بهجت العبيدي يكتب: هل أصبح خلود الإنسان قريباً؟!

هل أصبح خلود الإنسان قريباً؟!

بقلم: بهجت العبيدي

 

إن التطور الطبي الذي تحقق في العقود الأخيرة بالإضافة إلى التغذية الأفضل استطاعا أن يزيدا كثيرا من متوسط عمر الإنسان، فبنظرة سريعة على متوسط عمر الإنسان في حقب زمنية مختلفة نجد أنه خلال العقود القليلة الماضية، زاد متوسط الأعمار بشكل ملحوظ في مختلف بقاع العالم، فبينما بلغ متوسط عمر مواليد عام 1960 – وهو أول عام بدأت فيه الأمم المتحدة تسجيل البيانات دوليا -52,5 عاما، في حين بلغ متوسط العمر اليوم 72 عاما.

وإن كان هذا المتوسط، وهو وصف إحصائي، لم يرتفع لأننا نعيش الآن، كما يظن القارئ الكريم، أعمارا أطول بكثير مما عاشها الأقدمون، بل ارتفع لزيادة نسبة المعمرين بيننا عن ذي قبل. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لأنه بفضل التطور الطبي والرعاية الصحية نجا العديد من الأطفال من الموت هذا الذي لم يكن يتحقق لأسلافنا، حيث أن كثيرا من الأطفال قد ماتوا قبل أن يكملوا عامهم العاشر هذا الذي تؤكده دراسة عن روما القديمة حيث أكدت أن ثلث الأطفال كانوا يموتون قبل أن يكملوا عامهم الأول، والنصف ماتوا قبل عامهم العاشر، وبعده كانت فرص البقاء على قيد الحياة أكثر كثيرا، ومن عاش حتى الستين رُجِح أن يعيش حتى السبعين.

وإجمالا يمكن القول إن طول العمر في روما القديمة لم يختلف على الأرجح كثيرا عنه اليوم. ربما كان أقل بشكل طفيف “لعدم توافر الوسائل الطبية المقحمة في نهاية الحياة التي تطيل العمر قليلا، ومع ذلك الفارق ليس كبيرا”، كما يقول وولتر شايدل، الباحث الرائد المهتم بالتركيبة الديمغرافية للمجتمع الروماني القديم.

ومما لا شك فيه أنه كان للثورة في مجال الطب الحديث الفضل الأول في نجاة هذا الكم الهائل من الأطفال من الموت، هذا الذي لم يكن يتحقق إلا بفضل الرعاية الصحية التي يتحصل عليها الطفل منذ اللحظة الأولى التي يلتقي فيها الحيوان المنوي الذي قذف به في رحم أنثى بالبويضة ملقحا إياها، لتبدأ رحلة المتابعة مع الطبيب – طبيب النساء والتوليد – حتى الولادة ومن بعدها تبدأ مرحلة أخرى يتحمل فيها طبيب الأطفال مسؤولية الفحص والكشف لوصف الرعاية الطبية المناسبة ومعالجة كل ما من شأنه أن يهدد الوليد أو يوحي بالخطورة على الحياة، هذا الذي جعل نسبة وفاة الأطفال في الدول المتقدمة قليلة للغاية بالمقارنة بالدول المتخلفة، ففي حين أنه يتوفى ١٨٤,٤٤ لكل ألف وليد في أنجولا والتي تأتي كأكثر دولة في التصنيف بالنسبة لعدد وفيات الرضع فإن هذا العدد يتقلص بشكل كبير جدا في دولة مثل سنغافورة التي يتوفى فيها ٢,٣٠ لكل ألف وليد والتي تأتي في مقدمة التصنيف.

وإن كان العلم قد استطاع أن ينقذ ملايين بل ملايير المواليد من الموت ليضمن لهم ردحا من الزمن في الحياة فإنه يبدأ طريقا جديدة، خطى فيها خطواته الأولى، يسعى فيها الوصول بالإنسان إلى مرحلة الخلود الجزئي على أقل تقدير، فمن المتوقع أن، بفضل فك الجين البشري، الوصول بسن الإنسان إلى عدة مئات من السنين كما يؤمن بذلك أنصار ما يسمى ما بعد الإنسانية، تلك المرحلة التي سيتشارك فيها البيولوجي مع الآلة في صناعة هذا المخلوق الهجين، والذي بدأت بوادره منذ سنوات؛ فلقد لجأ الإنسان لتعويض ما يفقد من أعضاء الإنسان البيولوجية بغيره مما يتم تصنيعه، هذا الذي هناك فتح جديد فيه واختراقات علمية هامة قد تحققت.

