رحلة طبية: ما بين نظرية التطور ونظرية جرثومية المرض  

 بهجت العبيدي
إن عملية الوعي عند الإنسان أخذت آمادا طويلة وأزمانا متعددة تخطت ملايين السنوات لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وعلى الرغم من عدم وجود نظرية علمية قاطعة تفسر كيف نشأ الوعي الإنساني إلا أنه من المؤكد أن الوصلات العصبية في المخ واستجابتها للمؤثرات الخارجية هي السبب الرئيسي لهذه العملية المعقدة.
إن الإنسان يستغرق وقتا طويلا للغاية لبناء الدماغ، وأثناء ذلك الوقت، يقوم باكتساب واستيعاب المعلومات من العالم حوله”. قد لا يعزو ذلك فقط إلى الخلايا العصبيّة وحدها، يوجد أيضا نوع آخر من الخلايا يُسمى الخلايا النَجمِيَة تضطلع بدور مهم في تطور الذكاء البشري. لكن القدرة الحاسوبية الهائلة التي تقدمها الخلايا العصبيّة الموجودة في القشرة الدماغية والتي يصل عددها إلى 16 مليار خلية من المحتمل أن تكون العامل الذي يساهم بشكل حاسم في هيمنتنا المعرفية.
تأتي نظريات الوعي من الدين والفلسفة والعلوم المعرفية، لا من البيولوجيا التطورية، وربما لهذا السبب كان عدد قليل جدًّا من النظريات قادرًا على معالجة المسائل الأساسية، مثل: ما القيمة التكيفية للوعي؟ متى تطور الوعي؟ ما الحيوانات التي لديها وعي؟
تعد الفلسفة الوعي هو جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحيّة الأخرى، إذ إنّ الوعي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، وهو ما يطلق عليه اسم (الوعي التلقائي)
وإذا كانت نظرية التطور التي صاغها «تشارلز داروين» (Charles Darwin) في كتابه «أصل الأنواع» عام 1859، جعلت التطور هو النظرية الوحيدة الكبرى في علم الأحياء، إلا أن الوعي (Consciousness) الذي يعد أحد أهم الصفات البيولوجية في الإنسان نادرًا ما دُرِّس في سياق التطور.
ومنذ أن تحصل الإنسان على الوعي وهو في حالة مستمرة لتفسير كافة الظواهر التي يشاهدها، وكل الأحداث التي تقع في محيطه، وهو في مراحل وعيه المختلفة قدم تفسيرات تناسب هذا الوعي الذي تحصل عليه في هذه المرحلة أو تلك.
ومن المظاهر التي خطفت عين الإنسان وقلبه ومن ثم ألحت عليه لتفسيرها بعقله الواعي كانت ظواهر طبيعية مثل المطر أو الرعد والبرق، فجاءت تفسيراته لها في بواكير عقله الطفولي تفسيرات خرافية وساذجة، هذا الذي جعله يهيم في عالم المارائيات لعجزه عن التفسير الحقيقي والعلمي لمثل تلك الظواهر، ولعلنا نتذكر هنا مازال يتردد في المجتمعات الجاهلة من تفسير لها، ولعل ما كان يقال لنا ونحن صغار عن أنه صوت الرعد الذي يحدث إنما هو نتيجة لتصادم جملين أحدهما جمل الصيف والآخر جمل الشتاء في تفسير طفولي ساذج لهذه الظاهرة.
وهناك العديد من التفسيرات الخرافية التي ما يزال صداها يتردد في المجتمعات الجاهلة حتى في عصرنا الراهن، ولعل أكثر ما واجه الإنسان من معضلة كانت معضلة المرض، فلقد كان، ومازال، معرضا لها طوال تاريخ حياته، منذ ولادته التي كانت في الماضي من الصعوبة بمكان كبير، حيث كان يروح ضحيتها العديد من الأمهات والعديد من المواليد، وإن كان من الصعب معرفة وفيات الأمومة في العصور القديمة، فإنه من الصعب كذلك بناء أرقام فعلية لمعدل وفيات الرضع في تلك العصور، ولكن تم إجراء مقارنات بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الحديثة غير الصناعية. تشير الأرقام إلى أنها قابلة للمقارنة مع تلك الخاصة بالمجتمعات الصناعية الحديثة لوضعها في المشهد. في حين أن معدل وفيات الرضع أقل من 10 لكل 1000 في المجتمعات الصناعية الحديثة، فإن المجتمعات غير الصناعية تعرض معدلات تتراوح بين 50 و 200 لكل 1000. بالبحث باستخدام نموذج جداول الحياة وبافتراض متوسط العمر المتوقع عند الولادة 25 عامًا، فإن ذلك يعطي الرقم 300 لكل 1000 في المجتمع الروماني.
ولأن المرض يصاحب الإنسان منذ ولادته، فلقد حظي باهتمام هائل لمعرفة أسبابه والوصول إلى علاجه، وتخبط أسلافنا تخبطا شديدا في تفسير حالات المرض وأنواعه التي هي من الكثرة بمكان كبير، وكما تعامل العقل القديم مع كافة الظواهر باللجوء للماورائيات، تعامل مع ظاهرة المرض بقدر كبير من الخرافة والشعوذة والسحر، فتم اللجوء إلى السحرة والمشعوذين مرة وإلى رجال الدين مرة أخرى لعلاج الأمراض التي تصيب الإنسان، حيث لم يتمكن الإنسان من معرفة أسباب الأمراض إلا في عهد قريب.
ومنذ القدم، حتى في أرقى أنواع الطب القديم وهو الطب المصري والتي أظهرت الأبحاث الطبية فعاليته في كثير من الأحيان، واتفاق التراكيب الدوائية المصرية القديمة بنسبة 37 % مع الصيغ المعروفة وفقًا لدستور الصيدلية البريطاني الصادر عام 1973، كان هناك اعتقادات سائدة بأن الأمراض نتيجة لغضب الآلهة وانتقامها من البشر، وفى زمن الأوبئة، شاعت، كذلك، الخرافات حول قدرة المعبودات على سحق البشر بسبب الغضب الذى أصاب الآلهة نتيجة ما قام به البشر من أفعال أثارت استياءهم ومن ثم ينزل العقاب الإلهي على البشر، ومنذ أقدم العصور، يرجع ذلك إلى خوف الإنسان من المجهول ومن قدرة الآلهة العليا على إنزال العقاب بالبشر، فتقرب الإنسان القديم إلى الآلهة منذ أقدم العصور راجيا رضاها والنجاة من غضبها وسخطها.
وعلى الجانب الآخر كان علم الطب يخطو خطوات هامة في صرحه الذي يتوج الآن بنظريات علمية دقيقة، فلا يمكننا أن نتجاهل محاولات طبية قيمة منذ أبقراط أو أبقراط الكوسي (ولد: حوالي 460 ق م – توفي: حوالي 370 ق م)؛ والمعروف أيضًا باسم أبقراط الثاني؛ هو طبيب يوناني عاش في العصر الكلاسيكي اليوناني. يُعدُّ من أبرز الشخصيات في تاريخ الطب عبر التاريخ، وهو سابع الأطباء العظام في تاريخ اليونان، من آل أسقليبيوس الذين بدأوا بالأخير وخُتِموا بجالينوس المُلقب من قبل الرازي: بـ “ثاني الفَاضِلَيْن”، بعد أبقراط الذي سُمِّيَ لدى العرب بـ “الفاضل”، تكريمًا له عند ذكره. وهو “أبو الطب”، كما لَقَبَهُ العرب ثم شاع تلقيبه به في العالم حتى لا يكاد ينازعه على هذا اللقب أحد ممن سبقوه أو لحقوه، اعترافًا بإسهاماته في المجال الطبي.
هذا الطريق العلمي هو الذي استطاع أن يروض الأمراض التي كانت تفتك بالإنسان ويصبح أسلوب العلاج للغالبية العظمى من سكان كوكب الأرض.
وكان نتيجة طبيعية لمشوار طويل للعلماء عبر التاريخ أن يتوصل علم الطب – ويعترف الإنسان البسيط بما يتوصل إليه العلماء – إلى الأسباب الحقيقية لتعرض الإنسان للأمراض فكانت:
نظرية جرثومية المرض والتي يطلق عليها أيضًا نظرية مرضية الدواء هي نظرية تفترض أن الميكروبات هي سبب العديد من الأمراض. وعلى الرغم من أن نظرية جرثومية المرض كانت خلافية ومثيرة للجدل عند اقتراحها لأول مرة، إلا أنها النظرية العلمية المقبولة حاليا ومنذ أواخر القرن التاسع عشر وتعد الآن جزءًا أساسيًا من الطب الحديث وعلم الأحياء الدقيقة الإكلينيكي، وقد أثمرت عن ابتكارات عظيمة الأهمية مثل المضادات الحيوية والممارسات الصحية.
لن ندخل كثيرا في تفاصيل النظرية، ولا إلى الإرهاصات الأولى لها والتي ذكرت في كتاب عن الزراعة (On Agriculture) لماركوس ترنتيوس ڤارو (Marcus Terentius Varro) (المنشور في سنة 36 قبل الميلاد)؛ حيث ورد به تحذير من اختيار مكان للمسكن بالقرب من المستنقعات:
«…نظرًا لتوالد بعض المخلوقات الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجردة والتي تطفو في الهواء وتدخل الجسم من خلال الفم والأنف وتسبب أمراضًا خطيرة.» نقول لم يعد هناك من يناقش أو يجادل في هذه النظرية، ولا يمكن بحال من الأحوال، أو فلنقل إنه من سابع المستحيلات أن يجادل طفل صغير يعيش في عالم اليوم في مقارنة بين ما كان يعتقده الأقدمون من أسباب للمرض وبين ما تقدمه نظرية جرثومية المرض. فهل يمكن لعاقل اليوم أن يزعم أن العفاريت وراء انتشار جائحة فيروس كورونا، أو أن غضب الآلهة هو سبب ظهور فيروس جدري القرود الذي أخذ في الانتشار في العديد من الدول وفي مقدمتها الدول الأوروبية؟!.
والذي لا شك فيه أن هؤلاء المنتفعين من الفهم القديم لأسباب وقوع المرض من فئة الدجالين والمشعوذين والسحرة لم يكن ليرضوا عن ظهور واكتشاف والوصول لمثل هذه النظريات العلمية، وذلك لأنها تقف في سبيل عملهم وتقطع عليهم سبل عيشهم الرغيد والذي يتحصلون عليه من المساكين الذين يقعون فريسة تحت أيديهم.
وقس على ذلك، عزيزي القارئ، كل نظرية علمية تحطم الأوهام التي يرسخها كل صاحب مصلحة في نفوس البسطاء، فهل تعتقد أن هؤلاء يمكن أن يفتحوا الطريق لنور العلم؟ أم أنهم سيحاربون بكل ما يملكون من قوة أي نوع من إنارة العقل بالعلم، وسيقفون عقبة أمام أي تقدم للعقل العربي الذي مازال خاضعا للأساطير والخرافات ليس في المجال الطبي والعلمي عموما فحسب، بل في عديد مجالات الحياة، هذا الذي يضع عبئا كبيرا على عاتق كل مفكر ومثقف عربي لانتشال هذا العقل من الوحل الذي مازال يعيش فيه.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: