تلبيس إبليس
دكتور عبدالسلام مصطفى التريكي – طبيب وكاتب
كتاب “تلبيس إبليس” هذا الكتاب الفريد ونسيج وحده للإمام العبقري والمحلل النفسي أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله وغفر له ، من أكثر الكتب التي قرأتها في مرحلة مبكرة من حياتي العلمية ولازالت آثاره باقية في أعماق قلبي وتفكيري بالرغم من كول العهد بقراءته، وهو كتاب اتَّبع فيه ابن الجوزي أسلوبا تحليليا متقدما للنفس البشرية لا أظن أحدا غيره تمكن منه مثله، وأُسمِّيه حسب تقسيمي الشخصي الخاص “بالمرحلة الثالثة” المتقدمة في تحليل النفس البشرية حسب من وجهة التحليل المتخصص في فهم النفس البشرية، ولا أبالغ إن قلت إنَّ أسلوبه في هذا الكتاب يعجز عنه علماء النفس المتخصصين في عصرنا؛ لأنه يحتاج إلى توفر شرطين أساسيين:
الشرط الأول: عِلم عميق بالوحيين، الكتاب والسنة، لأنهما مصدر فهم النفس البشرية كما خلقها من هو أعرفُ وأعلم بها من البشر سبحانه وتعالى وكما علَّمَ بها نبيه ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الشرط الثاني: عِلم ومعرفة غائرة بسلوكيات وبواطن النفس البشرية والقدرة على فهمها وتحليلها.
وهذان الشرطان قد توفَّرا وزيادة في الإمام الموسوعي أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله في كتابه هذا وفي كتبه الأخرى السلوكية وخاصة “صيد الخاطر”، فله أسلوب فريد في التحليل والاستنتاج، لعل الله ييسر واُفرد له مقالا مطولا.
ولعله من المفيد أن أذكر بعض التفصيل هنا في تفصيل ما قصدته بتقسيمي التحليل النفسي إلى ثلاث مراحل متصاعدة:
المرحلة الأولى: التحليل النفسي الظاهري.
وهو محاولة فهم وترجمة وتفسير السلوكيات الظاهرة للبشر تفسيرا سطحيا يعتمد على ما يتلفظ به الناس وما يُظهرونه من أقوال وأفعال ومعاملات بينهم وما يترتب عليها من سلوكيات، ولاشك هذا التفسير هو الشائع عند كثير من الذين يحاولون تفسير السلوك البشري وهو تفسير وتحليل يخالطه قصور كبير بسبب عدم ربطه بفهم بواطن النفس البشرية.
المرحلة الثانية: التحليل النفسي الباطني أو الداخلي.
وهو محاولة فهم بواطن النفس البشرية وأسرارها ومقاصدها المُستترة، وجعلها خلفية لتفسير سلوكياتها وأن كل تصرفاتها نابعة مما تخفيه النفس البشرية وليس مما تُظهرهُ. ولاشك أن هذا التفسير هو أكثر تطورا وعمقا من المرحلة الأولى ، ولكن ينقصه أيضا أنه تفسيرٌ قاصر بدرجة أقل من الأول، لأنه لايعطي تحليلا وتفسيرا شاملا للنفس البشرية المعقدة ، ويمكن أن يحدث فيه تجاوزات وغلو غير مُحبب في تفسير الكثير من السلوكيات البشرية وخير مثال ما نجده في بعض النظريات الحديثة الغربية المجردة التي تجعل كثيرا من السلوكيات البشرية الطبيعية تجعلها سلوكيات مرضية تحتاج لعلاج نفسيي، ولعل الله ييسر تفصيلا خاصا أوسع.
المرحلة الثالثة المتقدمة: التحليل النفسي الشمولي المتكامل، أو ثلاثي الأبعاد.
وهو أعلى المراحل في التحليل النفسي البشري ولا يوفق له إلا قلة من العلماء المتخصصين وما أعتقده هو أن ابن الجوزي رحمه الله هو من أئمة هذا المجال، بل ربما هو أحد مؤسسيه. فهو تحليل يعتمد على ما ذكرته أعلاه في الشرطين، وهو يعتمد على فهم واسع ومؤصل وعميق للوحيين الكتاب والسنة واستنباط كل المعاني النفسية والسلوكية التي تشرح النفس البشرية بظواهرها وبواطنها وتطبيقاتها في الوحيين. أي بمعنى: فهم النفس البشرية المُبيَّنة في الوحيين بكل تفاصيلها وعمقها، وهذا أمر ليس بالسهل كما يظنه البعض، وليس متاحا لكل عالم بالشريعة، فهو زيادة وخصوصية لا تتهيأ إلا لقلة من عباقرة العلماء من أهل الاستنباط والغور في أسرار النصوص الشرعية. ثم فهم ظواهر وبواطن النفس البشرية وأسرارها ومقاصدها وسلوكياتها بالاطلاع على من سبق من العلماء المتخصصين في سلوكيات النفس البشرية وأخذ ما يصلح منها وترك مالا يصلح اعتمادا على ما سبق من فهم نصوص الوحيين وعلى خبرة شخصية واسعة في فهم واقع النفس البشرية وسلوكياته، ثم جمع كل ما تقدم واستخلاص منظومة فكرية وعقلية وسلوكية يمكن بها تحليل كل سلوكيات النفس البشرية وربطها بالواقع وجعلها منظومة تحليلية متسقة قادرة على تفسير واضح يربط بين السلوكيات الظاهرية والسلوكيات الباطنية بما يضمن تفسيرا متسلسلا ومتشابكا لكل تصرف وسلوك بشري يخرج بصورة واضحة عن حقيقة أسباب وطرق ونتائج السلوكيات البشرية ليَتَّسِقَ تحليل الوحيين الأصلي في فهم النفس البشرية مع التحليل البشري النفسي لظواهر وبواطن النفس البشرية ، وهذا مالا يُوفق له إلا من قد جمع بين علم الوحيين وعلم البشر النفسي ولا أظن أحدا قد سبق ابن الجوزي إليه بكل تفصيله المُدَوَّن بين أيدينا.