دكتورة صفاء مصطفى علي تكتب: دعوى عدم صلة خنز اللحم بالدين، وإنكار خيانة حواء آدمَ عليه السلام
دعوى عدم صلة خنز اللحم بالدين، وإنكار خيانة حواء آدمَ عليه السلام
بقلم: دكتورة صفاء مصطفى علي
قال الإمام البخاري رحمه الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ يَعْنِي «لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا» .
أولا: الشبهتان الواردتان على الحديث.
استشكل الحديث على أصحاب الفكر الحداثي فأثاروا حوله شبهتين:
الأولى: فساد اللحم ونتنه لا علاقة له إطلاقا بملة أو دين أو مذهب، وإنما مرده إلى العوامل الطبيعية كالفيروسات والبكتريا وهذا ما يقرره العقل والعلم الحديث.
الثانية: كيف تخون حواء آدم، والخيانة لا تكون إلا مع رجل، ولا رجل غيره حينئذ؟! وأن خيانة النساء ما كان لها أن تكون لولا خيانة حواء.
ثانيا: القائلون بالشبهتين.
كثر الرافضون لهذه الرواية والمنكرون لها فأثار الشبهة الأولى محمود أبو رية، وعبد الحكيم الفيتوري، ومحمد حنشي، وغيرهم، حيث قالوا: كيف يحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن السبب في إنتان اللحم وتعفنه هم اليهود، على الرغم من أن اللحم كله ينتن ويتعفن، وأن إنتانه لا علاقة له بالدين والمذهب .
ومما يذكر من أقوال هؤلاء ما ذكره عبد الحكيم الفيتوري في مقال له قسمه على محاور فيقول في المحور الثاني:” ينبغي التنبيه هنا بأننا لا نريد الوقوف عند الشطر الأول من الحديث ( لولا بنوا اسرائيل لم يخنز اللحم) حيث تكفي الإشارة السالفة لهذا الشطر من أن فساد اللحم وعفانته لا علاقة له بدين ولا بجهة ولا بلون وإنما تخضع لعوامل قررها العلم الحديث من بكتيريا وفيروسات وغير ذلك مما هو مقرر عند علماء العلوم الحديث، ولعل شطر هذه الرواية منتج من منتجات العنصرية الدينية والملية، لأن رائحة التدافع الملي بين المسلمين وغيرهم خاصة اليهود واضحة وجلية فيه” .
وأما الشبهة الثانية المتعلقة بخيانة حواء فأنكرها الحداثيون منهم المطرودي، في مقال له:” وإذا انتقل النظر إلى الحديث، واستخير التأمل فيه، وُجِد – مع ما تقدم في المقال السالف من مناهضته – راجعاً إلى أمور لا يقبلها الدين، ولا تعترف بها الشريعة، وأولها ما يُوحي به الحديث من أن خيانة بنات آدم ما كان لها أن تكون لولا خيانة أمهن” .
ويستمر في رفضه للرواية حتى يصدر حكمه بأن:” هذه النصوص وأمثالها يرجع إليها تكوين ثقافة أن الأصل في المذكر البراءة، والأصل في المؤنث الخيانة، وهو أمر يكشفه وجه الثقافة الشعبي في موقفها من المرأة” .
ثالثا: الرد على الشبهتين:
الشبهة الأولى: فساد اللحم ونتنه وعلاقته باليهود
1.جناية بني إسرائيل على الإنسانية من بعدهم
إن في سياق الحديث إشارة إلى جناية بني إسرائيل على البشرية إذ لم يكن يخنز اللحم قبلهم، وكانت هذه من نعم الله على الناس، ولو اعترض البعض على ذلك بمخالفته الحس والعلم، فنقول له: نشهد أن البكتريا والعوامل التي تؤثر في اللحم الآن، لكن هل ثبت اتصالها باللحم سابقا؟ إننا لا يمكننا التحقق من تأثيرها في اللحم قبل بني إسرائيل حيث لم يشهده أحد من الناس حتى يقول إنه مخالف للحس.
والحقيقة أننا لا نملك إزاء هذا الخبر الذي صح عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الإيمان به ونحن مأمورون بتصديقه، وهذا خبر عن أمر مضى فكيف يكون مخالفا للحس، وعندنا أخبار كثيرة نقلها لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويورد النووي ذلك بقوله:” قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى نُهُوا عَنِ ادِّخَارِهَمَا فَادَّخَرُوا فَفَسَدَ وَأَنْتَنَ وَاسْتَمَرَّ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ”
2.الخنز عقاب لبني إسرائيل
يرى ابن حجر أن بخل بني إسرائيل وشحهم كان سببا في فساد اللحم ونتنه، فهم أول من ابتدعوا هذا الأمر. يقول ابن حجر حكاية عن القرطبي: “وَالْخَنَزُ التَّغَيُّرُ وَالنَّتْنُ قِيلَ أَصْلُهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ادَّخَرُوا لَحْمَ السَّلْوَى وَكَانُوا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ فَعُوقِبُوا بِذَلِكَ” .
وسياق الحديث يدل على أن نعمة عدم فساد اللحم ونتنه كانت موجودة في دنيا الناس، ورفعت بسبب جناية بني إسرائيل، وإن كان ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر يبقى احتمالا قائما.
3.عقاب غير مألوف.
وذلك أنَّ الله سبحانه أنزلَ على بني إسرائيل المَنَّ والسَّلوى، وجعلها دائمة غير منقطعة، لكنهم خافوا انقطاعَها، ولم يحفظوا وصية ربهم! فادخروها، وكنزوها، فابتلاهم الله تعالى بفسادِها فسادًا سريعًا غير مألوف ولا معتاد.
ويعلل الدكتور زريوخ حدوث ذلك لبني إسرائيل:” أنَّ اللَّحم لم يكن يفسُد على النَّاس قبل بني إسرائيل فسادَه لهم خاصَّة، كما لم يكن يفسد على مَن قَدَّده وادَّخَره مِن الأُمَم الَّتي لم تُنْهَ عن الادِّخار كما نُهيَت بنو إسرائيل. فتغيُّر اللَّحم على ذلك النَّحو الَّذي لم يألفوه مِن سُرعتِه وخبثِ رائحتِه، كان عقوبةً لهم، شَمَل أثرُها مَن بعدهم” .
ويذكر القاضي عياض: “لما نزل على بنى إسرائيل المن والسلوى، كان المن يسقط عليهم في مجالسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، كسقوط البلح، فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم، إلا يوم الجمعة فيأخذون منه للجمعة والسبت، فإن تعدوا إلى أكثر فسد” .
4.طلاقة القدرة الإلهية
وحين نتأمل في هذا الحديث نجد طلاقة القدرة الإلهية فالله جلت قدرته قادر على تهيئة الأسباب التي لا تجعل اللحم يخنز قبل بني إسرائيل، وتجعله يخنز عندهم أكثر من عادته عندهم، ولا أظن أن هذا يتنافى مع العقل، أو ينكره الحس. فكم من قوانين ونواميس كونية تغيرت لأن الله أراد ذلك! كإبطال إحراق النار لنبي الله إبراهيم -عليه السلام- وفلق الله سبحانه البحر لنبيه موسى-عليه السلام- فكان كل فرق كالجبل الضخم وخلق عيسى ابن مريم دون أب وجعله آية للعالمين.
الشبهة الثانية: خيانة حواء
- تحرير لفظ الخيانة موضح للمعنى
إن فهم الاستعمال اللغوي للكلمة ومدلولها يرتبط ارتباطا وثيقا بفهم النص؛ وعليه فلا يمكن لي، أو لغيري، أن تفهم من الحديث أن الخيانة المذكورة هنا هي الخيانة الزوجية، فالزنا لم يقع من زوج نبي قط، ثم إن سلمنا بالخيانة فأي رجل هذا الذي خانت معه حواء آدم؟!
إن الخيانة في أصلها اللغوي ليست مقصورة على معنى الخيانة الزوجية، فقد أورد ابن منظور خون: “المَخانَةُ: خَوْنُ النُّصْحِ وخَوْنُ الوُدِّ، والخَوْنُ عَلَى مِحَنٍ شَتَّى. وأن يؤتمن الإنسان فلا ينصح” .
ومن هنا نستطيع أن نفهم رد الدكتور عبد المهدي حين تعرض للرد على من يتهمون الحديث بمخالفة العقل، وحجتهم هي كيف تخون حواء آدم، ومن من تخونه، ولا رجل غيره حينها؟ فكان رد الدكتور عبد المهدي بأن كلامهم هذا خطأ بُنِيَ على خطأ، وما دام بُني على خطأ فهو خطأ مثله، ويتمثل هذا الخطأ في تفسيرهم لكلمة “خيانة” على أنها الزنا” وإنما معناه أنها خانت آدم، وذلك لأنها لم تمحص الرأي حينما وسوس لها إبليس بالأكل من الشجرة، فراحت تجتهد مع إبليس على آدم تقنعه بالأكل من الشجرة، وكل من لم يجتهد في إظهار الصواب في المشورة فليس بأمين” .
وقد بنى الدكتور عبد المهدي رده على ما ذكره ابن حجر أن الحديث «فيه إشارةٌ إلى ما وَقَع مِن حوَّاء في تزيِينِها لآدمَ الأكلَ مِن الشَّجَرةِ، حتَّى وَقَع في ذلك، فمعنى خيانتِها: أنَّها قَبِلَت ما زَيَّن لها إبليس، حتَّى زيَّنته لآدم» . وذكر ذلك أيضا القاضي عياض فقال:” «إنَّ إبليسَ إنَّما بَدَأ بحوَّاء، فأغْوَاها وزَيَّن لها، حتَّى جَعَلَها تأكلُ مِن الشَّجرة، ثمَّ أتَتْ آدم، فقالت له مِثلَ ذلك، حتَّى أكَلَ أيضًا هو» .
2.عدم النصيحة خيانة
وتأسيسا على ما سبق فإن الخيانة المنسوبة إلى حواء إنما هي خيانة النصح لزوجها، حيث تركته لغوايته، ولم تضطلع بمسؤولياتها تجاهه، وتجاه أمر الله لهما بعدم الأكل من الشجرة. وكل إنسان لا يقوم بحق النصح يعد مفرطا خائنا، وقد جعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النصيحة من الإسلام وهي «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ” . وقد قال ابن الأثير في جامع الأصول: “خيانة حواء آدم، هي ترك النصيحة له في أمر الشجرة لا في غيرها” .
- المسؤولية مشتركة ولا عذر لأحدهما دون الآخر
إن مسؤولية آدم وحواء في الأكل من الشجرة مشتركة، وإن كانت المعصية وقعت من آدم أولا، لكنّ حواء لم تمارس دورها في نصحه وتذكيره بأمر ربه وقد وقع في نفسها من أثر الوسوسة ما وقع لآدم، والقرآن أثبت الأمرين فقال في سبب اقتراف آدم لذنبه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} وقال في مسؤوليتهما معا: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ۞ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ۞ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ…} .
ويظهر أن القرآن أفرد الحديث عن دور آدم في الأكل من الشجرة لعدة اعتبارات:
– إن آدم كان الأحرص والأكثر رغبة في الأكل من الشجرة. ودائما ما يأتي ذكر الشجرة بعد الحديث عن خلق آدم، فكلاهما متعلق بالآخر.
– إن آدم موكول بالقوامة على زوجته فهو المسؤول قبلها.
– إن غواية حواء وقعت بعد غواية آدم فهي شريكة له.
إن الحديث مثار الشبهة فصَّل ما أجمله القرآن وأكد على مسؤولية حواء مع آدم في الأكل من الشجرة” وليس فيه ما يُنافي الخبرَ القرآنيَّ -بحمد لله-، فإنَّ تحريضَ حوَّاء لآدم وترغيبها له في الشَّجرة لا يَتَنافى مع كونِ إبليسَ هو مَن تَسَبَّب بالغِوايةِ لهما ابتِداءً، وأنَّ آدم قد غَرَّه الشَّيطان أيضًا ووَسْوَس له كما وَسْوَس لزوجِه حوَّاء؛ غاية ما جاء في الحديث زيادةٌ تفصيليَّةٌ يَسيرة لم تَرِد في مُجملِ الخَبرِ القرآنِيِّ، ولا شَكَّ أنَّ السُّنةَ تأتي مُفصِّلةً لِما أُجمِل في القرآن، وزائدةً عليه أحيانًا في ما سَكَت عنه ممَّا لا يَنقضُ أصلَه”
- الطبيعية الإنسانية أصلها واحد.
كل النساء جبلن على طبيعة واحدة، ولديهن نفس طبيعة أمهن حواء، لكنَّ هناك تفاوتا في الاستعداد بحسب البيئة، فكلهن لديهن قابلية للخيانة بمعناها العام، كما أن الإنسانية لديها قابلية للجحود والنكران، فقد قال الله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} . فليس كل الإنسان كافرا، ولكن ذلك باعتبار الطبع والأصل، ومثله {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} . فليس كل الإنسان بخيلا، إنما هو الاستعداد الذي يقوى ويضعف حسب المناخ والبيئة.
وقد ذكر السيوطي في معنى: “لولا حواء لم تخن أنثى زوجها: أي:” لولا ما صنعت من تزيينها لآدم الأكل من الشجرة وطاعتها لإبليس في ذلك، وهي أم بنات آدم فأشبهنها بالولادة، ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالقول أو الفعل بحسب حالها، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفاحشة معاذ الله” .