فليس بعيدا عن الذهن تلك التجربة التي أعلن عنها إليون ماكس صاحب شركة نيورالينك من نجاح شركته مع أول مريض من البشر خضع لزراعة شريحة دماغية من التي تنتجها الشركة الناشئة، وإن هذا المريض يتعافى بشكل جيد. مؤكدا: «تُظهر النتائج الأولية رصد زيادة الخلايا العصبية على نحو واعد».

وكانت شركة نيورالينك لرقائق الدماغ التابعة لإيلون ماسك قد أظهرت أول مصاب بالشلل يحرك مؤشرا على جهاز كمبيوتر باستخدام شريحة دماغية زرعت له. وفي بث مباشر مدته 9 دقائق على موقع إكس استخدم المتطوع المؤشر للعب الشطرنج عبر الإنترنت. وخضع المصاب بالشلل أسفل الكتفين لعملية زرع شريحة نيورالينك الدماغية. هذا الذي يفتح آفاقا هائلة لعلاج الأمراض التي لم يكن أسلافنا يحلمون بعلاجها، كما يرهص نجاح هذه التجربة بتغيير شكل العالم، بما سيطرأ على الإنسان، أو بالأحرى بهذا الكائن الجديد الذي يطلق عليه ما بعد الإنسان العاقل من اكتساب قدرات أشبه بما يعرض في أفلام الخيال العلمي، فشخصية “سوبر مان” التي كانت محض خيال لم تعد كذلك، وإنسان الفيلسوف الألماني الفذ فريدريك نيتشة – الإنسان الأعلى – لم يعد مجرد تصور فلسفي.

فإذا كان الفيلسوف الألماني قد دعا إلى امتلاك الإنسان لقدراته والاعتماد عليها فقط دون انتظار مساعدة من قوى غيبية، والتخلص من الضعف، بل كانت دعوته تصل للقضاء على الضعفاء من بني البشر، فإن العلم يخطو خطوات في التخلص من الضعف البشري، ويمكن الآن، بعد فك خريطة الجينوم البشري، أن يصل إلى التحكم في الصفات الوراثية بل ويغير هذه الصفات، ويتخلص من صفات أخرى، ليصنع إنسانا جديدا مختلفا بشكل كبير عن الإنسان الذي نعرفه الآن.

هذا الذي يعمل عليه العلماء وإن كان مازال هناك العديد من العقبات تواجه الانطلاق الكامل في هذه الطريق حيث مازال يخضع الأمر لنقاش مجتمعي يشارك فيه المفكرون والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس وكذلك علماء العلوم الصلبة. وعلى المستوى الدولي فحتى الآن لا توجد رقابة دولية على التلاعب بالجينات البشرية، كما هي الحال في أبحاث الخلايا الجذعية، فبعض البلدان تسمح بها والبعض الآخر تمنعها، والتفاوت يخضع لأسباب متباينة لا حصر لها، والنقاش ما زال جاريا تحت مظلة الالتزام الأخلاقي تجاه هذا الجيل وأجيال المستقبل.

إن هناك مساحة محددة من حجم القلق تقع في “تعديل الخط الجرثومي”.

و”تعديل الخط الجرثومي” يعني التلاعب في التكوين الجيني للأجنة، والخوف كل الخوف يكمن في أن تعديلا كهذا لن يشمل من تُجرى عليهم التجربة فحسب، بل سينتقل إلى كل ذريتهم أيضا، وهكذا فإنه تغيير سيشمل الأجيال المقبلة إلى أجل غير معلوم.

ويقول المعترضون على التلاعب بالجينات – والتلاعب بالجينات يعني بالأساس تغير الحمض النووي للإنسان DNA، وهو الشيء الذي يحدد من نَكونه ويعرّفنا بين الناس بما نحن عليه، ويأمل الباحثون بأن تمكننا هذه التقنية في يوم ما من استئصال أو إزالة الجينات الشريرة المسببة للأمراض، وبخاصة الوراثية منها. – نقول إن المعترضين يذهبون إلى إنه سيعرّض أجيال المستقبل إلى مخاطر غير محسوبة وغير منظورة، كما أن الحصول على موافقة الأجيال المقبلة على إحداث هذا التلاعب مستحيل، وهكذا فنحن نتلاعب بمقدرات حياة الغد، ويشبه الأمر هنا المسير في حقل ألغام أخلاقي.

وهناك من يدعم الباحثين بالمضي قدما، وإلى أقصى مدى، في هذه التجارب معتبرين أن هذا الفتح العلمي الكبير يقرِّب الإنسان من حلمه الأبدي في الخلود، هذا الذي كان أول تعبير عنه في ملحمة جلجامش والتي يتمحور الموضوع الاساسي للملحمة حول أثبات حتمية الموت على البشر حتى بالنسبة الى بطل مثل جلجامش و أن الآلهة وحدها من تنال الخلود، ومن هنا فإن هؤلاء الداعمين دون حدود للتجارب الطبية هذه يذهبون لإكساب الإنسان صفة من صفات الآلهة وهي الخلود، حتى وإن بدأ جزئيا.

