بَدِيل من تَدَانِينا 

بقلم: د. نهى مختار محمد
تتصفح موقع القراءة Good reads الذي يضع الكتاب نجما مضيئا على مسرح الفضاء الافتراضي يحتفي الجمهور به احتفاء فاعلا ينقده ويضيف إليه ويقيس مقبوليته وانتشاره، إنه تطبيق رائع لنظرية التلقي التي تختبر القيمة الجمالية للنص عبر التاريخ، وجدير بالذكر أن أول من درّس لي نظرية التلقي في النقد هي الدكتوره الجميلة قدريّة رحمها الله، زوج العالم المجمعي الدكتور صلاح فضل -رحمه الله- الذي توفاه الله منذ أيام تاركا رصيدا عظيما من الإنجازات النقدية، استحق بها أن يكون شيخ النقاد في العصر الحديث.
كانت د. قدرية تدرس لنا من كتابه: (مناهج النقد المعاصر)، وكانت حلقة الوصل بيننا وبين د. صلاح إذ تخبرنا أنه يقرأ مقالاتنا -(نحن العَشَرة/ دفعتي العزيزة)- ويتابعنا عن بُعد من خلالها ويعلق دائما بقوله: “طالب الألسن طالب مختلف، لديه وعي بحثي على درجة عالية من العمق والجودة والكفاءة”، كنا نسعد كثيرا حينما تنقل إلينا آراءه في كتاباتنا المتواضعة، وكانت تدعونا إلى زيارة بيتها بكل محبة وعطاء، ولكن ربما منعنا الخجل من تلبية الدعوة، وهو شيء مؤسف أن يمنعك الخجل أو الجهل من فرص ثمينة قد لا تتكرر بعد ذلك، وكما يقول أستاذي قطب النقد متفقا مع بعض الحكماء: “أنا لا أندم أبدا على أشياء فعلتها، بل أندم على أشياء لم أفعلها”.
كنتُ على موعد مع سعادة خاصة إذ تتصل بي د. قدرية في أحد الأيام وتقول لي: “نهى.. هل أنت نهى مختار المكتوبة أمامي الآن على صفحة مجلة الكويت أو هو تشابه أسماء؟”، كان هذا السؤال منقولا عن د. صلاح إذ سألها هل هذه هي هي تلميذتك التي في الفرقة الرابعة في قسم اللغة العربية بكلية الألسن، فأجبتهما بنعم ممتزجة بعميق الامتنان لهذا الاهتمام الصادق والكبير لشخص صغير مثلي، ومن وقتها وقد اكتسب دكتور صلاح فضل منزلة في نفسي قبل أن أقابله، إلى أن التقيت به بضعة مرات قليلة، آخرها كان منذ سنوات في ندوة جميلة عقدت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة بحي الزمالك، لكنه ظل لقاء عن بُعد كما بدأ؛ فقد كنتُ في كل مرة أحضر له وأستمع إليه لا أذهب إليه، ولا أعرّفه بنفسي، ولا أقول له: هل تذكر الطالبة التي كنت تسأل دكتور قدريه رحمها الله عنها، حتى توفاه الله تاركا أعظم لقاء لنا به حين تقابله في صفحات الكتب العظيمة التي أبدع فيها نصوصا نقدية أصيلة.
نعود إلى موقع القراءة الذي أدعو كل قارئ إذا كان لا يمتلك حسابا فيه أن يبادر لإنشاء حساب خاص له، ويستمتع بقراءة وجهات النظر المختلفة حول كتاب واحد، ويضيف إلى هذا الرصيد وجهة نظره واثقا من أنها ستصل إلى آخر تفيده كثيرا وتمتعه وتضيف إليه وإلى الكتاب المصنف قيمة جمالية عظيمة تزداد مع كل عملية تلقٍ، يقول د. صلاح في كتابه المذكور: “فنحن لا نلتقي إلا بالنص المؤول الذي باشره الباحث بالقراءة، وتتكون عملية النص هذه من مجموعة من الأحداث المبسطة أو المتنوعة التي تتضمن تلقي بعض الجماعات للنص عند تقديمه والتعليق عليه أو ترجمته ومراجعته، للوصول إلى تقييمه في ذاته، وعلاقته بنصوص أخرى مستقلة عنه، وعندئذ يتبين لنا أن المهم في حقيقة الأمر ليست علاقة النص بالقارئ، بل القارئ بالقارئ”.
وهكذا تعد القراءة نشاطا خلاقا كما يوضح د. فضل، بخاصة إذا كانت هذه القراءة حكيمة وواعية وأصيلة وجميلة، ناتجة عن عقل مثقف، وذهن متقد، ورؤية نقدية ثاقبة.
ولنأخذ سطورا من مراجعة نقدية قيمة على موقع القراءة ترى فيها إبداع التلقي الأديب، هذه المراجعة لكتاب (ديوان الحماسة) لأبي تمام، وهنا.. أبو تمام لا يكتب بوصفه شاعرا، بل يكتب مختاراته الشعرية بوصفه قارئا متلقيا محبا للشعر، وببساطة، فإن أبا تمام يكتب الأبيات الشعرية التي يحبها ويفضلها إذ وجد فيها قيما جمالية وفكرية ترضي ذائقته، وأحب أن يشاركها مع جمهور القراء عبر التاريخ الممتد، منذ القرن الثالث الهجري حتى وقتنا هذا، كما تشارك أنتَ مع صديقك المفضل الأشياء التي تهواها وتشغل مساحات من قلبك وعقلك وروحك.
المراجعة الجميلة لد. سيد محمد قطب تأخذ شكلا فيه صداقة مع المتلقي بأسلوب استعاري تصويري أديب، وليس نقدا دقيقا يصدر أحكاما، إذ يقول فيها: “تريد أن تكون شاعرا؟ افعل مثل أبي تمام، افتح الدواوين وسجل ما يعجبك، اكتب مختاراتك من تلك الغابة الشاسعة الرحبة الملتفة، خمائل خضراء زاهية متشابكة مثل دراما عريقة عميقة، في عرض ساطع أمامك، لم يكن أبو تمام شاعرا من فراغ، موهبة عشوائية شعريتها متناثرة في سحب متفرقة تلقيه بأودية متباعدة، أبو تمام حلقة في متوالية تمتد إلى صلاح عبد الصبور، الشاعر المفكر الذي يبحث في مرايا الشعراء عن صورهم الناطقة في جوهر النفس بخصوصية الموهبة، مختارات أبي تمام درس في النسيب، الوقوف على ذكريات الأحبة، وتأمل قوافل الثقافة الجميلة، التي سهرت فيها الأشواق وهي ترقب شموس الغد لتتخرج في مغامرة الحياة، ربما تذوب وجدا، أو تفيض عشقا، أو تنتفض غضبا، أو تقتنص حكمة، ستجد في ذاكرتك بيتا تسكن فيه حالة نفسية تعايشها الآن، ربما كان هذا البيت هو:
الله يعلم أنا لا نحبكم// ولا نلومكم أن لا تحبونا
الشعر شجر سامق باسق، فيه تألق ودقة في استقصاء المعاني النفسية، كانت هناك روح عاطفية متدفقة وواعية، تعرف كيف تشق مجراها في شرايين اللغة، لم أجد مثل قول ابن الدمينة:
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي// ما كان أكثرها لنا وأقلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة // شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
هذه استراتيجية شعورية تتجاوز ما يقال في التنمية البشرية وبرامج التأهيل النفسي لدعم السلوك العاطفي”.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: