حياة لمن تنادي في تحوّلات ضمير المخاطب  “كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد” لسعيد نوح

و"قصة عائلية" لفاسكو براتوليني

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد

نتحدث لنتواصل، وفي التواصل وجود وغايات.
في التواصل نحاول أن نضع هويتنا بكل ما فيها من تصورات بصدد مفاهيم الحياة والموت والحصول والفقد في خطابنا، فنحمّل مرويتنا كل ما نرجوه من أهداف تتبلور فيها أشواق سعينا لعالم تتضام في فضائه تطلعاتنا القليلة لاستقرار دائم يمنح الألفة اليومية بعدا كونيا.
لا نستطيع أن نكف عن التواصل، ولا نستطيع أن نكبح توجهنا إلى الآخر الذي يكتمل به سياقنا فيتصاعد النداء، ونتشبث بضمير المخاطب، ونطلق ذاتنا السجينة صوب أصحاب كانوا معنا ولم نكن نتوجه إليهم بالدرجة نفسها، لقد رحل الآخر، أصبح غائبا بمنطق الإحالة اللغوية، لكن نبرة حضوره تعلو في الخطاب، نتكلم مع صورته وطيفه، نستقصي تفاصيل اللحظات التي مرت، ونكمل الفراغات التي لم تستطع مشاعرنا أن تستقر فيها حين كان الغائب حاضرا، في الوقت نفسه نحاول أن نتمسك بموجة تنفلت من وعينا، نغرس إدراكنا فيها، ونستعيدها في أنابيب الألوان التي نذيب فيها عناصر.. نحقق بها معادلة صورتنا المترامية خارج الإطار، هذا ما نجده في روايات استمدت من الوظيفة الاتصالية للبيان وحدات تستوعب الألم الروحي الذي نكابده من المرور الحاد لقطار الزمن طاويا محطات العمر.
ذاك هو سحر الضمائر التي تؤدي وظائفها بالتناوب كأشقاء في أسرة عن طريق الالتفات البلاغي، وتلك هي شعرية ضمير المخاطب الذي يزيح الغياب، ويمنح نفسه للمتكلّم المتألم كي يتخفف بالمونولوج من فائض الصمت الذي سجن مشاعره الحقيقية في سرداب اللاوعي، وكثيرا ما نسجن مشاعرنا حين يكون حضور ذاك الآخر حاجزا هشا لا يسمح بالمصارحة أيا كان نوعها.
في الوظيفة الاتصالية للغة نجد النداء صارخا لا يسمعه الآخر الذي عبر أفق رؤية الأحياء لكنه لم يترك رحابة المخيّلة خالية من وجوده المفعم بالرموز، نجد الاستفهام الذي يطرح أسئلة كثيرة عن المعاني التي كانت نائمة في أوراق الورد المغلقة على عبيرها حين كان الآخر في متناول الحواس لا يفصله عن المتكلم سوى خطوتين كما يقول مأمون الشناوي في نصه المونولوجي “بعيد عنك حياتي عذاب”.
في ضمير المخاطب يتجلّى الغائب، تلك هي الظاهرة التعبيرية الرائعة، في ضمير المخاطب يمتد مونولوج السرد المنبعث من حجرة العمل التي يشغلها شخص واحد يحرك الشريط الملتف على مخزون الصور لتستقبلها صفحة هي شاشة بيضاء منيرة بأشعة الألم الملونة التي تتناثر فيها جزيئات حائرة متدافعة تبحث عن صوت تأتنس به داخل صالة عرض مظلمة، ذاك الحضور الإشاري الضوئي المتوهج في قاعة التذكّر المغلقة هو نداء يتوسّل لتمام الغياب، وذاك الغياب الموغل في سراديب الفقد ينطلق كمارد المصباح الذي مسته حواس الحزن على أمل أن يرسم للذات المهجورة في فراغ الوحدة سبيلا للعودة إلى لحظة تواصل لم تبح بكل ما في الخواطر التي كانت تتأرجح في أروقة الأوقات، يغطيها وهم الأمنيات باستمرار لا يمكن أن يستقر في خضم أشباح متغيّرات تتمدد بلوحة فصول يتصارع فيها الازدهار والذبول.
نمارس الحديث مع الغائب بضمير المخاطب لنعتذر عن إهمالنا له في الحضور، لنحافظ على وهم استقرار عالم متحفّز للسقوط من جاذبية اللحظة، ضمير المخاطب طقس استعادة اكتمال لم نكن نشعر به، ضمير المخاطب مثل “مرهم” نخفف به أثر جرح لن يغادر بشرة الوعي، وجميلة هي الأعمال التي توسّلت بعلامات التواصل اللغوي لتتخذ من ضمير المخاطب والنداء والاستفهام تقنيات حوار مع الغائب الذي يسكن الذات، لتطرح أمامنا حقيقة جلية هي أننا لا نتحدث مع آخرين في الواقع بقدر ما نفترض صورا للآخرين في أذهاننا، فنخاطب مدركاتنا لهم بدرجة تفوق من مخاطبتهم بالفعل، إن المخيّلة قصر مهجور مسكون بأشباح صنعناها للآخرين وأغلقناه عليهم.
رواية “كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد” لسعيد نوح التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1995م ظاهرة جمالية بكل المقاييس السردية، فهي صادقة صادمة حيوية عاكسة لطقوس المجتمع المصري وتصوراته الشعبية بصدد الموت الذي تكتمل به الحياة، والفقد الذي يطوي كمال التحقق، والأحلام المعلقة بين الأرض والسماء في فضاء النفوس، وطرق القص الشفهي التلقائي الجمعي، واليوميات المكتوبة المرصودة بعد الرحيل متناثرة وناقصة ومحتفظة بدرجة من سريتها المتوارية في ظلام أبدي يغلفه النور الروحي الصامت، وتعدد الأصوات التي تتخذ من ظاهرة موت الشخصية المحورية مجالا لعرض محتويات اللاوعي، فالحديث إلى الغائب لا يكشف الذات، لا يسبب لها تعرية اجتماعية، العمل يصبح تحقيقا فنيا عن الشخصية التي مضت، والتناص الذي يصل النص بعالمية السرد، وسحرية المجهول وغرائبية المعلن والتفاف أوراق الزمن في بنية تضمر مونولوجاتها بين الضمائر.
تتحول سعاد من ذات راحلة إلى ظاهرة تحمل دلالات روحية ونفسية، من خلال توجيه الحديث إليها بالنداء أو ضمير المخاطب يتحوّل المتكلّم إلى نفسه، بالتالي يصبح ضمير المخاطب قناة اتصال بالغائب ظاهريا، لكن الحديث موجّه إلى النفس، إنه مونولوج لا يسمعه إلا صاحبه فقط في النص القائم على بنية دائرية مغلقة.
إننا نجد أنفسنا حين نتحدث إلى آخر غير موجود في الواقع الخارجي، إن كلامنا بضمير المخاطب إلى الآخر الغائب محاولة لإقناع ضميرنا الشخصي أننا صرحاء وضعفاء، إننا نتحدث إلى ضميرنا العميق الكامن فينا الذي لا يكتفي بعلامة نحوية لكي يعبّر عن نفسه، أو يجد من الذات شيئا من العزاء والمواساة كي تلمسه، إن ضميرنا يدرك ضعفنا، فيبالغ في التستر، يتطلع إلينا عبر الغائب الذي اتخذ ضمير المخاطب، منصتا إلى ما لم نقله إلا بعد أن تماهينا مع الفقد الذي جرح وجودنا الجمعي.
إن الحديث لن يصل إلى الغائب من خلال صيغة المخاطب، لكنه سيصل إلى المتكلّم الذي يؤدي طقسا اعترافيا ينزع فيه الأقنعة التي تحجب وجوده الحقيقي عن حواس الآخرين، من هذا المنظور تصبح شخصية “سعاد” مفتاح إضاءة لتواصل كل شخصية مع نفسها، إن شخصية “سعاد” التي يحدث لها استحضار بالنداء وضمير المخاطب، تفك طلاسم العزلة التي تداري بها كل شخصية فقدها الروحي، ويتسع حضورها لتستوعب تاريخا من الفقد والتوتر والكتمان المستعصي على البوح خارج الإبداع، وهذه الشخصية نفسها “سعاد” تمارس في الخطاب طقس الاعتراف نفسه حين يجمع المؤلف الضمني، أو المنسّق السردي، قصاصات يومياتها في قلب الأقوال الموجّهة إليها، ويحتفظ لها العنوان بحضور كلي يضعها نموذجا لتجلّيات الجمال، فينطلق النداء باسمها محولا الفقد الفيزيقي إلى تواصل لا ينقطع، وفي الصوت حياة متجددة تمر من إطار السرد إلى مرجعية الواقع.
ما نجده عند المبدع المصري سعيد نوح في روايته “كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد” يتناص مع ما كتبه المبدع الإيطالي فاسكو براتوليني في رواية “قصة عائلية” التي ينطلق الخطاب فيها طوال السرد بضمير المتكلم من شخصية الأخ المبدع لشقيقه الراحل “فيرّوتشو” الذي يصغره بأعوام تقترب من الأعوام التي تكبر بها شخصية الأخ “سعيد” عن شقيقته الراحلة “سعاد”. وفي العمر نفسه الذي يقترب من سنوات المسيح على الأرض بالنسبة لكلتا الشخصيتين “سعيد” في “كلما رأيت بنتا حلوة” والراوي الذي يتماهى مع شخصية المؤلف في “قصة عائلية” يرحل الشقيق وترحل الشقيقة، وتبدأ رحلة البحث عن الآخر الروحي الذي كانت النفس تكتمل به، الآخر الذي تتدفق النفس بالحديث إلى نفسها من خلاله عارضة مفاهيمها من خلال التجربة المشتركة التي كانت تجمع بينهما قبل الرحيل، وفي سعي لاستمرار تجربة الوجود المتضامة تستعيد الذات اللحظات المشحونة بحوار معرفي أطلت منه تلك الذات على العالم الصغير الذي يربطها بالأخت/ الأخ ويصبح ذاك العالم حضورا كنائيا للأسرة الإنسانية الكبيرة.
وفي كلتا الروايتين يتحرر المتكلم بالسرد، وفي الوقت نفسه يصبح الحديث إلى الآخر سقيا لعهد من الوفاء، يغرس شجرة الأخوة في واحة الإبداع، فيتحول الفقد بشعرية التذكر المحفّزة للتخيّل إلى وجود سردي يمنح أسرتنا الإنسانية نموذجا لاستثمار جزيئات لحظات التواصل في إنتاج أقصى درجات المعرفة التي تقاوم آفة حارتنا التي يصيبها التصحّر بالتآكل الحضاري.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: