جنكيز أيتماتوف – ثالث أكثر الأدباء مبيعًا في القرن العشرين – في ذكرى مرور خمس وتسعينَ عامًا على ميلاده

الأستاذ الدكتور محمد الجبالي
وفقًا لتقرير اليونسكو عن أكثر الأدباءِ مبيعًا في القرن العشرين، جاء الأديبُ القيرغيزي جنكيز أيتماتوف في المرتبة الثالثة بعد كلٍّ من شكسبير وتولستوي. ويوافق شهر ديسمبر مرور خمس و تسعينَ عامًا على ميلادِه في عام 1928. ويُعتبر أيتماتوف أحد أهم وأعظم الأدباء السوفييت. و رغم أن معظمَ الموضوعاتِ التي تناولَها، كانت مُغرِقةً في المحليةِ و القوميةِ، فإنها لقيت انتشارًا واسعًا، وذاعَ صيتُها في أنحاء الاتحاد السوفيتي كافةً، وفي سائر دول العالم.
أفنى أيتماتوف سنواتٍ طويلةً من شبابه بَحثا عن موضوعاتِه، وأبطاله، وأسلوبه الخاصِّ به في السَّرد و القصِّ. و قد لُوحظَ في إبداعاتهِ المبكرةِ كونها دراميةً للغاية، تناول فيها موضوعاتٍ معقدةً، و قدم حلولاً مختلفة للمشكلات المعاصرة له.
وقد جلبتْ له قصتُه “جمِيلَه” شهرة واسعة عالميًّا ؛ حيث تمت ترجمتُها إلى لغاتٍ كثيرة. كما حصل في عام 1963 على جائزة الدولة على قصته “حكاياتُ الجبالِ والسُّهوب”. وشهدتْ إبداعاتُه في فترة الستينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، صدور العديد من الأعمال الرائعة له مثل “وجهًا لوجه” و “المعلِّم الأول” و “الأرضُ الأم” وغيرها.
ولعل أشهرَ أعمال جنكيز أيتماتوف رواية “ويطول يوم أكثر من قرن”، التي طبعت مرات عديدةً، و تُرجمت إلى لغاتٍ كثيرة. تدور أحداث الرواية عن الأمّ وعاطفتها القوية تجاهَ أبنائِها. تعاني البطلة من فراق ابنِها، وتسعدُ أيّما سعادةٍ عندما يقضي لحظاتٍ قليلةً بالقرب منها و تتلمسهُ لثوانٍ قليلة. الفكرةُ الأساسية في الرواية هي التضحية بالنفس، وألمُ الفراق مع الابن، الذي لا يطويه النسيانُ مهما طالَ الزمنُ. ويتناول الكاتب في روايته أحداثا واقعية تختلط بأخرى خيالية، تتمثلُ في الاتصال بإنسان من كوكب آخر… ويتولد لدَى القارئ انطباعٌ أن تحقيق التفاهم مع سكان الكوكب الآخر هو أمر أيسر و أسهل من تحقيق التواصل و التفاهم مع بني البشر.
و يُعاود أيتماتوف الكتابةَ في الخيال العلمي في منتصف التسعينيات من خلال قصة “تافرو كاساندرا” ، التي تدور أحداثها حول خلق أناس صناعيّين. أما باقي أعماله فكلها واقعية. و كانت الواقعية في الاتحاد السوفيتي اشتراكية المنحى ، فيما كانت في أعماله شديدة التشاؤمية. فأبطاله واقعيون، يحيون و يعانون في واقع الأمر، و لا يصورهم مثلما يفعل سابقوه بكونهم بناءً للمجتمع الاشتراكي.
و عرف أيتماتوف بحبِّه للمرأة، فكثيرًا ما تغنَّى في أعمالِه بجمالِها، و كان على دراية واسعة بشخصيةِ المرأة ؛ و لذا فقد وصفَ المرأة بصدقٍ ، و وصفَ نماذجَ لشخصيات أنثوية ، ففي قصته “جميله” تبدو المرأة القوية، و في قصته “حوريتي في منديل أحمر” تبدو البطلة أسيل رومانسية و في “الأرض الأم” تبدو البطلة تولجاناي حكيمة ، و قد فقدت في الحرب أبناءها، و لكنها حافظت – رغم ذلك- على جمالِ روحِها.
و في كل رواية و قصة له ، يرسمُ شخصية البطلة التي تضيء روح و قلب البطل الرئيس. كما كان للمرأة دور مهم في حياة الأديب أيتماتوف نفسه. فقد تعرَّف على زوجته الأولى كيريز شامشيبايفا أثناء فترة الدراسة بالمعهد الزراعي. كانت الفتاة تدرسُ في معهد الطب، وكانت هي أيضًا تهتمُّ بالأدب، وبعد أن أصبحت طبيبة معروفة، انتقلت للعمل في وزارة الصحة الكيرغيزية، و أنجبت لزوجها طفلين. و في نهاية الخمسينيات، صادف أيتماتوف أهم حب في حياته و هي راقصة الباليه بيوبيوسارا بيشينالييفا، و بدأت القصة في ليننجراد، و استمرت العلاقة أربعة عشر عامًا. ولم يتمكنا من الزواج، حيث لم يكن باستطاعته كشيوعي الطلاق من زوجته للزواج من فنانة مشهورة، يتوق الكثيرُ من رجال الدولة للارتباط بها.
و قد عبَّر الكاتب عن هذه المعاناة في أعماله الأدبية، حيث كان يعاني من ضرورة الاختيار بين زوجته و حبيبته، و هو ما ورد على لسان بطله الرئيس ، في “وداعا يا جولساري”. و في روياته”و يطول يوم أكثر من قرن”، يقع البطل في عشق أرملة صديقه. و توفيت حبيبته بيوبيوسارا في عام 1973 بعد صراع طويل مع مرض السرطان. و بعد مرور اثني عشر عامًا على وفاتها، كتب أيتماتوف “اعترافات نهاية القرن”، و اعترف فيه صراحة عن حبِّه هذا.
وكانت الزوجة الثانية لأيتماتوف هي ماريا اورماتوفنا. و أنجبت لزوجها طفلين، و كان قد سبق لها الزواج و لديها طفلها من زوجها الأول.
و قد تمت طباعة أعمال جنكيز أيتماتوف في أغلب دول العالم ، و كانت إبداعاتُه مادة لآلاف الأبحاث و الدراسات الأدبية و الرسائل العلمية ؛ فاهتم الباحثون بدراسة أسلوب الكاتب ، و سمات أبطال أعماله ، و تطور موهبته الإبداعية. و يمكن القول إن جنكيز أيتماتوف قد وحَّد بين مختلف شعوب العالم. ترجمَتْ أعمالُه إلى مائة وست وسبعين لغة ، و طبعت في مائة وثماني وعشرين دولة، وبلغ عدد النسخ الموزعة من أعماله أكثر من مائة مليون نسخة ؛ ولهذا فقد اعتبرته منظمة اليونسكو ثالث أكثر الكتاب مبيعًا في تاريخ الأدب العالمي بعد شكسبير و تولستوي.
و رغم مرور خمسة عشر عاما على رحيله، فإن أثره لايزال قويًّا على شعبه ، و على الإنسان في العالم ؛ و يرجع الفضل في ذلك إلى قرب شخصيات أبطاله من قلب القارئ ، وتفوح كتاباته النثرية بأفكار الإنسانية ، و الحب لكل ما هو حيّ، سواء أكان بشرًا أم حيوانًا أم نبات، و للكوكب و العالم بأسْره.
حصل أيتماتوف على جائزة لينين و ثلاث جوائز دولة أخرى ، و كذا جائزة نهرو الدولية. و في عام 2007 حصل على أعلى وسام تركي ، و رشح لجائزة نوبل في عام 2008 إلا أن المنية قد وافته.
وفيما يلي نتوقف عند أهم المحطات في سيرة الكاتب ، حيث وُلد في الثاني عشر من ديسمبر 1928 ، في عائلة شيوعية بقرية شيكير كارابورينسكي بجمهورية كيرغيزيا السوفيتية. و في عام 1935 انتقلت الأسرة إلى موسكو العاصمة، حيث كان الأب يعمل في وظيفة مرموقة بالحزب الشيوعي. و بعد عامين، و بسبب الاشتباه في معاداته للشيوعية ، تم القبض على والدِه و نفيه إلى مدينة فرونزى عاصمة جمهورية كيرغيزيا ، و من ثمَّ إعدامه في عام 1938. كما تم التضييق على والدِته.
و في أثناء الحرب العالمية الثانية، تم استدعاء جميع الرجال للحرب ، و منهم أيتماتوف الذي لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة من عمره بعد. و بعد انتهاء الحرب واصل دراسته و التحق في عام 1948 بالمعهد الزراعي العالي في كيرغيزيا.
و بدأ أيتماتوف رحلته الإبداعية في عام 1952 ، حيث كتب قصة قصيرة تحمل عنوان “بائع الصحف دزويدو”. و بعد انتهاء دراسته بالمعهد في عام 1953 ، واصل الكتابة باللغتين الروسية و الكيرغيزية ، و تم طباعة أعماله في الصحف و المجلات المحلية في كيرغيزيا.
و في عام 1956 قرر أيتماتوف مواصلة دراسته ، و سافر إلى موسكو ، حيث التحق ببرامج دراسة عليا في الأدب و النقد. وفي أثناء ذلك ظل يكتب ، حيث صدرت أولى قصصه “وجهًا لوجه” في عام 1957 في مجلة “آلا – تو”. وفي العام نفسه صدرت قصته الرائعة “جميلة”، التي جلبت له شهرة واسعة، وقد ترجمت الرواية إلى الفرنسية، وصدرت الترجمة قبل النسخة الروسية.
و أنهى الكاتب دراساته الأدبية في عام 1958 ، و كان قد أنهى كتابة قصتين بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة. و صدرت أولى روايات الكاتب في عام 1980.
و في منتصف الثمانينيات دشن الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف لسياسة جديدة تعتمد المكاشفة و المصارحة و إعادة بناء الدولة ، و أصبح من الممكن أن يتناول الأدباء مشاكل البلاد. و تناول أيتماتوف في كتاباته ما اعترى المجتمع السوفيتي من ظواهر سلبية جديدة عليه ، مثل إدمان الشباب للمخدرات، و الفساد و عن الدين و الإيمان، و رجال الدين، و غير ذلك.
و قد عانى جنكيز أيتماتوف من مرض السكر في سنوات عمره الأخيرة، إلا أن حياته تميزت بالنشاط ووفرة الإبداع. و في عام 2008 توفي أيتماتوف عن عمر بلغ الثمانين عامًا ، و كان قبلها بأيام متواجدًا بمدينة كازان لتصوير فيلم وثائقي عن روايته “و يطول يوم أكثر من قرن”، و أصيب بوعكة شديدة ، و تم نقله إلى ألمانيا، و توفي هناك ، و احتشد جمعٌ كبير لدرجة وقوع العديد من الإصابات أثناء وداع الجثمان. ثم نقل جثمان أيتماتوف ليدفن في موطنه الأصلي في ضواحي مدينة بيشكيك الكيرغيزية، و قد اختار الكاتب هذا المكان بنفسه وهو الموقع نفسه الذي دفن فيه أبوه قبل عقود. و كان الموقع عبارة عن مقبرة جماعية دُفنت فيها مائة وثماني وثلاثين جثة، أطلق عليهم النار، و كان منهم والده المتهم من قبل السلطات حينها بمعاداة الشيوعية.
وهكذا انتهت حياة كاتب، استطاع أن يفرض نفسه و بقوة على خريطة الأدب السوفيتي الضخمة، رغم انتمائه إلى بلد صغير، و تمكن بفضل عبقريته الفذة من مجابهة كبار العقول في عصره، و محاججته لكبار الفلاسفة و المفكرين، كاتب امتزج في أعماله الروحي و النفسي و الإنساني، و الواقع بالأسطورة؛ ما تميز إبداعاته بسحْر فريد، شهدَ به كلُّ من حالفه الحظ بقراءة أعماله.