خواطري في كأس العالم 2022

الأستاذ الدكتور مصطفى شعبان
لستُ من عُشاق الساحرة المستديرة ولا من مُشَجِّعي إحدى الفرق المحلية ولا الدولية، ولستُ ممن يَهيمُ في التراب الذي تتدحرج عليه ولا في الأقدام التي تصطك لتحصل عليها، وإنما لا أستطيعُ أن أدفع عن نفسي الشعور الجامح بأن تلك النسخة من كأس العالم لكرة القدم ذات مذاق خاص متميز، ربما لأنها تُقام لأول مرة على أرض عربية، أو لأن للفرق العربية فيها قدَمَ فَوزٍ وحضورًا مُشَرِّفًا بين الأندية الأوربية العملاقة.. ربما لا أعلمُ….!
لكن الذي أعلمه أنني سعيدٌ بأن أضخم حدث ترويجي عالمي قد جاء بِحَدِّهِ وحديدهِ إلى بلادنا فإذ به يكشف للعالم ما كان مخفيًّا عن عَمْدٍ ومستورًا مع سبق الإصرار مِنْ أخلاق أهل الإسلام وسماحتهم وحُسن ضيافتهم وثباتهم على مبادئهم ورفضهم لأخلاق الشواذِّ وشَواذِّ الأَخْلاقِ، مع لُطْفٍ في عرض مبادئ الإسلام وشعائره بذكاءٍ لامِعٍ ونجاح بارع، ورُبَّما لو علم المنظمون لتلك النسخة أن هذا سيحدثُ لفكروا ألف مرة قبل أن يمنحوا الدولة المنظمة فرصة تنظيمه بهذا الشكل المفاجئ المبهر.
وصار لسان حال الغرب:
(كرة القدم) هذه صنعتي!!!
حلال لي أن أفرض بها فكري وهويتي وذاتي عليك أيها العالم… حلال لي أن أفرض بها ما أشاء.
حرام على غيري أن يفرض بها ما يشاء.
لكن…
انقلب السحر على الساحر!!
ملاعب تُفتتح بقراءة القرآن.
جدران مرصعة بأحاديث رسول الله.
مساجد في كل شبر تصدح بالأذان بأعذب الأصوات.
أكواد تعريف بعظمة الإسلام وتاريخه وحضارته ومفاهيمه الصحيحة.
أعظم دعاة العالم لتقديم الصورة الحقيقة عن الإسلام لمن يرغب في المعرفة والاستماع.
ما كل هذا؟!!
هل اخترعنا الكرة لتغييب الوعي أم لإيقاظه؟!
هل اصطنعنا اللعبة للإلهاء والتسلية أم للدعوة والتزكية؟!
صحيح ولا يُفلح الساحر حيث أتى.
لكن هل سألت نفسك سؤالًا أيُّها المشجِّعُ المتعصِّبُ: لماذا لم يفُز العرب بكأس العالم ولو مرة واحدة منذ إنشائه؟
أجيبك أنا: لأن العرب مسموح لهم باللهو وليس الفوز. الفوز يجمعهم واللهو يفرقهم. الفوز يوقظهم واللهو يخدرهم. الفوز يقويهم واللهو يضعفهم.
فهل فهمت الآن أيها المُشَجِّعُ؟
لا بأس طبعًا أن نفرح بفوز جيد في الرياضة. لا بأس أن نستشعر معاني الوحدة وذوبان الفوارق والحدود بيننا وسط كل هذا الدُّخان والضَّبابِ والركام والغمام. لكن ذلك الشعور وحده لا يكفي لنصنع نهضة حديثة وأمة متقدمة تقتنص مكانتها في مصف الأمم الحضارية. فالغايات السامية الحقيقية هي وحدها التي ستصنع الوحدة الحقيقية.
لكن لا بأس شعاع نور في ظلام حالك يصنع أملا. الأمل يصنع المستقبل.
والجميل أن الإنسان العربي كغيره من الأناسيِّ يستحضر مع كل فوز له أمجاد أجداده وانتصاراته، ورأينا ذلك في فوز منتخب المغرب على إسبانيا والبرتغال حيث استعاد الإنسان العربي حقبة أسيفة من تاريخ العرب والمسلمين، يوم أن كانت إسبانيا والبرتغال قديما إقليمًا كبيرًا يمثل شبه الجزيرة الأيبيرية غرب أوربا، واشتهر باسم بلاد الأندلس، وحكمها المسلمون ٨٠٠ سنة مُنذ سنة 711م حتَّى سنة 1492م، وحتى اليوم لا تزال آثار المسلمين باقية واضحة بارزة في معالم العمارة والأبنية والطرق وحتى في كثير من الكلمات في اللغتين الإسبانية والبرتغالية، يومَ أن أقيمت في الأندلس حضارة عربية عريقة، وكانت أهم مدنها غرناطة وإشبيلية وقرطبة، ومن هذه البقعة انتقلت مناهج الفكر وأصول العلوم وجذور الحضارة العلمية التي أقامت أوربا على قدميها لتصنع نهضتها الحديثة وتخرج من ظلمات العصور الوسطى. وكانت تلك صفحة مضيئة من صفحات التاريخ الإسلامي.
ومن جميل ما قرأت أن طالبًا يمنيًّا يدرس في الصين قال: بعد فوز المنتخب السعودي الشقيق على المنتخب الأرجنتيني، تلقيت تهاني من أصدقائي الصينيين، حيث جاءت جميع رسائلهم على النحو التالي:
مبروك لكم تفوقكم وفوزكم الكبير، وتكرر الأمر تمامًا وذات التهاني وأكثر من ذلك من الرسائل بعد تعادل وأداء منتخبي تونس والمغرب الشقيقين وبنفس الطريقة ونفس الصياغة:
مبروك تعادل وأداء منتخبكم التونسي ومبروك التعادل واللعب الجميل لمنتخبكم المغربي.
هذا الطالب اليمني وبحسرة كبيرة قال مختتمًا:
كل العالم يعلم أننا أمة واحدة إلا نحن وبكل أسف!!
نعم إنها الحقيقة المرة..!
كل الأمم تعلم أننا أمة واحدة إلا نحن، مازالت الفوارق والحدود تشعِّبُنا وتشَتِّتُ وحدتنا وتمزق أواصرنا.
ومما لا أرتاب فيه أن مثل هذه الأحداث الرياضية يستغلها قوى الظلام الخفية للترويج لأحداثٍ أو مبادئ أو قوانين أو قرارات أو أفراد تخدم مصالح الشيطان بلا شكٍّ، وها قد رأيتم الإصرار العجيب في الترويج لحقوق (الشواذِّ)، والامتعاض من رفض الدولة المنظمة لإظهار أي شارات أو شعارات تدعم تلك الفَعْلَةَ الشَّنْعاءَ القَبيحَةَ، وجعلوا يقذفونها بالنقد ويوجهون أسهم الاعتراض إليها من كل جانبٍ، بل نصبوا برامجهم ليعطونا دروسًا في الأخلاق والقِيَمِ عن حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد!!
والأعجب من ذلك أن بعض الأقلام التي لم تلوثها نجاسة تلك الأفكار قد وجَّهَتْ منابرها صوب المروجين لتلك الخبائث وعَجَّتْ صُحُفُهُمْ بما لم نكن نتوقعه مِنْ مواقف إيجابية تَكْفينا نحن الردَّ على مُهاتراتِ المُخَنَّثين، وإليك شيئًا مما قالته الصحف الأوربية اليوم:
– إن المسلمين يقدمون لنا درسًا هم محقون فيه يتمثل في الترفع عن المادية الاستهلاكية.
– مهما كان رأينا عن المسلمين فإنهم يبقون أناسًا أصحاب مُثُل وقِيَم.
– إن المسلمين لا يرون الأمور بأفق محدود، إنهم أصحاب اتصال بالخالق.
– المسلمون يرون من العار أن يُرسل المرء والديه إلى دور رعاية المسنين التي هي في الواقع مخازن للموتى.
– المسلمون يرون أن العلاقات الجنسية غير المنضبطة تحط من كرامة المرأة وتهينها.
– أوربا على وشك أن تصبح مواخير للدعارة والجنس.
– الأوربيون يظهرون ويقولون أنا لا أحترم عاداتك، أنا لا أحترم معتقداتك وسأفعل ما أريد في بلدك، وقوانينك لا تعني لي شيئًا لأنني الرجل الغربي الأبيض.
– سأظهر وأكون الحكم في أخلاقك مصدر الأخلاق.
– أجهضنا 60 مليون طفل وحولنا الأولاد إلى فتيات.
– نحن مسؤولون عن أسوإ مذبحة جماعية للأبرياء حدثت في هذا الكوكب.
– في الحقيقة إن المسلمين شُرفاء أما نحن فقد فقدنا معنى الشرف.
– أعتقد أنه نظرا لما قمنا به نحن الأوروبيين على مدى ٣٠٠٠ عام حول العالم ينبغي علينا أن نقدم اعتذارنا على مدى ٣٠٠٠ عام قادمة قبل أن نبدأ في توجيه الدروس الأخلاقية.. أيها الأوربيون أوقفوا الدروس الأخلاقية.. فمعاييركم مزدوجة. رئيس الفيفا.
وأعجب من هذا وذاك أن بعض بني جلدتنا قد أكله الامتعاض وأَشْعَلَ في نَفْسِهِ الاستياءَ حتى احترق من استغلال هذا الحدث في الدعوة إلى الإسلام أو شرح تعاليمه أو إماطة الصورة المشوهة السائدة في الغرب عن طريقه، كيف لا يوجد خمور في الاستادات، كيف لا يقيمون الملاهي والمراقص؟!!!!
أيها المُمْتَعِضَ أفلم يُزْعِجْكَ ذلك المشِّجعُ الأوربي الذي صَعِدَ مدرجات الاستاد بلباس فرسان الهيكل وبِزَّةِ جنود الحملات الصليبية؟!! أليس هذا مسيئًا لمشاعر المسلمين واستحضارًا لذلك التاريخ الدموي المؤسف الذي يتوارى أحفاد صانعيه حتى اليوم من القوم من سوئه وبشاعته وجُرْمِهِ؟! أين احترام ثقافة الغير إذنْ ومراعاة مشاعر الآخرين أيها المتحضرون؟!
السائح لا يريد ملاهي ولا شواطئ ولا مراقص… فكل هذه الأمور يراها ليل نهار في بلاده ولا تحرك شغفه.
السائح يريد أن يرى عندك الجديد الذي لا يتوقعه، الغريب الذي يُلهمه، المبتكر الذي لا يعرفه.
السائح ينتظر أن تكشف له جمال ثقافتك وحضارتك وهويتك بلباسك ولُغتك ودينك وعلمك.
الإنسان الشرقي عندما يسافر إلى بلاد الغرب يشده روعة التحضر وجمال العمارة وطُرز الأبنية ورُقي التعامل الإنساني ومظاهر الاعتزاز بالثقافة واللغة والدين والعلم وروعة الطبيعة وسحرها…
ولا يجري وراء مغريات الغرب وملاهيه ومراتعه إلا أسافل الناس وأراذلهم فلماذا تتخيلون أن الإنسان الغربي الذي يزور الشرق من نفس العينة وذات الطينة الخبيثة؟!
والحمد لله قد نالت نهائيات كأس العالم 2022 إشادة خاصة من المشجّعات الأجنبيات اللاتي عبّرن عن إعجابهن بمستوى الأمان والتنظيم، مقارنة ببطولات عالمية أخرى، خاصة فيما يتعلق بخلوّ الملاعب من المشروبات الكحولية، ما أسهم بمنع التحرش بهن. وإليك بعض شهادات لمجموعة من المشجعات الإنجليزيات اللواتي رافقن منتخب بلادهن إلى الدوحة، أكّدن فيها عدم تعرضهن لأي مضايقات، مقارنة بما يجري في بلادهن.
قالت الشابة البريطانية إيلي مولوسون (19 عامًا): “لم أكن بحاجة لإزعاج والدي كي يحضر معي؛ لأن ملاعب كأس العالم في قطر مختلفة عما هي عليه في بلادي، فلم تكن هناك هُتافات ساخرة أو تمييز على أساس الجنس من أي نوع، ولم أعاني من المضايقات التي مررت بها في إنجلترا”.
وقالت المشجعة الإنجليزية جو غلوفر (47 عامًا): “الجو العام هنا أقلّ عصبية، فالجميع يرتدون ألوان منتخبهم، وليست هناك أي متاعب”. وتابعت قائلةً: “أنا امرأة وصحفية، ولم أتعرّض لأي تحرش، هناك احترام كامل من جانب الأمن والجماهير، نشعر هنا بالأمن والأمان، ونستطيع تأدية عملنا لساعات متأخرة من الليل، فكل التسهيلات متوافرة… هذه أول زيارة ولن تكون الأخيرة، أتمنى أن تفوز المغرب بهذه الكأس الغالية”.
وتساءل الكاتب البريطاني دان ووكر قائلًا: “من المثير للاهتمام أن تقرأ عن العديد من مشجعات كرة القدم قولهن إن هذه كأس العالم الأولى التي لم يتعرضن فيها للتحرش اللفظي. هل يرجع ذلك إلى قلة الكحول؟”. وأرفق الكاتب تساؤله -على حسابه في تويتر- لتتوارد على تغريدته تعليقات من مشجعات وصحفيات أجنبيات، أكّدن أن تجربتهن كانت فريدة من نوعها، ولا تشبه تجاربهن خلال أي بطولة رياضية سابقة.
وقالت الصحفية البريطانية نتالي بيركس: “إنها بالتأكيد النسخة الأكثر أمانًا بالنسبة لي من أي من المباريات الأخرى غير تلك الخاصة بالنساء. وهذه رابع بطولة كأس عالم أحضرها”.
كما قالت مقدمة البرامج الرياضية البريطانية ميشيل أوين، إنها “قوبلت بلُطف لا يُصدّق”، ووصفت تجربها في تغطية كأس العالم بأنها “مختلفة وآمنة بشكل أساسي”، على خلاف كأس أوروبا 2020، التي قالت إنها “أسوأ تجربة في كرة القدم في حياتي”.
من جانبها كتبت المراسلة سوزان كيانبور، “لقد بدأت أعتقد أن الكثير من تعليقات مدّعي الفضيلة غير مهتمة بحقوق الإنسان، بل متعلقة أكثر بانزعاجهم من منع الكحول. لكنني أؤكد أنها النسخة الأكثر أمانًا، وهي ثالث بطولة كأس عالم أحضرها”.
وأرفقت مشجعة المنتخب الإنجليزي هانا لونغمان تعليقًا أكّدت فيه شعورها بـ “الأمان المطلق” خلال فترة مكوثها في قطر لـ 5 أيام، وأضافت: “لم يكن هناك أي إساءة لفظية من التي أصبحت شائعة في العديد من مباريات كرة القدم، بعد تناول القليل من البيرة، خاصة في مباريات إنجلترا”.
ورأى متفاعلون على منصات التواصل بأن من أهم أسباب شعور النساء بالأمان في قطر هو: البيئة المضيافة المحافظة، مع تأكيد أن منع المشروبات الكحولية أسهم بشكل كبير في منع الشغب والتحرش بالنساء.
كذلك سلطت صحيفة “لوموند” الفرنسية الضوء على تجربة مجموعة من 6 مشجعين أصدقاء من منطقة بريتاني في فرنسا، وذكرت أن “مجموعة من المشجعين الفرنسيين سافروا لحضور كأس العالم في الدوحة، وسط شكوك أو مخاوف بسبب الانتقادات غير المحدودة التي وُجّهت لقطر، لكنهم الآن يشيدون بالتنظيم والأجواء”.
الذي أريد أن أقوله إن هذه النسخة من كأس العالم غير كل سابقاتها ونظيراتها في العالم، وهي حقًّا مفاجأةٌ لنا قبل أن تكون مفاجأة للغرب وللعالم كله، تنظيم حضاري، استقبال حَفِيٌّ، حفاوَةٌ منقطعة النظير، سخاء في الإنفاق على الملاعب والفنادق والأسواق والاستراحات، ووسائل المواصلات والراحة والاستعلام والإرشاد، نجاح مشهود في عرض ثقافة الآخر وهويته، وجهود هائلة محترمة في تصحيح النظرة الخاطئة المراد نشرها وتوصيلها للأذهان عمدًا من وسائل إعلام الغرب عَنِ العرب والمسلمين.. حقًّا شُكْرًا لكم وألفُ شُكْرٍ.