حورية عبيدة تكتب: أكاليل الزّعتر تنتظر

أكاليل الزّعتر تنتظر

حورية عبيدة

 

ولَمَّا اعترته علامات البلوغ؛ واعتلىٰ جسده الصّغير تغيرات أربكته؛ اجتاحته مشاعر لم يألفها من قبل، ودَّ ألو حَمَل حقائب أسئلته إلىٰ أُمّه، تلك التي أراد أن يسكب بين يديها بكارة دهشته الأولىٰ، ويبوح لها كيف غدا يغُذّ الخُّطىٰ نحو سمتِ الرّجولة، لكنّها كانت كقبض ريحٍ؛ إذ لم تُلقِ له بالًا، ولم تُعر حيرته إلتفاتًا؛ وهي التي لطالما اجتاحه الحنين لضَمّة ذراعيها، بل ليديها كي تُرْبِت على رُوحه، وحين يكتنفه الوجع يتوق لمجالستها دقائق؛ تحتويه؛ تنصت لأنّاته وشكواه؛ أو تمسح دمعةً هاربةً على حين غفلةٍ من قَبضة أهدابه، أو تحتفي معه مرةً بيوم ميلاده كبقية أقرانه، لكنّه دومًا يلفىٰ منها صمتًا وبُعدًا !!

مذ بلغ لَم تخبره أنّه صار مكلفًا وعليه ألا يهمل صَلاتَه؛ لم تنهره كيلا يعلو صوته على صوتها تأدبًا معها؛ لَم تُعلّمه أن يغضّ الطّرفَ لأنّ العين زناها النّظر، لَم تحذره من رفقة السّوء -كبقية الأمهات- كي لا ينساق معهم متسكعًا أناء الليل وأطراف النّهار.

لَم تُهلل يومًا حين يأتيها سعيًا بين يديها حاملًا بشارة تفوقه بين أقرانه بالمدرسة؛ ربما لا تود أن تبادره  بهديةٍ أو كلمة إطراءٍ أو نظرة عينٍ حانيةٍ مطَمئنةٍ من بعد تنهيدات القلق.. فلِمَ تضنّ عليه ؟! لِمَ لا تنصحه كيف يقضي علىٰ وقت فراغه قبل أن يفتك به تسكعًا وهدرًا لسنين عُمره الغضّ ؟! أو تسأله عن أحلامه أو حتى ذنوبه -ما تقدّم منها وما قد يتأخر- لتُرشده كيف يُكفّر عنها أو يتحاشاها في قادم أيامه.

تمرُّ السّنين؛ يشبّ الصّبي مهرولًا نحو مراتع الشّباب، يستشعر قدرته علىٰ الباءة، فلِمَ لا ترفع عنه الحرج وتحدّثُه عن زيارتها لجارتهم؛ وكيف أنّها قد تفحصّت ابنتها الجميلة “جهاد”؛ ووجدتها تعترش أنوثتها؛ وأضحت تليق كي تخطبها له من ذويها وهي تَعلم أنّها قد شغفته حبًّا ؟! ما لها تتركه يعاني فوضىٰ أحاسيس مُربكة مذ وقع ناظراه على تلك الفتاة الوضيئة، ألا تود أن ترىٰ حفيدها يجري بين يديها كعادة الأمّهات ؟!

كم مرّت عليه شتاءات طويلة باذخة البرودة؛ تمنىٰ أَلَّو دثًّرته بمعطفٍ يقيه، أو ألقمته طعامًا ساخنًا لذيذًا يُعينه، أو خبّأته دقائق معدودات في صدرها الدّفيء تغني له أو تقصّ عليه كما كانت تفعل وهو طفل حتى يأتيه النّوم بخَدَره الجميل.

كيف تتركه هملًا هكذا ولا تستجيب لأنّاته وأهاته بل ونداءاته رغم إضرابه عن الطّعام حتى نقُص وزنه، وبات الهزال يفتّ في عظمه وينخر جسده وكاد يُودي بحياته، لِمَ لِمْ تأته بالطّبيب أو تطعمه عُنوةً أو تُبلّل شفتيه بشربة ماءٍ علّه يتخلىٰ عن عناده ؟!

تتوالىٰ الأعوام راكضةً؛ يلوذ المسكين برُكنه البارد، يلوك عزلته، يعُدُّ الحنين؛ ويهادن وحدته، يجتر أحزانه كعصفورٍ شارف الوجعُ علىٰ طمث رُوحَه؛ متعَبٌ قلبه من ضجيج السّكون؛ لا يملك غير حلمٍ ضالعٍ في الغياب.

وهناك بعيدًا بعيدًا.. وعلى النّاحية المقابلة وقفتِ امرأة متيقظة -والمدينة نائمة- تستعصم بالصّبر؛ تجيء كل يوم من غبشة الفجر حتى عتمات الظّلمات؛ تحمل كنوز حزنٍ مُخبّأة؛ قابضةً على أسلاكٍ شائكةٍ صنعوها سورًا بغيضًا يحول بينه وبينها؛ تنتظره بأناةٍ؛ أينما تُوَجّه وجهها فثمة رائحته؛ تجيب بقلبها الملتاع على أسئلته العابرة للصمت والمسافات؛ فهل تراه يسمعها ؟! قد تعبَتْ من بناء الأحلام؛ ومن شراء “أكاليل الزّعتر” تنتظر غائبًا موغل في النّأي؛ والذي لم يعُد مذ أربعة عشر عامًا أو يزيد.

تلوذ المسكينةُ بمرافىء الذّكريات؛ قابضةً على فيضٍ من الحكايا؛ تحكي لجاراتها وللمارة عن طفلٍ أخضرَ القلب والعينين تعشقه النّوارس؛ كان يعتلي صهوة أحلامها، لم يمهله المحتل -وجنودُه الذين يتحامقون- وأودعه في غيابات المعتقل ماسحًا طُرقات العودة؛ مُصرًّا بحقدٍ وغباءٍ على أن يسكب بقلبها غيمات الحزن وكأس الأرق حدّ الثُمالة؛ تاركًا لها جرحًا مُستعصٍ على الشّفاء، وعقلًا هرِمَ من فرط الانتظار، وساعة ينفرد بها الليل وحده؛ يتأبّطها اليأسُ فترىٰ أحلامها مُسجّاة.. فتلوذ بتمتماتِ الشّوق الأليم؛ فلم يبق لقلبها غير وجعِ فراق وحيدها؛ وبقية نبضاتٍ ترتّل قصائد الانتظار حتىٰ الهزيع الأخير من القلب.. أو حتىٰ يأتيها اليقين.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: