الدكتور أحمد فرحات يكتب : ومضات الحجيلي …

وفي ظني، أن قصيدة الومضة تعد أشبه شيء بفكرة الرباعيات، ورباعيات الخيام خاصة؛ فإن الرباعيات تقرأ لا بترتيب هجائي، ولا تقفوي، ولا معنوي، محدد، ولكنها تقرأ منفصلة عن غيرها. فالرباعية ذات بناء مستقل شكلا ومضمونا، غالبا ما يكون البيت الأول فيها تمهيدا للفكرة الرئيسة التي ينوي الشاعر الإفصاح عنها، والبوح بها، وغالبا يكون ذلك التمهيد في المصراع الأول،
ثم ينشأ في المصراع الثاني تنام ملحوظ في بناء الرباعية، يتبعه الشاعر باستكمال البناء في المصراع الثالث، مع إضافة معنى جديد إلى البناء، وغالبا يكون المصراع الرابع والأخير هو بيت القصيد الذي يرمي إليه الشاعر، وفيه ذروة الحدث الدرامي، ثم يلقى به الشاعر سريعا كالقنبلة التي تفجر كثيرا من الانفعالات الإيجابية أو السلبية في أداء المعنى، عندها يأخذ المتلقي نفسا عميقا ويحدث له –في التو – عملية استرجاع سريعة لمدلول البيتين، حتى يصل إلى النتيجة التي وصل إليها شعوره بالرضا أو السخط، وفي كلتا الحالين يحدث له ما يشبه الإغراء التواصلي ليستشعر برغبة أكيدة في مواصلة القراءة، ومحاولة استكشاف العالم الخفي للرباعية . وهذا ما يحدث تماما للقصيدة الومضة.
على كل حال؛ فقد دأب شعراء العصر الحديث على النظر إلى القصيدة الومضة الغربية، ونسجوا تجاربهم على منوالها، ولا بأس في ذلك، فقد جارى الحجيلي شعراء عصره في امتطاء هذا اللون من الشكل الشعري؛ فكتب في ديوانه ستا وعشرين ومضة شعرية، تفاوتت في طولها وقصرها، وانتظمت جميعا في بنية فنية واحدة، متخذة من الإيحاء والإشارة سبيلا إلى وصول البغية، وأحيانا يلجأ الشاعر إلى الغموض الشفيف، وأحيانا أخرى يميل إلى المفارقة والتكثيف، وفي كلٍ ارتقى الشاعر على سلم الشاعرية للوصول إلى إلقاء النفثة الغاصة في قراره.
ففي الومضة المعنونة بـ(مسافة) يقول الحجيلي:
بين باب القصيد
ونافذة الحلم
تمتد مقبرة الشعراء
وبالنظر إلى السطور الشعرية، مكثفة اللغة، نرى (باب)، و(نافذة)، و(مقبرة) ثلاث كلمات هي المكون اللغوي للومضة، فالباب يشير إلى الانفتاح والانطلاق ولكنه وقع موقع المضاف، والمضاف إليه هنا هو القصيد، وعلماء النحو يخبروننا بأن الإضافة تفيد التخصيص أو التعريف، فكلمة الباب هنا اكتسبت التخصيص، فهو باب للقصيدة، الذي لا ينفتح إلا للحلم الشفيف، والانطلاق إلى ربلة الغيم العميم. والنافذة إنما اقتصرت على الحلم فحسب، وكفى بها !! ثم تأتي الكلمة الصادمة(المقبرة)، بما تحمله من معاني الألم والضياع والعذاب، وموقع المقبرة النحوي يشي بامتدادها وتسلطها على العذابات الدفينة التي يشعر بها الشاعر حتى يأتي بمعنى جديد يضيف إلى رصيده زادا شعريا مداده الألم والحسرة والمعاناة. فالصورة المؤسسة للشاعر هنا هي صورة قاتمة مؤلمة، لأنها صورة لمقبرة ذات أبواب ونوافذ تطل على الأحلام بعيدة المنال، وفيها يرقد الشاعر ممنيا نفسه بأمنيات ربما من المستحيل تحقيقها.
فالنص الحجيلي يتناص مع نص شاعر أموي قديم، صور معاناته وهو يعاقر القصيدة، اسمه سُويد بنُ كُراعٍ العُكليُّ:
أبيتُ بأبوابِ القوافي كأنَّما أُصادِي بها سِرْباً من الوَحشِ نُزَّعَا
أكالئُها حتى أُعَرِّسَ بعد ما يكون سُحيراً أو بُعيداً فأهجَعا
وهي قصيدة طويلة، ولكنْ .. بين النصين مسافة مضمرة، فعند الشاعر الأموي ظاهرة بادية للعيان، وعند الحجيلي مسافة مشابهة لكنه اختزل تجربة سلفه الأموي اختزالا جليا، وتمركزت كلماته المنتقاة بعناية شديدة حول هذه المسافة من المعاناة النفسية الثقيلة التي تنتناب الشعراء إزاء نقلهم لتجربتهم الشعرية في صورة لغوية مكثفة. فبدا التعالق النصي في نص الحجيلي جليا من خلال ممارسته سلطة وجوده، على نص قديم تماهت معالمه في نص حداثي قائم.
فالأداة الفنية في الومضات الحجيلية موجزة سريعة، والمتبقي منها في الذاكرة وفير وغزير، ومحصولها باق بقاء النص. وفي نص مومض آخر بعنوان(دعوة) موجها إلى الصغار حيثما ضحكوا، يقول:
اضحكوا
قبل أن تتبرعم في ذوب أفواهكم
أغنيات الرماد
وصاب الأماثيل
“والقصة” السادرهْ
اضحكوا وامرحوا
قبل أن تتكور هذي الدروب الطليقةُ
في “هوة” ماكرهْ
اضحكوا .. اضحكوا.. اضحكوااااا
فغدا ترتدون على ريش أحلامكمْ
جبة الذاكرهْ
بدأ الشاعر بالجملة الافتتاحية(اضحكوا)، وقد تكررت هذه الجملة ثلاث مرات، وفي كل مرة يضيف الشاعر إليها شيئا، ففي المرة الأولى كان طلب الضحك وكفى، وفي الثانية (اضكوا وامرحوا)، وفي الثالثة اضحكوا مكررة ثلاث مرات، وفي الأخيرة منها اعتمد على الشكل الكتابي الغريب على اللغة العربية، القريب من اللغة الاجتماعية التواصلية العادية، فقال(اضحكواااااا) كذا! .. ففي المرة الأولى التي وردت فيها الجملة المفتاح(اضحكوا) مرة واحدة قابلها بألفاظ ذات دلالة تتناسب مع الطلب الواحد، ففي المقابل الدلالي للضحك استخدم الجملة تتبرعم في ذوب أفواهكم .. و..و..، وفي المرة الثانية كانت الدلالة أشد من الأولى، لأنها تحمل معنى القبر والموت(هوة) ماكرهْ. وفي الأخيرة قابلها بضياع المستقبل من بين أيديهم. وهكذا رأينا التوسع الدلالي في مقابل التكرار اللفظي. ومن ثم، فلدينا ثلاث مقاطع شعرية تبدأ بفعل واحد(اضحكوا)، وتنتهي بقافية ذات روي واحد السادره/ماكره/الذاكره.. وبينها عالم من الدلالة المتخيلة، والنصائح القائمة، للصغار الذين ما رسخت أقدامهم، وما فتئت تنغرس في طينة الواقع الأليم. فالمفارقة تبدو من الفعل الدال على طلب الضحك واللهو والسعادة، قبل أن تتحول الأغنيات المشتعلة بالحب والحماس إلى رماد سحيق، وقبل أن تتفوه الألسن بصاب الأماثيل التي يتمثلون بها في شيخوختهم، وقبل أن تتبلور أمام أعينهم القصة التائهة، في إشارة إلى قصتهم هم أنفسهم مع الأيام والسنين. وقبل أن تنكسر أحلامهم وتوأد جميعا في هوة حالكة ماكرة، وقبل أن تحوك يد الزمن أكفناهم! وهكذا تبدو الصورة عند الحجيلي قائمة على تناقض مبعثه الوجود والواقع والمستقبل، في مفارقة خادعة بين الضحك والمرح، وبين المستقبل المفعم بالأمنيات السوداء. فلم تكن ومضات الحجيلي تسير في نسق طبيعي عادي بل اتخذت من المفارقة والتكثيف واللغة الجديدة القديمة والتناص والمتعاليات النصية طريقا إلى الحداثة الشعرية المبتغاة.
وقد أضافت الموسيقا الخارجية والداخلية للومضة توليدا لدلالات جزئية، تعاضدت مع الدلالة الكلية الجامعة للنص، فقد قامت القافية في الومضة السابقة بدور لافت في إنتاج دلالة التشاؤم والنسيج السوداوي للصورة، فالراء المردوفة بهاء ساكنة أشاعت في النص معنى الحركة والسكون في آن، فالحركة مصاحبة لترديد حرف الراء بشكل إيقاعي منتظم، والسكون ناشئ عن ترديد الهاء الساكنة التي توحي بالضياع والتلاشي والحزن.