تمازج الأرواح

تمازج الأرواح

الأستاذ الدكتور محمد دياب غزاوي

 

ثمة أشخاص- ودونما اسئذان, وعلى حين غرة- يدخلون حياتنا, وينفذون إلى ذواتنا, ويدلفون دنيانا, ويتراءون في ذرانا, ويقتحمون أسوار قلوبنا, ويضمدون ما انقرح من ندوبنا, ويفترشون دواخلنا, ويقتعدون أفئدتنا, ويزينون أرديتنا, فيؤنسون وحشتنا, ويهدهدون مهجتنا, وينيرون ظلمتنا, ويخففون كربتنا, ويلطفون محنتنا, ويغفرون, إن أخطأنا, زلتنا, ويعفون عن هفواتنا, ويتبدون في مأساتنا, ويرحمون ضعفنا, ويقومون كسرنا, ويتغافلون عن سخفنا, ويهدهدون صدورنا, ويصفون كدورنا, ويربتون على سواعدنا, ويحافظون على مقاعدنا, ويطبطبون على خيبتنا, ويتناسون غفلتنا, ويتعامون عن قسوتنا,

ثلة ممن تسامت أرواحهم, وحلا إصباحهم, وأترعت بالخير أقداحهم, وامتلأت بالحيارى والمعذبين ساحهم, وعميت عن الحقد قلوبهم, واتضحت في طريق الحق دروبهم, قد أشرقت صدورهم, وأشرقت وجوههم, يتسربلون بكريم الخصال, ويتسمون بجميل الخلال, ويتزيون بعذب المنطق ورائع المقال, قد شرفت أرومتهم, ولطفت أريكتهم, وفاحت مسكتهم, وبانت أنفتهم, وعلت في سبيل الله كلمتهم, ورفرفت رايتهم, واستقامت غايتهم. وصفت سيرتهم, وطابت سريرتهم. وتلألأت منزلتهم, وتبدت مرتبتهم, وبرقت مكانتهم, وبانت صيانتهم. ملائكة في زي البشر, وصحابة في زمن الغدر ومهلكات القدر,

هؤلاء من إذا رأوا منا حسنة نشروا وقالوا, وإذا رأوا سيئة ستروا وأقالوا, هم الرائد والحادي, ونعم المستشار والهادي, والوزير للرائح والغادي, هم الكوكب الساري وري الصادي, وملجأ الغادي, والمنادى في الحاضر والبادي, بلسم المدنف, وموئل المرتجف, وركن المستضعف, وإغاثة الملتهف, والغطاء والملتحف, شفاء من كل داء, ومصدر لكل دواء, وردء من كل شقاء, وضياء في كل ظلماء, ومتكأ لكل من شاء.

هم البدر في البيداء, والسها في كبد السماء, هم السنا والثناء, والسند والحباء, والبرء من الأدواء, هم الأمل حينما يشتد الألم, والنور في الظلام المدلهم, والسلام في الوغى المحتدم, هم الهدف حينما ترتج السدف, والمرتشف في الوبا المكتنف, هم طوق النجاة حينما تحلولك الحياة, والموئل حينما يبلغ الظلم مداه, هم باقة الورد حينما ينقطع الود, والوِرْد من سطور المدد, هم اللؤلؤ والمرجان, والملجأ من بطش الطغيان.

هم لمسة الحنان حينما يغيب الأمان, واللسان حينما يتعثر النطق ويغيب التبيان, هم نسمة العليل, والهواء البليل, وشمس الأصيل, والشرف النبيل, والصوى والدليل, والصديق الحميم, والصاحب النديم, والمتغيا والكليم, هم الظل حينما يشتد الحرور, والطل من عالم الشرور, هم الأنا والمنى, والمبتدا والمنتهى, هم نعم الرفيق في ساعة الضيق, واللصيق حينما يخون ويغدر الرفيق, هم الحلم في زيف الواقع, والرجاء من عالم المواجع.

ومن كانت هذي صفاتهم, وتلك خلالهم, فإن الأفئدة لا تلبث أن تتعلق بهم, وتتشبث بدروبهم, وتحتمي بقلوبهم, وإذا بهم وقد تمازجوا في الذوات, وتماهت فيهم الأنوات, وتربعوا في الحاضر والآتِ, نعيش بهم, ونتحمل المشاق بوجودهم, فنتنفس من صدورهم, ونتمثل سطورهم, ونرتوي من معينهم, ونتريض في بساتينهم, فنشتم من ورودهم, ونتزيا من برودهم, وهؤلاء هم من نلتمس منهم الحياة حينما تسنحيل النجاة.

فإذا بهم وقد تشرنقوا بنا, فذبنا فيهم, وانسربوا بداخلنا, فغدوناهم, وكانوننا, فإذا ما غابوا عنا ولو لحظة واحدة, كان لغيابهم وقع في النفس, وحسرة في الروح, ووخز في البوح, وإذا ما هجروا, ويا ويل ما فعلوا, تركوا جرحا غائرا, وألما ممضا ثائرا, وبؤسا لا ينقطع, ومرارة لا تنقشع, وسقما لا يندفع, بكاء النهار, وسهد السرار, ونزيف الاشتياق, ولظى الاحتراق.

فيا هؤلاء حنانيكم, حنانيكم!! ورفقا بقلوب قد تعلقت بكم وتسامت, وذوات قد عشقت وهامت, ونفوس قد تمازجت, وأفئدة قد تهاوت وتمايلت, وأرواح لا تطلب من الدنيا إلا رضاكم, ولا تحيا إلا في سبيلكم ومن سناكم, تسترخص من أجلكم كل غال, وتقدم لكم كل نفيس, حتى لو طلبتموها خالصة لما تأخرت فداء لكم, وقربانا لوجدكم, فرفقا, رفقا!!

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: