المسز” عند إمام، فكلتا الشخصيتين رمز  لهيمنة النموذج الغربي على المثقف الشرقي، وفي حين تبدأ أيام الشمس المشرقة من الغربة المكانية أو المكان الآخر، فإن ماكيت القاهرة تبدأ من الغربة الزمانية، أو الزمان الآخر، ومعظم روايات الزمان الآخر تميل إلى الديستوبيا – بعد أن كانت تكرّس للتحليل النفسي – فمعطيات الحاضر على المستوى العالمي تضع المبدع أمام مسئولية كشف قناع المدنية المادية التي لا تمتلك رؤية معرفية تقدّر المقوّمات التي حاولت بث النموذج الاستناري في الثقافة العالمية، وتستكمل رواية ماكيت القاهرة المشروع الإبداعي لطارق إمام من خلال الرؤية التي عرض جوهر دستورها في عمله الأول “طيور جديدة لم يفسدها الهواء” فهو يبحث عن التجريب الذي يحلل أدوات الإبداع نفسها، لذلك فهو يهتم كثيرًا بما وراء السرد، ويلقي الضوء على العملية الإبداعية بوصفها المنطقة التي تحتوي الوجود الحقيقي للأديب، مثلما يشغل مفهوم الشعر مساحة محورية في قصيدة النثر، وهذا شائع في الأدب التجريبي.

صناعة ماكيت المدينة تستعيد مفهوم الوقوف على الأطلال المؤسس لمرجعية الإبداع العربي بوعي جمالي، فالفن اقتناص لحظات ضائعة وهاربة من السياق الاجتماعي المنساب في حركة الزمن، تموت التجربة في الواقع ليحددها المبدع ويعالجها بالتصوّر والتصوير، والقص قطع والسرد ضم، ويستعمل الروائي الأقاصيص المهملة في التجربة الواقعية، بوصفها خلية تحمل سمات الجسد المجتمعي بمقوماته وأمراضه، لذلك فالإبداع نوع من القتل الإشاري، أي التعبير عن تجربة خرجت من سوق الواقع، والقتل الإشاري يمارسه المبدع المجدد وهو يسعى للتخلص من التقاليد المقيّدة للتكوين الإبداعي، وهذا ما يجده القارئ في رواية ماكيت القاهرة التي تعد تطويرًا سرديًا لهذه الفكرة المركزية في أعمال طارق إمام السابقة بخاصة “هدوء القتلة” التي جمعت بين الواقعية التسجيلية الحسابية والفانتازيا اللامنطقية بدرجة كبيرة في التعبير عن علاقة المثقف بعمران مدينته، تلك المدينة التي تتفرع في ثنائية هندسية أحد طرفيها المعمار الهندسي الثقافي البنياني المحيط بنا والثاني المعمار البياني الجمالي الذي تنطبع فيه رؤيتنا للعالم، أي أن الكتابة هي رهان على امتداد الحركة العمرانية بين الواقع والفن، من منظور رمزي تنطلق الدراما الروائية في ماكيت القاهرة لتعبّر عن رؤية أربعة أجيال للمدينة (نود – بلياردو – أوريجا – مانجا) فالنمط الثقافي يتحرك نحو الشرق متجاوزًا المرجعيات التراثية المحلية والشمالية واللاتينية ولكن بإدارة المؤسسة الثقافية الغربية التي تسيطر على اللاوعي أكثر من هيمنتها الفعلية على الوعي، هنا يحاول طارق إمام نقد العلاقة الجدلية بين حرية المبدع في التعبير عن رؤيته وسطوة التقاليد المستوردة، ويختتم الرواية بمراوغة المبدع لسلطة التقاليد الفنية الوافدة من الشمال، مؤكدًا أن الحياة لها أكثر من منظور مهما بدا أن المبدع يستجيب للمعايير المطروحة من المؤسسة الثقافية العالمية، كان المؤلف الضمني في رواية ماكيت القاهرة يلاعب مؤسسة الجوائز العالمية في البنية السطحية للرواية لكنه في البنية العميقة كان يلعب مع ثلاثية محفوظ، رواية الأجيال الشهيرة، وطارق كتب ماكيت القاهرة في سن يقارب كتابة محفوظ لثلاثيته، فامتد العمران الروائي بنموذج مغاير لمفهوم رواية الأجيال، أو ما وراء رواية الأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: