دينامية الانزياح (1)
د. رجب إبراهيم
يعد الانزياح أسلوبا بلاغيا مثيرا كونه يحدث أثرا وتأثيرا دلاليا لدى المتلقي، فيأخذه إلى فضاءات أكثر رحابة، وانعكاسات أبعد عمقا من ناحية المعنى والدلالة، فهو ينظر إلى الوظيفة اللغوية بوصفها وظيفة تفاعلية بين المبدع والنص والمتلقي، وليست مجموعة من القواعد التي تتعامل مع اللغة على أنها قوالب لا يمكن تغييرها ولا الخروج عليها وعنها.
إن الانزياح يُحمِّل النص من الدلالات التي لا يمكن أن يهتدي إليها المتلقي إذا سلك سبيل الصورة النمطية العادية المألوفة وغير المنزاحة، ويكون الانزياح أبلغ ما يكون حين يتعلق الأمر بالنص القرآني وهو يقدم الصورة القرآنية فتكون بانزياحها أبلغ في الدلالة من نطق جميع الناطقين مما سواها من الصور العادية.
وفيما يخص الدافع إلى هذا البحث فإنما حدانا إليها حب بالأسلوب القرآني الذي لا يضاهيه أسلوب، ولا ينازعه منوال. ثم رغبتنا في تتبع آي الذكر الحكيم وما فيها من أبعاد دلالية، وزوايا تعبيرية حين تخرج عن السياق اللغوي والدلالي المألوف إلى دلالات عميقة، ومعاني بعيدة، عن طريق الانزياح في البنى التركيبية لجزئياتها المتراصة بغرض التأثير النفسي، والتغيير الانفعالي لدى المتلقي.
ولهذا؛ فقد انبرى القلم، وتاقت النفس، وارتفعت الهمة للولوج إلى تلك الظاهرة وأثرها الدلالي في القرآن الكريم، متخذين من المنهج الوصفي التحليلي منهجا لنقف به على الأسباب، ونزيل به ما علق من القشر باللباب، ونفسر ما ورد من انزياح دلالي في آي الذكر وفصيح الكتاب.
وتكمن وظيفة الانزياح في جماليته التي تحدث تأثيرا نفسيا لدى المتلقي، وهو لا شك منتشر القرآن الكريم بصورة واضحة، وهي تعطينا دورا تعبيريا، وأثرا جماليا في سياقاتها الكلامية، وفضاءاتها الخطابية.
وهو وسيلة من وسائل الإعجاز اللغوي والدلالي في القرآن الكريم، ويعكس في الحين نفسه قدرات اللغة العربية ووسائلها في نقل المعنى إلى المتلقي والكشف عن امتدادات أخرى في النص القرآني.
ولو حاولنا أن نلتمس السبب بحق لوجدناه قريبا غير بعيد، إذ إن الانزياح يعني الانحراف بالاستعمال اللغوي وهو يعد أحد ركائز الدراسات الأسلوبية الحديثة في دراستها لتحليل الخطاب، متخذة في ذلك وسائل، وأنماطا تتعلق بالبنى التركيبية من حيث العمق والتأثير، وتجاوز مستوى اللغة اليومي، وهذا كله يحتاج إلى تناسقية تكاملية بين البُنى اللغوية من ناحية والبُنى الإبداعية من ناحية أخرى، وأثر تلك التناسقية في نفس المتلقي.
والقرآن الكريم يحمل في طياته وبين دفتيه رسائل عديدة، ونحن مأمورون بتدبرها وكشف بعض أسرارها، ومحاولة الوصول إلى شعفتها، ولعلنا في هذا البحث نقف أمام بعض صور الانزياح في آيات الذكر الحكيم لبيان العمق التعبيري في بيانه من خلال تحليل البنية اللغوية تحليلا يبتعد في مضمونه ووسائله عن التحليلات السطحية وينحرف عنها موليا وجهه شطر التحليلات العميقة التي تأخذ بأيدينا إلى معان قد تكون هي المرادة والمرومة من النص القرآني الكريم رائبين بهذا صدع المعنى قدر الجهد.