“بَهاء” النص 3 – خطر 

 

بقلم: د. نهى مختار محمد

شاهدت برنامجا قديما اسمه (أهلا وسهلا) كان يُعرض في فترة السبعينيات من القرن الماضي استضاف فيه الإعلامي اللامع طارق حبيب الشاعر صلاح جاهين، من ضمن فقرات البرنامج الشائق أن يدخل الضيف غرفة اسمها غرفة المُراسلات، وفيها طلبَ حبيب من جاهين أن يكتب خمس برقيات لخمس شخصيات مختلفة، فاختار أن تكون البرقية الأولى لسعاد حسني، والثانية لبهاء جاهين ابنه العزيز، وهذه البرقية هي التي يهمنا أن نعرضها في المقال البهائي الثالث.
كتب: “الشاعر الشاب بهاء جاهين.. من فضلك يا ابني ركز انتباهك هذا الصيف وتختار لنا عشرين قصيدة لك تكون راضيا عنها لننشرها لك في ديوان، تمنياتي بالحظ السعيد. بابا”
كلمات بسيطة رقيقة داعمة لشاب مبدع في المرحلة الجامعية أو حديث التخرج يعمل معيدا في الجامعة، لكنه متردد الخطى، يبدو هذا من كلمات أبيه التي ترجوه أن يخطو خطوة جادة نحو نشر إبداعه، كما يبدو أيضا في كلمات محمد عناني التي سبق أن عرضناها، أتصور كيف كانت فرحة صلاح جاهين بابنه الشاعر بعد أن نشر أول ديوان له، وأتصوره أيضا لو كان حيا الآن ويقرأ ما أخطه بقلمي الناقد المتواضع عن إبداع بهاء الذي استغرق مني ثلاثة مقالات شغلت ثلاثة أعداد من مجلة الديوان الجديد العزيزة.
لدى بهاء جاهين في ديوانه (الرقص في زحمة المرور) قصائد تبوح بمعانيها أكثر مما تخفي، كما عرضنا في المقالين السابقين قصائد مثل (البيانو) و(شتاء الوطن) و(تقرير)، وعلى النقيض فهناك أسرار غامضة في الديوان على هيئة قصائد تشعر إنها مجرد إشارات وعلامات وتلميحات لفكرة ما وشعور ما وأزمة ما، فكرة خفية وشعور غير معلن يتركك حائرا في فهم معناه واستنطاقه.
وهذا يبدو في قصيدة (الأصوات)، القصيدة الفريدة التي جعلها قصيدة حوارية تقوم على الحوار بين طرفين أولهما مجهول وغامض هو الذي بدأ الحوار بالعربية الفصحى، لنجد أن بطل القصيدة -وهو الطرف الثاني- يجيب بالعامية المصرية، وهذا سر من أسرار تميز هذه القصيدة على المستوى اللغوي والمستوى الإيقاعي والشعوري أيضا.
“ابسط كفيك على المائدة وأغمض عينيك
مين اللي بيتكلم؟
أنا وحي يُوحى
أحسن أكون اتجننت؟
اهدأ يا إنسان وابسط كفيك
والآن أغمض عينيك/ قلبك ينفتح الآن/ لا تفزع حين تراني أدخل قلبك”
مَنْ هذا الوحي الذي يتحدث إلى الشاعر ويأمره ببسط يديه وإغماض عينيه ليدخل قلبه؟ هذا سر من أسرار الشاعر الذي يرى نفسه شخصا فريدا يأتيه وحي عجيب لا يأتي للأشخاص العاديين الذين يسيرون في زحمة المرور، هل الشاعر يتصور أن هذا الوحي هو صوت قلبه أو عقله أو روحه لكنه تحول من صوت داخلي إلى صوت خارجي مسموع لقوته وسيطرته وقوة حضوره؟
إن المبدع يصرح في هذه القصيدة بأن “الرقص في زحمة المرور خطر”، ثم يقول:
“وإن كنت غاوي رقص.. خليك في الدفا
في أوضة مقفولة عليك
الدنيا برد
والناس ماهماش مبسوطين زيك
وأنت فاتح لي إيديك/ وعايز تحضن الأتوبيس
النشوة أخطر حاجة ع المجانين
ارجع لبيتك واقفل الشباك”
هذه السطور تنظر إلى المبدع على أنه مجنون، لديه نظرة مختلفة للكون، وبالتالي لديه سلوك مختلف، فهو يسمع لحنا جميلا من ألحان الوجود يجعله يرغب في الرقص وسط الزحام في البرد ثم يكتشف أن هذا خطر، وأنه سيكون بذلك غريبا ووحيدا وعجيبا، إنه يشعر بالنشوة والانبساط الذي يصل إلى حد الرغبة في احتضان “الأتوبيس”، في حين أن الناس في الشارع مؤكدا يتذمرون من زحامه ولا يرونه بهذه النظرة الرومانسية التي يرى بها الشاعر الكون، لذا فإن الصوت الخارجي المجهول ينصحه بالعودة إلى البيت وغلق الشبابيك، أي يدعوه للانعزال والتوحد مع الذات التي لا تتفق رؤيتها مع رؤية الناس في الشارع، ومن هنا يمكن أن تتكشف دلالة عنوان الديوان أخيرا؛ إن الرقص في الزحام غربة، وإن التفرد والتميز عن الآخرين خطر، لكنه الخطر الذي لا يستطيع أن يحيا دونه أي فنان مبدع حر حتى لو أدى إلى اغترابه وهلاكه.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: