جرامشي في الثقافة الإيطالية (2)

إعداد: دكتور إسلام فوزي محمد

كلية الألسن – جامعة عين شمس

 

المرحلة الثانية في حياة جرامشي في إيطاليا التي بدأت بدخوله السجن. وهي المرحلة التي جعلت من جرامشي مفكرًا وناقدًا أدبيًا أكثر عمقًا وأكثر تركيزًا على النقد الأدبي الذي انطلق، بكل تأكيد من خلفيته السياسية التي عاشها في الفترة الأولى.

ومن أهم ما كتبه في هذه المرحلة “كراسات السجن” أو “دفاتر السجن” Quaderni del carcere، وقد كان ذلك بعد حصوله على تصريح من وزارة الداخلية الإيطالية بإمكانية أن يدون بعض الملاحظات كتابةً، بعد مرور عامين من القبض عليه وبدأ ذلك الكتاب في سجن توري Turi.

وكان ذلك الكتاب يقوم على ملاحظات وتأملات أخذ جرامشي يدونها برؤية عمل ذي نفس طويل كان ينوي أن يتسمر في تطويره وإثرائه كي يكون “بحثًا حول تشكيل الروح العامة في إيطاليا في القرن المنصرم” وفي المقام الأول حول “المفكرين الإيطاليين”.

وعلى الرغم من أشكال المعاناة في المحبس، فقد استطاع جرامشي بمرور السنوات أن يملأ تسعًا وعشرين كراسة مدرسية مسطرة، متحدثًا فيها عن موضوعات وقضايا مختلفة ومتنوعة. وكانت هناك بعض الكراسات التي تحمل عناوين محددة، مثل: الكراسة رقم 10 التي حملت عنوان La filosofia di Benedetto Croce “فلسفة بينيديتّو كروتشِه”؛ والكراسة رقم 12 التي حملت عنوان Appunti e note sparse per un gruppo di saggi sulla storia degli intellettuali “نقاط وملاحظات متفرقة لمجموعة دراسات حول تاريخ المفكرين”؛ والكراسة رقم 13 بعنوان Noterelle sulla politica di Machiavelli “ملاحظات صغيرة حول سياسة ماكيافيلّي”؛ والكراسة رقم 21 بعنوان Problemi della cultura nazionale italiana. 1° Letteratura popolare “مشكلات الثقافة الإيطالية القومية، الأدب الشعبي الأول”؛ والكراسة رقم 23 بعنوان Critica letteraria “النقد الأدبي”.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تم تجميع الكراسات التي كانت محفوظة في معهد جرامشي بالعنوان المعروف “كراسات السجن” Quaderni del carcere ونشرت في ست مجلدات قسمت حسب الموضوعات كالتالي: Il materialismo storico e la filosofia di Benedetto Croce “المادية التاريخية وفلسفة بينيديتّو كروتشِه”؛ Gli intellettuali e l’organizzazione della cultura “المفكرون وتنظيم الثقافة”؛ Il Risorgimento “البعث. توحيد إيطاليا”؛ Note su Machiavelli, sulla politica e sullo Stato moderno “ملاحظات عن ماكيافيلّي، وعن السياسة، وعن الدولة الحديثة”؛ Letteratura e vita nazionale “الأدب والحياة القومية”؛ Passato e presente “الماضي والحاضر”.

وفقط في عام 1975 صدرت النسخة النقدية من إعداد فالينتينو جيرّاتانا Valentino Gerratana الذي أعطى لـ “كراسات” جرامشي وفكره طبيعتهم الحقيقية، وفكر جرامشي في كتابته كان يقوم على أن يعود باستمرار إلى موضوع محدد، أو تشكيل محدد، كي يستعيد الدافع من ورائه وينقب عنه ويجمع الأطراف المشتتة للفكرة ثم يصححها.

ويعكس هيكل أو تكوين “كراسات السجن” المعنى الحقيقي لأعمال جرامشي وإنتاجه الكتابي المرتبط بطرق الكتابة نفسها، وتفتحه، وتطوره من تفاصيل فردية يعود إليها من حين لآخر وتحديدات وتعديلات إلى مجهود بذله كي يصل إلى نتائج – في كثير من الأحيان ظلت معلقة – وليقترح رؤى ومناظير وتصورات فكرية يصعب في أغلب الأحيان تحقيقها على أرض الواقع.

كانت كتابة جرامشي هي بحث مستمر نجد فيه الفكر كأداة للدفاع عن أمر أو قضية ما في مواجهة الموقف الراهن، سواء كان ذلك استمرارًا لكفاح الطبقة الكادحة أو للاجتهاد من أجل بناء الحزب الشيوعي. وتكمن القيمة الأدبية الكبيرة لهذه الكتابة في المعنى القوي للمقاومة التي يخرجها هو عن طريق القلم وفي التوتر الذي يبحث فيها عن ترتيب مبرمج وعن اجتهاد يسعى من خلاله للوصول إلى حل في الوقت نفسه الذي يبدو كل ذلك مستحيلًا.

وتميز فكر جرامشي عدة عناصر أهمها الأصالة والاستقلال الفكري حتى في قراءة النصوص الماركسية وتحليلها؛ فقد كان يدور حول بعض النقاط المحورية من حيث الموضوعات. وكان تناوله الفكري للأمور قد تبلور مع مرور الزمن إثر اكتسابه لخبرات متعددة منذ شبابه واحتكاكه بشخصيات عامة ومثقفة من اتجاهات متباينة ومن أماكن مختلفة. وأتت المرحلة الثانية بثمارها إذ كانت فترة محبسه الطويلة ثرية بقراءات وتأملات فكرية عميقة فيما كان يقرؤه جرامشي. ولعل أهم محاور ذلك الثراء الفكري يكمن في مفهوم مصطلح egemonia “الهيمنة” الذي يقترب من فكرة المفكر والفيلسوف الروسي لينين حول ديكتاتورية الطبقة الكادحة، مع الفارق بأن جرامشي كان يعتبر “الهيمنة” سيطرة المجتمع المدني على المجتمع السياسي، بينما كانت روسيا لينين تعتبر المجتمع المدني ضعيفًا وبدائيًا، فكانت الهيمنة من نصيب المجتمع السياسي.

وفي النظرة التحليلية لجرامشي يجب أن تكون هناك مجموعة من المجتمع قادرة على التأثير في الوعي وتحويله إلى التفكير في المجتمع ككل وفي الصالح العام لكل أفراد المجتمع معًا، على أن يكون ذلك عبر تعدد الأنشطة ذات الطابع المثالي والثقافي المهيئة لتوحيد التوافق الأوسع والالتفاف حول قيمها، تلك الأنشطة التي تفترض أن يتقلد المثقفون والمفكرون مناصب القيادة وأن يكونوا هم مَن يتولون دفة الركب المجتمعي. وهذا يعد من أهم الموضوعات التي نجدها في كتابات جرامشي، التي تحدد الرموز التي استطاعت أن تضمن موافقة الطبقات الأدنى من الطبقات المهيمنة على مستويات مختلفة.

وفي منظور جرامشي للفكر السياسي اعتبر البعض جرامشي “الأمير” الحديث، إذ يستدعي في كثير من الأحيان فكر نيكولوه ماكيافيلّي صاحب كتاب “الأمير” المعروف في علوم السياسة وإدارة شئون الحكم، ويعد مؤسس علم السياسة الحديث آنذاك. وتتلاقى رؤية الاثنين في أنهما يريدان تحقيق الإصلاح الأخلاقي والإصلاح الفكري معًا، وهي رؤية المفكر الشامل، على أن يكون المفكر أداة إدارة وتفعيل لبرنامج فعلي وحقيقي بإمكانه أن يشكل حلقة وصل مع الطبقات الاجتماعية الأخرى عن طريق الإدراك الشامل للهيكل الاجتماعي بكل مناحيه في الدول الغربية، وعلى أن يكون مُعَدًا على الصعيد السياسي كي يستطيع أن يتخطى معركة التحرك بين الحروب اتخاذ المواقف السياسية التي تشكل الفرق بين العمليات والإجراءات التي قامت بها روسيا وما قام به الغرب من أجل تحقيق الأهداف السياسية الثورية المرجوة.

وانتهج جرامشي نهجًا تاريخيًا في فكره وأخذ يحلل التاريخ الإيطالي، ماضيه وحاضره، ليخصص وقتًا ليس بالقليل لتحليل حركة البعث أو النهضة التاريخية التي تعد عاملًا تاريخيًا إيجابيًا في الحداثة الإيطالية ومواكبة الثقافات الأوروبية، وإن كان قد هيمن على تلك الحركة قوى معتدلة لم تستطع القوات الفاعلة والمتحركة أن تضاهيها بتنظيم حاشد للجماهير أو حتى في أن تجمع قوات الفلاحين في جنوب إيطاليا وتحركهم.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: