دانة حبر
دانة حبر

بقلم: محمد عيسى
وأنا أَمْخُرُ في بحار الأدب، وأَشُقُّ عُباب شعر العرب، تنَسّمْتُ أريج الزَّهر، وشذا العطر، ومنتهى السحر، فَأَجِدُني في دَوْحَةٍ غنَّاء، بديعة الإنشاء، رفيعة السَّنَاء، فخَشَعَ البصر، وخفق الفُؤاد، وذاب كِياني وانمحى؛ فألقيت على مرافئ الأدب الأندلسي رَحْلي فهُنا (ولَّادَة) وما أدراك ما ولادة، الغادة الطّرُوب، الحسناء اللّعُوب، دُرّة النساء، مُلْهمة الشعراء، بعيدة المُرْتَقَى، بَاذِخَة الذُّرى، والمستكفي وهو المَلِك إلا إنه نُسِبَ إليها، فقيل “والد ولادة”
هى من تقول عن نفسها في بيتين طُرِّزا بالذهب :
أنا والله أصلحُ للمعالي ** وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وأُمَكّنُ عاشقي من صحن خدي ** وأُعْطِي قُبْلتي مَن يشتهيها
ورغم ما قالت وهَامَت هيام الشعراء؛ هى الشريفة العفيفة ، الحَصَان الرَزَان، وهى أيضا مَن تقول:
إنِّي وإِنْ نظر الأنام لبهجتي ** كظِباء مكّةَ صيدُهنَّ حرام
يُحْسَبْن مِن لينِ الكلام فوَاحشاً ** ويَصُدُّهنَّ عن الخَنا الإسلام
وقال ابنُ بسّام في ذخيرته كلامًا أنيقًا رشيقًا، وهذا نصه: “كانت من نساء أهل زمانها، واحدة من أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها منتدى لأحرار المِصْر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يتهالك الشعراء والكُتَّاب على حلاوة عشرتها وسهولة حُجّابها، وكثرة منتابها، يُخْلَطُ ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب”.
والتقى الفكر بالبيان، والشعر بالشعور، والثقافة باللباقة، فكان هناك الوزير العاشق، ذو البيان الرائق، والأدب الفائق، واللفظ الشائق، رقيق التشبيب، رائق النسيب، الأديب الأريب الشاعر (ابن زيدون).
وطغى عشق ولادة عليه ، ومسّ شِغاف قلبه، ونشأ بينهما طوفان من الحب جارف، فاشتعلت القرائحُ بيانا، والتقى الشعر على أمرّ قد قُدِر.
ويهيم الوَلِه الحيران، فيراها في كل شئ، ويتذكرها في كل حين فيُبدِعُ غَرَرَ الشعر العربي وذروة سِنامه، فيقول:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ** والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله ** كأنه رقّ لي فاعتلّ إشفاقا
لا سكّن الله قلباً عقّ ذكركمُ ** فلم يَطِرْ بجناح الشوق خفّاقا
ويقول في نونيته الذائعة الصيت، التى تعالت على القريض، فعند قراءتها وَجَدّتُ ، وليتني لا أُفيق، ومنها:
أضحى التّنائي بديلا عن تدانينا ** وناب عن طيب لُقيَانا تجافينا
بِنْتُم وبِنّا فما ابتلت جوانحنا ** شوقاً إليكم ولا جَفّت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ** يقضى علينا الأسى لولا تأسينا
(يا بوي يا بوي ، والله من فرط الجمال أذوبُ، دا دكتور نفسي يا جماعة)
ولكن، يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى، ويَكْمُنُ الشيطان في التفاصيل، ويَدُسُّ في فؤاد ولادة الأباطيل، وتَنْبُتُ شجرةَ الزّقوم، ويظهر ابن عبدوس، ينصب الحوائل، ويبثُّ الغوائل، وأنَّى له نفسُ شاعر، فهو رَبُّ الختل والغدر، والخديعة والمكر، بل العته والهذر.
وفي كلِّ زمان (ابن عبدوس) يَحْصُد كُلَّ سَنىٍّ من الجوائز؛ وهو قاعد الهمة، عاجز الرأي، مُخَنَّث العزم، ورغم أنفها تأتيه المكرُمات.
وفي كل زمان (ولادة) بدَلَالِها ورقتها، وظُرف هيئتها، وعذوبة ثغرها، وليونة قَدِّها.
وفي كل زمان (ابن زيدون) ومع شريف مطلبه، وسَنِىِّ مراتبه، وخطير سعيه؛ لا يظفر بما يروم، ولا ينال ما يرجو، وهكذا قضت الأقدار بين أهلها، ألَّا يهنأ عاشق ولا يرتوي وامق، ويُبْتَلى المرءُ في مواهبه وقدراته؛ فَتُجْتَزُّ يَدَ ابن مُقْلَة، وتُسَجَّرُ كتبَ ابن رشد، ويُقَطَّعُ ابن المًقَفَّع، (وسوابقُ الهمم لا تخرق أسوار الأقدار ).