دلالة (لن) على معنى الدعاء
بقلم : الدكتور تامر عبد الحميد أنيس
ليس من اليسير لنا إثبات معنى لدال من دوال العربية أو نفيه عنه ابتداءً؛ لأنَّ ذلك لا بدَّ أن يستند إلى مشافهة ومخالطة لأبنائها الخلَّص، ولكنَّ المتاح في هذا الباب هو مناقشة أقوال العلماء ومستنداتهم على هدي من أصول صناعة العربية وضوابط فقه اللغة.
ومن الدلالات التي اختلفوا فيها دلالة (لن) على الدعاء، بمعنى أنَّ الفعل المضارع المنفيَّ بها هل يصح أنْ يراد به الدعاء كما أنَّ الفعل الماضي المنفي بـ(لا) من غير تكرار يفيد الدعاء؟
حكى ابن السراج عن قوم إفادة (لن) للدعاء فقال: «وقال قوم: يجوز الدعاء بـ(لن) مثل قوله: ﴿فلن أكون ظهيرًا للمجرمين﴾ [القصص: 17]، وقال الشاعر:
لن تزالوا كذالكم ثمَّ لا زِلْتَ لهم خالدا خلودَ الجبال
والدعاء بـ(لن) غير معروفٍ، إنما الأصل ما ذكرنا، أنْ يجيءَ على لفظ الأمر والنهي، ولكنَّه قد تجيءُ أخبار يقصد بها الدعاء إذا دلت الحال على ذلك» [الأصول لابن السراج 2/171].
وهذا المعنى الذي حكاه ابن السراج عن قوم اختاره ابن عصفور، والسيوطي، وردَّه ابن مالك في التسهيل، وأبو حيان في قوله: «ولا يكون الفعل معها دعاء خلافا لقوم، حكاه ابن السراج واختاره ابن عصفور» [ارتشاف الضرب 4/ 1644]، وكذا ابن عقيل في المساعد حيث يقول – عند قول ابن مالك «ولا يكون الفعل معها دعاء» -: «وذلك لأنه لم يستعمل من أدوات النفي في الدعاء إلا(لا) وحدها» [المساعد على تسهيل الفوائد 3/67]، ونص السلسيلي أيضا على عدم استعمال غير (لا) من حروف النفي في الدعاء ثم قال: «وقيل إنه معها يكون دعاء واسْتُدِلَّ بقوله تعالى: ﴿فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ وفي هذا نظر، لأن هذا خبر لا دعاء» [شفاء العليل 2/922].
كما أن ابن هشام الأنصاريَّ ردَّ هذه الدلالة في شرح قطر الندى، حيث يقول: «ولا تقع (لن) للدعاء خلافا لابن السراج، ولا حجة له فيما استدلَّ به من قوله تعالى: ﴿قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ [القصص: 17] مدعيًا أنَّ معناه فاجعلني لا أكون، لإمكان حملها على النفي المحض، ويكون ذلك معاهدةً منه لله سبحانه وتعالى ألا يظاهر مجرمًا جزاء لتلك النعمة التي أنعم بها عليه» [شرح قطر الندى ص 58].
ولا أدري ما الذي حمل ابن هشام على نسبة القول بدلالة (لن) على الدعاء إلى ابن السراج مع أن عبارته المنقولة عنه آنفًا تصرح بعكس ذلك، لكنَّ العجيب أنَّ ابن هشام عاد وأثبت دلالة (لن) على الدعاء في مغني اللبيب غير ناسب إياها هذه المرة إلى ابن السراج، فقال: «وتأتي للدعاء كما أتت (لا) لذلك وِفاقًا لجماعةٍ منهم ابنُ عصفور، والحجة في قوله:
لن تزالوا كذالكم ثمَّ لا زِلْتُ لكم خالدًا خلودَ الجبال
وأما قوله تعالى: ﴿قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ [القصص: 17]، فقيل: ليس منه؛ لأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم، بل إلى المخاطب أو الغائب، نحو: يا ربِّ لا عذَّبْتَ فلانًا، ونحو: لا عذَّبَ الله عمرًا (اهـ)، ويرده قوله: ثم لا زلتُ لكم خالدًا خلودَ الجبال» [مغني اللبيب بتحقيق مازن المبارك ص 282].
ورواية بيت الأعشى المذكور في ديوانه هي (لا زلتَ لهم) [انظر: ديوان الأعشى بتحقيق محمد حسين ص 13، والصبح المنير في شعر أبي بصير صنعة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ص13]، وعليها فلا شاهد فيها لابن هشام على إسناد
فعل الدعاء إلى المتكلم، فيبقى رد معنى الدعاء في الآية الكريمة بلا معارض.
وقد اختار السيوطي رأي ابن عصفور الذي رجحه ابن هشام في المغني، حيث يقول: «وهذا القول اختاره ابن عصفور وهو المختار عندي؛ لأنَّ عطف الدعاء في البيت قرينة ظاهرة في أنَّ المعطوف عليه دعاء لا خبر» [همع الهوامع 2/288]، وما ذكره ليس بلازم أولا لأنَّ المسألة مختلف فيها فمن العلماء من أجاز اختلاف المجملتين المتعاطفتين خبرا وإنشاءً، وعلى قولهم فلا قرينة فيالبيت على إفادة لن الدعاء، وثانيًا لأنَّ امتناع عطف الخبر على الإنشاء والعكس عند من منعه إنَّما يكون إذا كانت الجملة متمحضة للخبرية أو الإنشائية بأن تكون خبرية لفظًا ومعنًى أو إنشائيةً لفظًا ومعنًى، فلا يمتنع العطف في البيت مع حمل جملة (لن تزالوا) على أنَّها خبرية لفظًا إنشائية معنًى.
ويعلم من هذا أن ما اسْتُدِلَّ به على إفادة (لن) للدعاء إنما هو من قبيل الخبر، فإن فهم من الخبر الدعاء كبيت الأعشى فلقرينة خارجية كما أشار ابن السراج وليس لأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى كما يريد القائلون بإفادتها الدعاء.
وأما إثبات دلالة (لن) على الدعاء بقياسها على (لا) ففيه نظر، لأن (لا) لا تفيد الدعاء إلا إذا دخلت على الفعل الماضي ولم تكرر، وذلك لإفادتها الاستقبال، والماضي لا يقبله على حاله فصُرِفَ إلى الطلب؛ لأن المطلوب مستقبل، أما (لن) فلا تدخل إلا على المضارع وهو قابل للاستقبال على حاله فلا موجب لصرفه للطلب مع لن بخصوصها، لأنها للنفي والنفي خبر، فإنْ دلَّ دليلٌ خارجيٌّ على إرادة الطلب فكغيره من الخبر الذي يراد به الإنشاء لدليل.
والله تعالى أعلم.