وفي هذا الشأن ظهرت حركة ما بعد الإنسانية والتي تشكلت وتطورت تدريجيا منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهي تؤمن بأن الخلود قد يصبح ممكنا في المستقبل، وتركز على استخدام العديد من التقنيات لتحقيق ذلك الهدف، لا سيما تقنيات النانو الجزيئية والتي يمكن تطبيقها على عدة مشاريع بحثية صناعية من خلال تصنيع جزيئات النانو القادرة على نقل العلاجات والمواد التشخيصية بدقة عالية لزيادة فعاليتها بالتالي تحسين جودة العلاجات لأمراض عديدة ومنها المعقدة كالسرطان، وأمراض الكبد، والكلى، والقلب.

وكذلك فإن هناك دورا رئيسيا للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والهندسة الوراثية في إمكانية أن يصبح الخلود ممكنا في المستقبل كما ترى هذه الحركة. والتي هي كما يذهب البعض خليفة لحركة humanism (الأنسنة أو الإنسانوية)، إذ إنها تدعو إلى التطبيق المباشر للعلوم والتكنولوجيا للتغلب على القيود البيولوجية الرئيسية للبشر، فضلا عن الوسائل التقليدية لتحسين الطبيعة البشرية التي تركز عليها حركة الأنسنة أو الإنسانوية، كالتعليم والثقافة والفلسفة.

إن الغرض الأساسي الذي يتحدث عنه المتحمسون للمضي قدما في طريق الاستمرار في التجارب والأبحاث في هذا المجال “الخطير” إنما هو – كما يعلنون – إسعاد البشر وإطالة أعمارهم وتخليصهم من كل ما يؤلمهم على المستوى الجسدي أو النفسي.

أما هؤلاء المعارضون للمضي بقوة في مثل هذه التجارب فإنهم   يتخوفون من فقدان البشر لهويتهم وتحولهم إلى آلات، كما لا يستبعدون حدوث تداعيات غير مقصودة تؤدي إلى فناء البشر أو تصنيع مخلوقات مشوهة على شاكلة فرانكنشتاين – فرانكنشتاين أو إله النار الجديد هي رواية كتبتها الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي (1797-1851) تروي قصة فيكتور فرانكنشتاين، وهو عالم شاب يخلق مخلوقًا غريبًا عاقلًا في تجربة علمية غير تقليدية. كما يثير هذا الفريق المعارض الهوة التي يمكن أن تحدث بين هؤلاء الذين ستكون لهم القدرة العلمية أو المالية على “تعزيز” أنفسهم من استخدام هذه التقنيات التي هي بالفعل باهظة الثمن، وهؤلاء الذين لن يستطيعوا لذلك سبيلا. ويطرحون سؤالا جوهريا حول من يجب أن يقرر ما يعتبر قيودا محددة للإنسان وما يعتبر تعزيزا أو تحسينا لقدراته؟

وهناك فريق يرفض هذه التجارب من منظور عقائدي حيث أن طرح القضية للبحث يثير مجموعة من الإشكالات الأخلاقية ومن ثم فإن رفض هذا الفريق لأنهم يرون في أفكاره تعارضا مع معتقداتهم الدينية – ولا سيما فيما يتعلق بفكرة العيش الأبدي على الأرض، أو التدخل في التركيبة الوراثية للإنسان، أو استنساخ عقول البشر، أو ما يعتبرونه تركيزا على الأمور المادية وتحسين الجسد وتجاهل الروحانيات.

أما نحن فنقف موقفا وسطا بين كل هذه التيارات، فمن ناحية ندعم كافة الأبحاث – وبلا حدود – التي من شأنها تقليل معاناة الإنسان، والتخلص من الآلام والضعف البشري، وإطالة عمر الإنسان كلما ذلك ممكنا، ولكننا نتحفظ كثيرا على تغيير الهوية أو التلاعب في الجينات للحصول على شكل محدد للإنسان وانتقال الجينات التي تم التلاعب فيها إلى الأجيال القادمة، هذا الذي يعني أننا قد صادرنا على رأيهم واخترنا بدلا عنهم كيف يكونون، هذ هو المرفوض لدينا، إضافة للحذر كل الحذر من تخليق كائن جديد يسلب الإنسان مكانته على الأرض باعتباره سيدا لها، لما في ذلك من خطورة حقيقية على الجنس البشري الذي سيصبح مؤْتَمِرًا بأوامر من هو فوقه من مخلوق جديد يمتلك من القدرات ما لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يتحصل عليه.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: