“بَهاء” النص بين ناقد ومبدع في زحمة المرور


بقلم: دكتورة نهى مختار محمد

عظيم وجميل أن تجد العين التي تنظر إليك، وتقرأ ملامحك، وتفسر كلماتك، وتحلل لغة جسدك، وتتأملك تأملا جميلا لتُشعرك أنك شيء يستحق النظر، يستحق أن يشغل الآخر ويحتل مساحة من وقته وخياله ليخصصها لذاتك، هذه العين هي (النقد)، والذات هي (النص).
النصوص التي نظر إليها النقاد نصوص محظوظة ونصوص مُحققة، أما النصوص التي أهملتها عين النقد فهي تعيسة مسكينة تشعر أنها غير محققة على الرغم من أنها قد تكون أكثر جمالا وصدقا من نصوص راعاها النقد ومنحها الضوء.
النص الذي أمامي هو ديوان مضيء للشاعر بهاء جاهين صدر في عام 1985، وعين الناقد الذي قدّم له الديوان هي عين المبدع الناقد المترجم محمد عناني، فأمامي إذًا شكلان من الإبداع متصاحبان بين دفتي كتاب عزيز أُهدِي إليّ في الرابع عشر من سبتمبر من هذا العام.
يتحدث عناني عن ذلك الشاب الشاعر الذي عرفه قبل عشر سنوات إذ كان هذا الشاب طالبا في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، الشاب الذي يفوق سنّه “ويتميز عن سواه بنضج مبكر أشفقتُ منه عليه”، إنه يشفق على الشاعر الصغير من إدراكه الزائد وحساسيته ووعيه وعمقه، وهذا حقا يستدعي الإشفاق قَبل أن يستدعي أي مشاعر أخرى من إعجاب وتقدير، ولا يعني هذا النضج أن الشاب الطموح كان مستبصرا طريقه واثق الخطى، بل إن عناني كان يشفق عليه من شيء آخر، يقول: “كنتُ أشفق على بهاء في تلك الآونة؛ لأنه كان غير واثق مما يريد أن يفعل، كان ممزقا بين الدراسة والإبداع”، تعودُ إليَّ فكرة (التمزق) مرة أخرى بعد أن كتبتُ عنها مقالين سابقين في هذه المجلة الكريمة، هذه الفكرة التي لا ترتبط بجنس أو بفترة معينة، فالتمزق (لحظة) كما رأينا عند جليلة بنت مرة، والتمزق (عُمْر) كما رأينا عند جليلة رضا، وإن كانت فترة الشباب وبدايات الطريق تشهد حضور هذا التمزق بقوة، كما رأينا عند بهاء جاهين، وكما نرى كل يوم في محيطنا الاجتماعي في قصص الشباب، وبخاصة إن وظيفة الأستاذ الجامعي تسمح لك بمعايشة تلك التجارب مع شباب المبدعين والفنانين بصورة كبيرة.
تحدث عناني عن مسيرة الشاعر الشاب حتى تعيّن معيدا في الجامعة وحصل على الماجستير، وأقام في أمريكا، وتغلب على تردده وتمزقه بنشر أول ديوان، وقارن الناقد بين تجربة بهاء وبين تجارب شعراء آخرين مثل وردزورث وكولريج، وتحدث عن الاستعارة وبلاغة استخدامها عند الشعراء ومهارتهم في توظيفها، وعن قضية العامية والفصحى وارتباطها بالصدق والواقع والحيوية والحس والتنغيم وموسيقى الكلمات، وبراعة الدمج غير المتناقض بين العامية والفصحى في القصيدة الواحدة عند بهاء، وتطرّق إلى الرومانسية وجوهرها، والشعراء التصويريين، ومن ثَم تحدث عن الصورة عند جاهين بقوله: “إن الصورة عنده صورة محققة تنبع من الواقع وتصب فيه، وهي صادقة لأن حزنها الرومانسي ينتمي لهذا العصر لا للتراث التقليدي”.
إنه يقرأ الشاعر ويقرأ إبداعه فيقرأ معهما العالم الذي يتسع كلما ازدادت خبرات المرء المعرفية، وهذا هو الناقد الخبير المثقف الذي تجد في كلماته غنى وثراء ووفاء برغم مساحة الصفحات المحدودة، فيحققُ لك عندما تطالع كلماته متعة مضاعفة تشبه متعة التنزه في معرض ورد عامر بصنوف مختلفة من الأزهار يقدمها لك شخص بليغ يؤدي دور المرشد السياحي.
بعد أن تنتهي جولتك في معرض الورد/ مقدمة الناقد، تدخل مدينة الإبداع المتسعة/ ديوان “الرقص في زحمة المرور”، الذي يبدأ بالقصائد المكتوبة بالفصحى، ثم بالقصيدة التي تجمع في نسيجها بين العامية والفصحى في تجربة جميلة ناقشها الناقد، ثم بالقصائد المكتوبة بالعامية التي تذكرنا كثيرا بأبيه الشاعر الكبير الراحل “صلاح جاهين” الذي ورث عنه بهاء الإبداع ذا النكهة الخاصة.. نكهة جاهين.
نكهة جاهين مصرية جدا حتى لو كان يكتب من نيويورك، نكهة ساخرة ورومانسية تمتزج دائما بالرقة والوداعة والبساطة:
ازاي بقيت غريب في بلد غريب
وف ليل غريب..
بكتب جواب لامّي
تنزل دموعها على الحروف.. تتمسح
ترسم خريطة مصر بالألوان
…. …..
أنا شفت نهر النيل وطميه القديم
شفته في عينيك يا صلاح
“ساعات أقوم الصبح قلبي حزين”
أمسح بكفي ع البيوت
وأقول..
خلاص يا مصر. نيويورك 1983
نكهة تعشق مصر، لكنه ليس العشق المثالي الحالم المترفع عن إحباطات الواقع:
أيوه العتب ع النيل
علّمنا نحمد ربنا ونقول:
برضو انتي أم الدنيا يا بلدنا”
برضو انتي أم الدنيا بس خلاص
يا موميا نايمة في ظل أمجادنا
أعظمها قبر كبير
واسمه الهرم
والعشق حواليه والعناق اليائس
ماضي ملوش مستقبل.
والقصائد الفصيحة أيضا يتجلى فيها الوطن بوضوح، الوطن بوصفه قيمة ومعنى مطلق، وبوصفه قيمة مقيدة في البلد (مصر)، ويتجلى فيها كذلك موضوعات أخرى جميلة بينها خيوط اتصال لطيفة وشاعرة أحبُّ أن أتأملها في لحظة خاصة في مقال جديد قادم بإذن الله، نرى معه صور “الشتاء”، ونعرف عنده “معنى الأيام”، ونقرأ معه “التقرير”، ونسمع لحنا جديدا “للبيانو” في زحمة المرور.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: