تحليل موسيقى الشعر في قصيدة المازني:”أين أمك؟” 

الأستاذ الدكتور محمد فايد هيكل

ابتكر المازني تشكيلا جديدا للقافية يعتمد على إيجاد تففية داخلية في البيت توائم تقفيته الخارجية دون تكرارها في بيت آخر
وتمثل هذا التشكيل قصيدة:”أين أمك؟” وهي قصيدة لاتتجاوز بحسب النظام العروضي الخليلي خمسة أبيات أما بحسب الطريقة التي اتبعها الشاعر في كتابتها فهي خمسة عشر سطرا مقسمة إلى مجموعات وكل مجموعة تمثل ثلاثة اسطر والسطر الأول ثلاث تفعيلات والثاني تفعيلتان والثالثةتفعيلة وهكذا:
لم أكلمه ولكن نظرتي
ساءلته:أين أمك؟
أين أمك؟
وهو يهذي لي على عادته
_مذ تولت_كل يوم
كل يوم
فانثنى يبسط من وجهي الغضون
ولعمري كيف ذاك ؟
كيف ذاك؟
قلت لما مسحت وجهي يداه
:”أترى تملك حيلة؟”
أي حيلة؟!!
قال:”ماتعني بذا ياأبتاه؟!
قلت:”لاشيء أردته”
ولثمته
وقدعد أستاذنا الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي هذه القصيدة من الشعر الحر وأنها من بحر الرمل ولكن الشاعر تصرف في أشطرها فجاء بها ثلاث تفعيلات في الشطر الاول ثم تفعيلتين في الشطر الثاني ثم واحدة في الشطر الثالث وكل التفعيلات من جنس واحد فهيكله العروضي هكذا:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن أو فاعلان
فاعلاتن فاعلان او فاعلاتن
ورأى أستاذنا الدكتور خفاجي رحمه الله أن المازني بذلك أسبق من أي شاعر آخر نظم شعرا حرا على صورة ملتزمة في القصيدة وسحب الدكتور هذا الحكم نفسه على قصيدة أخرى للمازني هي:”ليلة وصباح” وقصيدة للعقاد بعنوان:”المصرف”في ديوانه:”عابر سبيل”
ولكنني أرى في هذه القصائد رأيا آخر غير مارآه أستاذنا ولنجعل مناقشتنا الآن في القصيدة التي معنا:”أين أمك”؟
فهذه القصيدة إذا أردنا أن ننظر إليها من منظور الأبيات المنتظمة وجدنا أن كل مجموعة تمثل بيتا منتظما هكذا:
لم أكلمه ولكن نظرتي ساءلته أين أمك أين أمك؟
وهو يهذي لي على عادته مذ تولت كل يوم كل يوم
فانثنى يبسط من وجهي الغضون ولعمري كيف ذاك كيف ذاك؟
قلت لما مسحت وجهي يداه
: “أترى تملك حيلة أي حيلة؟
قال ما تعني بذا يا أبتاه؟
قلت لاشيء أردته ولثمته
لَـــمْ أُكَـــلِّــمْــهُ وَلَــكِــنْ نَــظْـــرَتِــي سَــاءَلَــتْـهُ أَيْــنَ أُمُّــكْ؟ أَيْــنَ أُمُّـــكْ؟
وَهْــوَ يَــهْــذِي لِــي عَــلَـــى عَـادَتِـهِ — مُذْ تَوَلَّتْ — كُلَّ يَوْمْ! كُلَّ يَـوْمْ!
فَانْثَنَى يَبْسُطُ مِنْ وَجْهِـــي الْغُضُونْ! ىوَلَـعَـمْرِي كَـيْـفَ ذَاكْ! كـيْـفَ ذَاكْ!
قُـلْـتُ لَـمَّـا مَـسَـحَــــتْ وَجْـهِـي يَدَاهُ «أَتُـرَى تَــمْـلِــكُ حِـيلَـةْ؟ أَيَّ حِــيـلَةْ»
قَــالَ: «مَـا تَـعْـنِــي بِـذَا يَـا أَبَـتَـاهُ؟» قُـلْتُ: لَا شَـيْءَ أَرَدْتُـهْ! وَلَــثَـمْـتُـــهْ!
فإذا أخذنا مع هذا بنظام التقفية المتبع في العروض الخليلي بدت القصيدة من الشعر المرسل لأن قافية كل بيت لاتتكرر في البيت الذي يليه ولكننا نلاحظ أن هناك لونا من التردد القافوي ولكنه ليس التردد الشطري بين العروض والضرب أو بين أضرب الأبيات كما هو معهود وإنما ينشئ الشاعر ترددا قافويا بين التفعيلتين الأخيرتين من البيت او بين السطر الثالث والتفعيلة الثانية من السطر الثاني وحروف هذه القافية بل حروف الكلمة المكونة للتفعيلة تتكرر جميعها وهذا يحدث في ثلاثة أبيات من القصيدة وتتكرر أكثر حروف كلمة القافية في البيت الرابع ولا يقتصر التكرار على حرفي الروي والوصل إلا في البيت الأخير
فالقصيدة إذن ليست من الشعر الحر وإنما هي قصيدة ملتزمة بنسب التفاعيل المنتظمة وإن كتبها الشاعر بطريقة غير الطريقة المعهودة في كتابة الأبيات
أما التجديد الحقيقي فهو في نظام التقفية وهو تجديد لايخرجها من الشعر الملتزم بإطار منتظم إلى مايسمى بالشعر الحر
والقصيدة مع هذا التشكيل المبتدع نبرة أسى حزينة عميقة فهي تبدو حديثا خافتا هادئا مهموسا ولكنه يهز النفس من أعماقها ويسيل الدموع من مآقيها دو أن يلجأ الشاعر إلى صور خلابة أو عبارات مجلجلة فهي تصور موقفا وجدانيا بينه وبين طفله الصغير بعد أن ماتت الأم وافتقد الشاعر وابنه أحضان المحبة والحنان وبقي الأب ينظر إلى طفله الصغير نظرات مشحونة بمرارة الأسى واللهفة والصغير لايدري من الأمر شيئا بل هو لايزال يهذي هلى عادته ويمسح وجه أبيه بيديه ليزيل الغضون عن محياه ولكن الشاعر في غيبوبة حيرته وعذابه تفلت منه كلمة تساؤل عن حيلة يستطيع بها الصغير أن يعيد أمه والصغير لايدرك ماذا يعني أبوه بالحيلة؟!!
فما يملك الشاعر إلا أن يرجع عن تساؤله الغريب ويلثم طفله
والشاعر يعتمد في تأثيره على إيحاء الألفاظ وعلى العبارات التي تصور الموقف النفسي تصويرا ماديا واقعيا ليس فيه شيء من تجنيح الخيال او تركيب الصور وضغطها وتأتي عبارته في صدقها وفطريتها متنوعة بين الوصف والتساؤل او بين الخبر والإنشاء في إلهام موح وبراعة فنية
والشاعر يكرر في اربعة أبيات كلمات بعينها يكون بها التقفية في كل بيت ففي البيت الأول يكرر”أين أمك” وفي الثاني:”كل يوم” وفي الثالث:”كيف ذاك” وفي الرابع” أي حيلة”بعد أترى تملك حيلة؟”
وهذا التكرار صدى لشحنات وجدانية صادقة لاتكلف فيها:
فالتساؤل اليائس في”أين أمك؟””أين أمك”؟
والأسى والألم الممض في”كل يوم كل يوم”
والحيرة الشاجية في”كيف ذاك ؟كيف ذاك؟
والعجز المضني في”تملك حيلة أي حيلة؟”
والتقفية هنا في هذه الأبيات الأربعة لاتتجه إلى التأثير عن طريق جرس الحروف،بقدر ما تتجه إلى التأثير عن طريق الإيحاء الناشئ من تكرار كلمات بعينها؛أما في البيت الأخير فلا تكرار للكلمات وإنما هو تكرار الروي والوصل فحسب وهنا ياخذ الشاعر في التأثير عن طريق جرس الحروف فهذه التاء المضمومة وهذه الهاء الساكنة في”أردته”و”لثمته”توحيان بما فيهما من الخفاء ورقة الجرس بما يبثه الشاعر المكدود المضنى من تحنن على صغيره المسكين وتتكرر التاء خمس مرات في هذا البيت وهي حرف مهموس خافت
قال ماتعني بذا يا أبتاه قلت:”لاشيء أردته ولثمته
أما الهاء فتتكرر ثلاث مرات مرة موصولة بالضم بعد ألف المد في:”ياأبتاه”فتكون باعثة على الإحساس بآهات الشجى إلى جانب حروف المد الوافرة في البيت ومرتين بعد التاء في كلمتي القافية (أردته- لثمته) والهاء الساكنة بعد الضم تطلق الهواء من الصدر دون تشعب وامتداد لأن الضم يجعل الصوت ضيقا فهذا التحنن الرقيق لايتشعب هنا وهناك وإنما يتجه إلى الصغير وحده.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: