سعيد فتحى عبدالله يكتب: الْأَدَبُ وَالرُّوح

الْأَدَبُ وَالرُّوح

سعيد فتحى عبدالله

        

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى بَنِي ادَمَ جَمِيعًا لِمَا خَصَّ أَبُو الْبَشَرِيَّة الْأَوَّل ادَمَ عَلَيه السَّلَامِ بِأَنَّ عِلْمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَعَلَّمَ ادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هٰؤَلَاءٌ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) الْبَقَرَة

وَمَازَال قِطَار الْمَعْرِفَة يَطْوِي مَحَطَّات رِحْلَتِه الْوَاحِدَةَ تِلْوَ الْأُخْرَى حَتَّى كَادَ أَنْ يَصِلَ إلَى مَحَطُّته الْأَخِيرَةِ لِيَجِد كُلّ رَاكِبِي قِطَار الْمَعْرِفَة مِا يشبع رَوْحَه وَعَقْلِه وَيرْوَى ظمْأَه من الْمَعْرِفَة  .

وَسارت رَحْلِة الْمَعْرِفَة حَوْل الْأَلْفَاظ وَالْكَلِمَات حَتَّى وَصَلَتْ قِمَّتَهَا فَوَضَعَتْ الْمَعَاجِم لِلْوُقُوفِ عَلَى مُفْرَدَاتِ الْكَلِمَات وَسَخَّر اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَفْنَوْا حَيَاتِهِمْ لِنَصِلَ إِلَى مَانِحن عَلَيْهِ الْيَوْمَ مِنْ بَلَاغَةٍ فَائِقَة وَسُرْعَة مُتَنَاهِيَة لِلْوُصُولِ إلَى مَعَانِي وَأُصُول الْكَلِمَات.

وَلَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُدُودًا لِلْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ لِإِيسْتَطِيع إنْ يَتَجَاوَزها وَجَاءَتْ الرِّسَالَةِ مِنْ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَتَضَع عَنْ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ نَصْبُه وَتَعَبِه لِأَنَّهُ لَوْ حَاوَل أَلْفَ مَرَّةٍ ان يَصِلَ إلَى مَا بعد هَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّدَهَا اللَّهُ لَهُ  فلَمْ وَلَنْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصِلَ إلَى شَيْء.

وَمَهْمَا بَلَغَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مَنْزِلِة وَدَرَجَة فَلَمْ يَبْرَحُوا أَنْ يَتَجَاوَزُوا هَذِهِ الْحُدُودِ قَيَّد أُنْمُلَة . وَلَقَدْ اجْتَهَدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَازَالَوا وَلَكِنَّهُمْ بِكُلّ مُحَاوَلَاتِهِم هَذِه كَمَثَل الرَّاعِي الَّذِي يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى لَمْ وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُصَلُّوا لِشَيء

وَلَمَّا وَصَلَّوْا لُقْمَة هَذِهِ الْمَعَانِي تَوَقَّفُوا وَأَلْقَوْا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَدَوَاتِ فَاسْتَحَقُّوا مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَمَا قَالَ: (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور)

( فَمَنْ كَانَ لِلَّهِ أَعْلَمُ كَانَ لِلَّهِ أَخْشَى )

الرُّوح . هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْبَسِيطَة وَرَدَتْ فِي الْقُرْانِ الْكَرِيمِ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ مَرَّةً وَجَاءَتْ كُلُّهَا تَحْتَ سَبْعِ مَعَان فَجَاءَتْ مَرَّة بِمَعْنَى مَلَكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا فِي سُورَةِ النَّبَأ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مِنْ إذْنِ لَهُ الرَّحِمُٰن وَقَال صَوَابًا   (38)

وَمَرَّة بِمَعْنَى الْقُرْانِ وَالْوَحْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ (وَكَذٰلَك أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا  مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنَّ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مِنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا  وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) الشورى52

وَمَرَّة بِمَعْنَى جِبْرِيلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنَ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ امَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِين (102)

وَمَرَّة بِمَعْنَى( النَّصْر) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى

( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ )   الْمُجَادَلَة: ٢٢

وَأُخْرَى بِمَعْنَى (الرَّحْمَةِ )كما فى قَوْله تَعَالَى:

{يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يُوسُفَ: ٨٧

هَذِهِ أَهَمّ الْمَعَانِي الَّتِي وَرَدَ عَلَيْهَا لَفْظُ ( الرُّوحِ) فِي الْقُرْانِ الْكَرِيمِ وَالْمُهِمُّ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ نُدْرِكُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ (الرُّوحِ) إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ سَبِيلٍ ان يصل  إلَيْهَا بَلْ هِيَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهَا وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ مَنْ إخْفَاء عِلْمِهَا عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ إنْ يُتَأَمَّل الْإِنْسَان وَيَتَحَقَّقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ بِهَا الْحَيَاةُ وَالرَّاحَة وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِسّ وَالْحَرَكَة وَالْفَهْمِ وَالْفِكْرِ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هِيَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ يُبَاشِرُهَا وَيُعْايشَهَا مُدَّةً حَيَاتِه وَطُولِ عُمْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَصِلُ عِلْمِهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ حَقِيقَتِهَا وَإِدْرَاك مَعْرِفَتِهَا فَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي الْوُصُولِ إلَى حَقِيقَةِ خَالِقُهَا وَبَارِئِهَا .         .

وَتَخْتتم كُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْايَةِ الْفَرِيدَةِ الَّتِي هِيَ بِمَقَامِ سَيْف وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَعْنَاقِ الْعُلَمَاءِ جَمِيعًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَعْلُوَ بِرَأْسِهِ فَجَاءَ قَوْلَ الْحَقِّ

{وَيسۡـلَوْنك عَنْ الِرُوحۖ قَلّ الِرُوح مِنْ أُمٍّر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الۡعَلۡم إلَّا قَلِيلٌا}   85

فَهَذِاِ بَعْضُ مَنْ كُلِّ الْمَعَانِي الَّتِي اسْتَطَاعَ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ يصَلُّوا إلَيْهَا وَمِنْ الْمُؤَكَّدِ أَنْ يصَلُّوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى مَعَانِي أُخْرَى وَلَكِنَّهُ مِنْ الْمُؤَكَّدِ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ وَلَنْ يَصِلُوا إلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْخَلَائِقِ جَمِيعًا عِنْدَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَوْلُه

{وَيسۡـلَوْنك عَنْ الِرُوحۖ قَلّ الِرُوح مِنْ أُمٍّر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الۡعَلۡم إلَّا قَلِيلٌا} ( 85)

الأدب :

وَالْأَدَبُ هُو سِمْو الرُّوح وَعُلُوّ النَّفْس وَرَوْعَة الْمَشَاعِر وَبَلَاغَة الْكَلِمَات وَجَمَال الْمَعَانِي .

الْأَدَب عِنْوَان الْمَحَبَّة وَشِعَار أَهْلُ التَّقْوَى وَلَا جَمَالٌ لِلْقَلْب إلَّا إذَا تَزَيَّنَ بِهِ .  وَكَمَال الْأَدَب لِإِيكون إلَّا بِكَمَالِ الْأَخْلَاق

وَلَك أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْقُرْانَ هُوَ الْأَدَبُ لِذَلِك تَرَى رَوْعِه الْكَلِمَات وَأَشْمَل الْمَعَانِي فِي قَوْلِ الْحَبِيب النَّبِيّ صَلّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   حِينَمَا قَال: (أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي  ) وَتَرَى رَوْعِه الْمَعَانِي فِي قَوْلِ أُمَّنَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَمَا سَأَلْت عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّه ( فَقَالَتْ كَانَ خِلْقَةً الْقُرْانِ)

وَمَا بَيْنَ الْأَدَبِ وَعَظْمِة المؤدِب وَالْمَعْنَى الْكَبِير وَالْأَشْمَل لِلرُّوح تُحَطُّ الرِّحَالُ فَتَجِد الِارْتِبَاط الوَثِيقِ بَيْنَ رَوْعِة الْأَدَب بِسْمِوه وَعُلُوُّهُ وَمَكَانَتِه الَّتِي هِيَ دَرَجَات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ تَأْخُذُ بِيَدِ الْعَبْدِ حَتَّى تَصِلَ إلَى هَذِهِ الرُّوحِ المُرْهَفِه النَّقِيَّة الْعَالِيَةِ الَّتِي تَقْتَرِب بِالْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَبَيْنَ الرُّوحُ الَّتِي لَايَعْلَم حَقِيقَتُهَا إلَّا رَبَّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: