رسالة الكتابة بين منى عارف وسوزانا تامارو
فعل الاتصال في روايتي "مقاعد مخصصة للسيدات" و"اذهب حيث يقودك قلبك" - قراءة مقارنة
الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد
كيف يمكن احتمال الحياة بعد رحيل الأحبة؟ هذا السؤال تطرحه رواية الأديبة المصرية منى عارف “مقاعد مخصصة للسيدات” ورواية الأديبة الإيطالية سوزانا تامارو “اذهب حيث يقودك قلبك”. تعتمد الروايتان على تقنية الرسائل، في الرواية المصرية تخاطب الأم ابنتها التي ابتعدت عنها بالزواج في أعقاب وفاة الجدة (الجيل الأول) وفي الرواية الإيطالية تخاطب الجدة حفيدتها التي هاجرت إلى أمريكا وتركتها وحيدة بعد موت الأم (جيل الوسط).
تخرجت منى عارف في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، حصلت على جوائز عن روايتها “وشوشات الودع” كذلك قصة “الشراع الأبيض” وقصة “أنشودة العصافير” وتحوّلت قصص مجموعتها “روائح الزمن الجميل” إلى دراما إذاعية وبالمثل قصتها “الياقوتة الحمراء” كما جاء في سيرتها الملحقة برواية “مقاعد مخصصة للسيدات” طبعة دار العين بالقاهرة، ومن الواضح أن الأديبة مشغولة بالجغرافيا والتاريخ، أي بتصوير أساليب الحياة في الماضي القريب محاولة أن تضع جينات الهوية في فضاء الواقع الثقافي لتستمر الشخصية عبر الزمان من ناحية، وأن تمنح القارئ صورة بيئتها التي تنتمي إليها، وتعيش في أجوائها من ناحية أخرى لذلك تتخذ من أيام النوات تأريخًا لرسائل الرواية وكأنها تعبّر عما يمكن أن نطلق عليه الجغرافيا النفسية.
صاحبة الرواية الإيطالية “اذهب حيث يقودك قلبك” هي الأديبة سوزانّا تامارو المولودة في ترييستي بإيطاليا يوم الثاني عشر من ديسمبر عام سبع وخمسين وتسعمائة وألف (12 / 12/ 1957م) وكانت دراستها في صناعة السينما وعملت بالإخراج التليفزيوني، ولها أعمال أدبية منها قصص للأطفال، وروايتها “اذهب حيث يقودك قلبك” صدرت عام 1994م، والرواية من أكثر الأعمال رواجًا وترجمة إلى لغات متعددة.
كانت لهذه الرواية أكثر من ترجمة إلى العربية، ترجمها طلعت الشايب ونشرتها دار شرقيات بالقاهرة عام 1999م بعنوان “اتبعي قلبك” وهي ترجمة عن الإنجليزية، ثم ترجمتها أماني فوزي حبشي بعنوان “اذهب حيث يقودك قلبك” ونشرت بالكويت عام 2014م، وعن دار مدارك بالرياض 2018م
يوجد للعمل الأدبي المترجم أكثر من عنوان، لأن الترجمة قراءة من وجهة نظر المترجم.
ترجمة العمل عن الإنجليزية جاءت مطابقة للعنوان في الترجمة الإنجليزية follow your heart والعنوان الإيطالي للرواية هو Va’ dove ti porta il coure هذا العنوان يمكن أن تكون له احتمالات في الترجمة مثل اتبعي قلبك أو اذهب حيث يقودك قلبك، لذلك يتعدد العنوان في الترجمات طبقًا لاختيار المترجم.
وإذا كان اختيار طلعت الشايب متأثرًا بالترجمة الإنجليزية فإن اختيار أماني فوزي حبشي وضع الضمير في صيغة المذكر مع أن الرواية خطاب من مؤنث إلى مؤنث، من الجدة إلى الحفيدة، وللصديق العزيز إسلام فوزي دراسة عن ترجمة أماني فوزي حبشي للرواية بالعدد 17 من مجلة الألسن للترجمة، يرى فيها أن المترجمة اختارت صيغة المذكر لتمنح العنوان الطابع الشمولي. وفي المقابل نرى أن طلعت الشايب احتفظ بالتوجّه النسوي في عنوان الرواية وهذه مفارقة.
في كل رواية ثلاثة أجيال من النساء جدة وأم وحفيدة، الرواية المصرية تنطلق من فعل الاتصال الذي تقوم به الأم، صوت جيل الوسط الرابط بين جيلين، الأم التي عاشت دور الابنة من قبل ولها صلة نفسية عميقة بأمها الراحلة تجعلها تستحضرها كثيرًا وهي تخاطب ابنتها البعيدة، وفي الرواية الإيطالية تقوم الجدة بفعل الاتصال الموجّه إلى الحفيدة التي تعيش في قارة أخرى.
وفي كلتا الروايتين لا يوجد رد من الفتاة التي تمثّل الجيل الثالث، فالرسائل مكتوبة بدافعية الاستمرار في المحافظة على حياة لها جمالها وتاريخها ونقوشها الغائرة في النفس، إن القصة التي تحكيها الخطابات في كل رواية هي الوجود الذي تصر المرأة أن يظل حاضرًا عامرًا على الرغم من متغيّرات الزمن.
عنوان “مقاعد مخصصة للسيدات” فيه تحديد يشير إلى عالم المرأة، إن النساء لهن حضور خاص، وجود مميّز، احتياج للتواصل عبر الأجيال يضم نساء الأسرة الواحدة لتحدث عملية تغذية الهوية واستمرارها، لذلك ترسل الأم خبراتها إلى الابنة وفي الوقت نفسه تستحضر الجدة دائمًا، منذ الإهداء، وفي الكتابة تركّز على شخصية الجدة بوصفها مرسلة الخبرة إليها، تتحدث عن أساليبها في صناعة الطعام، في التسوق، في الاهتمام بالجانب الجمالي مثلما تهتم بالجانب الغذائي، فالمرأة هي التي تضع الثقافة المنزلية، ثقافة الأسرة، ثقافة البيت الواحد الكبير الراسخ في مكانه، والممتد في الزمان، ولو انتقل أهله من قارته إلى قارة أخرى.
إن التعبير الذي اخترته منى عارف عنوانًا لروايتها “مقاعد مخصصة للنساء” يتجاوز كونه عبارة مباشرة نستمع إليها في أحاديثنا اليومية، إنه حاضر في الواقع بالفعل من خلال الترام السكندري والمترو القاهري، بل إنه يشير إلى مقاعد المرأة في مجلسي النواب والشيوخ، لكنه في الرواية لا يقصد استحضار الظاهرة الواقعية فقط بل يصبح كناية، أي يضع التعبير في مجال تصويري.
المقاعد مكان حضور يحدد الوجود وطرائقه، أماكن تحدد أسلوب الحياة، النساء تتجاور معًا، هناك رصيد من الخبرات الاجتماعية والنفسية، لهن إدراك جمالي خاص، لهن أسلوب حكائي ينطلق من أصواتهن ويصل بينهن، لهن المواضيع التي تجمع بينهن، لديهن رغبة في التواصل الذي ينقل صورة الذات الفردية بكل مقوماتها وتكويناتها إلى ذات أخرى سترى تلك الصورة وتتبيّن ملامحها، وتستمد منها أفضل ما فيها لتحتفظ به وتضيفه إلى قائمة مقادير الهوية النسوية.
الكتابة في الرواية النسوية العربية والإيطالية أداة للعبور من الفردية الخاصة إلى الجمعية كي تظل سمات التكوين مستمرة في صيرورة كالنهر، في الوقت نفسه فإن الكتابة تعد أداة مقاومة ضد الوحدة، فأن تكتب الذات لشخصية لها حضورها في عالمها الداخلي العميق، وتجمعها بها حياة اجتماعية وشعورية، يعني أن الكاتبة تعاني من الوحدة في لحظة الترسل، إنها في حاجة إلى تواصل حقيقي غير موجود الآن، إنها تزيح شكل الوجود الفارغ من حولها لتنطلق في عالمها الثري المتدفق الباحث عن إطار يستوعبه، فعل الاتصال بالكتابة يعني أن الواقع عاجز عن إتاحة سبل التفاعل بين الذات والآخر، بل إن كل واحد من البشر في حاجة إلى التواصل مع نفسه، في حاجة إلى حوار يستمع فيه إلى صوته، المرأة أكثر معاناة في ذلك، ربما لأن عالمها الاجتماعي يزداد ضيقًا برحيل أهل المنزل، وربما لأنها أكثر حذرًا في التفاعل مع الآخرين، وربما لأنها أكثر إحساسًا بروح المكان ومتغيّرات الزمان، وربما لأنها اعتادت ممارسة فنون صياغة الحياة على نحو من الكمال، فالأشياء لها أماكنها وأوقاتها، والأزياء لها مناسباتها وألوانها، واحتياجات من حولها طلبات تحاول تلبياتها بدرجة عالية من الدقة، كل هذه التفاصيل تشغل ذاكرتها ومواقيت حياتها، وكلها في حاجة لأن تكون رسالة تغوص المرأة في نفسها لاستخلاص مكوناتها، وتسعى لأن تنقلها لأقرب الناس إليها بخاصة بناتها اللاتي تنظر إليهن بوصفهن الكائن الحيوي الذي سيحتفظ بوجودهن في ذاكرته وفكره وسلوكه، وسيقوم بنقل هذه الرسالة للجيل الآتي، لذلك تنطلق الروايتان من لحظة المرض لأن فعل الكتابة يستخلص مقومات الحياة ويبعثها لابنة أو حفيدة عبر الحدود المكانية والزمانية أيضًا، ويمكن أن تكون الرواية المصرية قد تأثرت بالرواية الإيطالية السابقة عليها زمنيًا وكانت مترجمة قبل إبداع منى عارف بفترة.
تهتم الرواية المصرية بتكثيف جماليات العلاقة بين الأم التي تروي والجدة الراحلة فتتقمص الأم شخصية الجدة وتستعيد سيرتها في سلوك يومي، أمّا الرواية الإيطالية فتتعمّق في العلاقة الإشكالية بين الأجيال، وتستقصي الجدة – التي تكتب الرسائل لحفيدتها – الأخطاء التي ارتكبتها في حق الجيل الثاني، أي الأم الراحلة بما ينقل الرواية إلى أدب الاعتراف فضلًا عن كونها رواية رسائل.
وتلقي الرواية الإيطالية الضوء على السياق السياسي فالجدة عانت في زمن الفاشية حين كانت شابة قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها، والأم التي ماتت في حادث شاركت في ثورة شباب الستينيات التي أعقبت مسرحية جون أوسبورن “انظر وراءك في غضب” وعبّر عنها أنيس منصور هنا في كتابه “مذكرات شاب غاضب” بينما خفتت الخلفية التاريخية في رواية “مقاعد مخصصة للسيدات”.
وإطلاق الرسائل بقلم الجدة في الرواية الإيطالية محاولة لوصل الجيل الثالث الغريب/ المغترب بالأصول، وغياب الأم يقابله حضور المؤلفة سوزانا تامارو بوصفها حلقة الوصل التي لا تفرض رؤيتها بل تترك المساحة المكتوبة لجيل الأمهات.
لقد حررت سوزانا السرد من الذاتية، باعدت بين مرجعيتها الشخصية وقلم صاحبة الرسائل، واكتفت بأن تكون روحًا راعية للجدة، فمنحت السرد درجة عالية من الموضوعية أمّا رواية “مقاعد مخصصة للسيدات” فإن الأم التي تكتب الرسائل قريبة بدرجة كبيرة من جيل المؤلفة نفسها، أي أن الكاتبة اختارت أن تكون الأم التي تقرأ نفسها في فعل الكتابة ممثلة لجيلها، مما أضفى على السرد طابعًا حيويًا فيه الحنين إلى زمن الأم الكبيرة، وجماليّات الحياة التي كادت تختفي في عواصف التغيّر، لتكون الرسائل شاهدة على عصر أحبته الكاتبة نفسها وحاولت رسم صورته أمام مخيّلة الابنة التي بدأت حياتها في بلاد غريبة لا تدرى عنها الأم – التي جابت أوروبا كلها تقريبًا وأخذت معها الابنة في رحلاتها كلها – شيئًا، لقد اختلفت الخريطة والاهتمامات، وأصبحت الأم حريصة على أن ترى الابنة رحلة الحياة التي سارا فيها معا وستكملها الابنة يومًا ما وحدها أو مع ابنتها، كما كانت الأم صاحبة الرسائل من قبل بصحبة أمها الراحلة، وتلتقي المؤلفة مع شخصية الأم داخل الرواية حين تكتب الإهداء إلى الأم، فكأنها تدمج صوتها بصوت الشخصية الروائية التي تكتب رسالتها إلى الابنة في غربتها.
في الرواية الإيطالية لم تكن الابنة تحب اصطحاب الأم في رحلتها، كان صراع الإرادة متحكمًا بينهما، لذلك يظل السرد هو مساحة التعلّم التي يمكن أن تلتقي فيها الأجيال في لحظة مصارحة يحققها فعل الكتابة الذي ينتهي بالوصايا في الروايتين، فالكتابة ذاكرة الهوية ورسالة الذات المبدعة.