شخصية الكاتب محمد دحروج وانعكاساتها على معاركه الثقافية

خالد الأصور – إعلامي وقاص

هذا هو العنوان والموضوع الذي اخترته للحديث عن التجربة الثرية لناقد الجيل، الأستاذ، وهو عنوان يناقش محورين متشابكين .. شخصيته، ومعاركه.

ونبدأ بالمحور الأول، حول شخصية الكاتب، وهل يجب أن تبدو ظاهرة من خلال النص، أم تأتي مستترة ومضمرة، والحديث عن النفس أمر ينسجم مع حاجتنا الفطرية للتعبير عن ذواتنا، وقد يكون الاختباء وراء النصوص الأدبية متنفسا جيدا للكاتب لكي يروي حاجته ولاستعراض أناه بدون كثيرٍ من الفجاجة.

ولكن، بمجرد أن يضع الكاتب نفسه في النص، فإنه يغامر بقبول فكرته لدى القارئ، لذلك عليه عندما يتناول الأفكار، أن يتوقف تماما عن الدوران حول نفسه، وأمتنُ النصوص وأكثرها إخلاصا للفكرة هو النص الذي يتوارى فيه الكاتب عن أنظار القارئ، فلا يظهر منه إلا مقدار ما يخدم الفكرة .

ففي الأفكار العامة الموجهة لكل الناس يجب ألا يشف النص عن ذكورة الكاتب أو أنوثته أو عمره أو مشاعره الخاصة أو انتماءه لبلد أو حزب أو دين معين.

أما في النصوص التي ينطلق فيها الكاتب من أفكار مسبقة ثابتة، متصلة اتصالا وثيقا بهويته كالجنس أو الدين أو القومية، لمعالجة فكرة أخرى مبنية على هذه الأفكار المسبقة، فيجب ألا يظهر منه للقارئ إلا بمقدار ما يكفي لمعالجة هذه الفكرة فقط لا أكثر. فحين يكتب كاتبٌ مسلم نصا دعويا مثلا، فإنه يجب أن لا يظهر منه إلا كونه مسلما مؤمنا، وأي ظهور لمدى إيمانه، أو لانتمائه لتيار ما دون غيره، هو أمر يفسد النص تماما لأنه يحوله إلى رأي شخصي أو نصيحة متعالية. وأن تكتب المرأة عن المرأة يستلزم أن يشعر القارئ أن من تتكلم هي امرأة، بدون أي تفاصيل أخرى، وبدون ظهور أي أثر لتجربة شخصية.

هذه هي القاعدة، بيد أنه يرد عليها استثناء، وهو أن ظهور ذات الكاتب بوضوح كامل في النص أحيانا ما يجعل الكاتب ونصه يتكاتفان معا لخدمة الفكرة، إذا تطلبت الفكرة ذلك. وهذا ما يحصل مثلا في نصوص السير الذاتية، فطبيعة النص تتطلب الحديث عن الذات بشكل حصري، ولكن حتى في بعض السير الذاتية فإن السارد لا يتحدث بضمير المتكلم، بل بضمير الغائب، كما في نص ” الأيام ” لطه حسين، ونص ” طفل من القرية ” لسيد قطب.

والكتابة عن الذات قد تكون وسيلةٌ لاكتشافها.. حيث إنها تعتبر عملية تجسير بين عقل المرء الواعي وعقله اللا واعي، وحين يسترسل المرء في الكتابة عن نفسه، سيجد قلمه يكتب بنفسه، ويجد أن عقله الباطن قد قرر الإفراج عن بعض مكنونه، والإفصاح عن بعض أسراره التي قد لا يعلمها الكاتب نفسه ولا يعيها.. حتى يعود فيقرأها ثانية فيتعجب إذ تتضح أمام عينيه نسخةٌ محدّثةٌ من نفسه! ومتعة هذا اللون من الكتابة لا تعدلها متعة!

وهذا الحضور لذات الكاتب يحصل أيضاً إذا أراد الكاتب أن يتحدث عن قضية ما، لا يمكن أن يكون فيها مصَدّقا لدى القارئ ما لم يكن هو تجسيدا حقيقيا لهذه القضية. إن نصا يواسي من فقد حبيبته، سيكون أكثر إقناعا بكثير لو كتبه من عاش التجربة،   وكلنا تأثر بقصيدة نزار قباني حول فقد زوجته وحبيبته …….. فنقلها من خلال نصه، لا ترويجاً لنفسه، أو تجارةً بمشاعره، بل إخلاصا حقيقيا لفكرة الفقد.

ومن الطبيعي أن تجلب بعض أفكار الكاتب غير المألوفة عليه الكثير من سخط القراء، وفي سبيل الفكرة يجب على الكاتب أن يتحمل هذا السخط بصدر رحب، فنحن الكُتّابُ نقتحم بيوت الناس أحيانا ونلقي في وجوههم على حين غرة أفكارا تخالف قناعاتهم الراسخة، وتقض مضاجعهم، وتصيبهم بالذعر، لذا لا أقلَّ من أن نتفهم غضبهم ، وتخفيفا من حدة ظهور “الأنا”، وتأكيدا على أن الكاتب لا يمثل ذاته بقدر ما يمثل شريحة يتحدث باسمها.

ولكن حتى في هذه المعارك، من ذكاء الكاتب وموضوعيته وتجرده لفكرته أيضاً، وتخفيفا من حدة ظهور “الأنا”، أن يؤكد الكاتب أنه لا يمثل ذاته بقدر ما يمثل شريحة يتحدث باسمها، وإلى هذا المعنى يشير زكي مبارك بقوله: “قال ألوف من الناس إنني كثير التحدث عن نفسي في مقالاتي، والجواب أنني أصور عواطف قرائي حين أتحدث عن نفسي، فأحوالي وأحوالهم مقتربة كل الاقتراب، وكما أعبر عن نفسي أعبر عن أنفس قرائي، فهم يلقون في حياتهم ما ألقاه من آمال وآلام، ولو كانوا يكتبون أو ينظمون لقالوا مثل الذي أقول”.

وحتى أولئك الذين يختلفون عن الكاتب الذي يكتب منطلقاً من نفسه، ينجذبون إليه، لأنه يغذي فضولهم في استكشاف الآخرين من الداخل، ويوجد لديه -ولا بد- شيء ما.. يلامسهم، ويروق لهم.

ومن الذكاء والتجرد والموضوعية أيضا في المعارك الثقافية، في سياق نقاش حول قضية مطروحة أن يبتعد الكاتب عن الشخصنة واتهام شخص محدد أو مجموعة معينة، وذلك تأسيا بهدي رسول الله ﷺ: ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا، ما لم يكن التحديد لشخص أو مجموعة بعينها لازمة، لأن المعركة هنا بشأن فكرة لا بشأن شخص .. وإذا صح استبعاد الشخصنة في النص الأدبي، فإنه لا يمكن استبعادها مثلا في النص السياسي.

والصراعات الثقافية تحرك الماء الراكد، ومن أشهر معارك الأدب معركة الجديد والمحافظين أو معركة الأستاذ  العقاد وأنصار المذهب العتيق، ومعركته مع الرافعي.

ولا يُذكَر العقادُ إلا ذُكرَتْ معه المعارك الأدبية؛ فقد آض الرجل علَمًا عليها، ولولا العقاد – كما يقول أستاذنا الدكتور محمد أبو الأنوار رحمةُ اللهِ عليه – بفقهه الفني وصلابته في الحق الذي يعتقده ما كانت هناك معارك أدبية. وفي حياة العقاد معارك أدبية جَعَلتْهُ نهمَ القراءة والكتابة – كما ذكر عامر العقاد في كتابه «معارك العقاد الأدبية» منها: معاركه مع الرافعي وموضوعها فكرة إعجاز القرآن، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري ورجعته، ومع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية ومعارك أخرى كثيرة جُمِعَتْ في كتاب عامر العقاد، أقول: المعارك الأدبية في إثراء للغة وإبداع مغاير قد لا يظهر في تلك الحالات من الكر والفر، والناظر إلى ما خلفته تلك المعارك يجد عددا من الكتب قد ألفت عنها، ورسالات علمية لا حصر لها تناولت تلك المعارك الأدبية.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: