بهجت العبيدي يكتب: في معية جون ميلتون شاعر إنجلترا الكبير
في معية جون ميلتون شاعر إنجلترا الكبير
بهجت العبيدي
تظل الآثار الأدبية شاهدة على براعة الأديب من ناحية؛ وعظمة الثقافة التي تنتج تلك الآثار من ناحية أخرى، ويظل المبدعون في كافة اللغات شعلة تنير العقل، ونورا يهدي القلوب، ومحفزا يثير العقل، ومن هنا فإن تلك الآثار الأدبية تَخْلُد ويخلد صاحبها، وتظل مثار فخر وإعجاب لمن ينتمون إلى جنسية ذلك الشاعر أو ذاك الأديب.
وفي كل أمة من الأمم شخصيات تمثل علامات فارقة في تاريخها الثقافي والأدبي، تلك الشخصيات الفريدة، هي مواهب فذة، لا تتحصل عليها الأمم كل يوم، ولا في فترات زمنية متقاربة، بل هي حالات نادرة، ربما تتكرر كل عدة عقود، أو كل عدة قرون، أو ربما لا تتكرر مطلقا، وربما حرمت أمم من تلك النوابغ فلا تحظى بها عبر تاريخها الممتد، تلك الحالات الخاصة من المواهب الفريدة، تصبح ميراثا إنسانيا، حيث تتخطى هذه المواهب الأمة التي ظهرت فيها، واللغة التي برعت بها، والبيئة التي نشأت بين أحضانها لتصبح ملكا للإنسانية، حيث يظل إنتاجها نبراسا لكل البشر، الذين يتدارسونه، كما يتدارسون حياة تلك الموهبة الفذة من كل جوانبها، وبكل تفاصيلها، حيث في كل مرة يظهر للدارس أو الباحث جديدا، ينتج عن اختلاف الرؤى التي تتنوع بتنوع الدارسين والباحثين.
من تلك المواهب الفذة التي منحتها العناية الإلهية للإنسانية الشاعر الإنجليزي جون ميلتون الذي يكوِّن بجانب جيفري تشوسر وويليام شكسبير، مثلث أبرز شعراء الأدب الإنجليزي.
ولد جون ميلتون في مدينة لندن في 9 ديسمبر 1608، و كان مهتمًا بكتابة المقالات والقصائد، ولقد اشتهر شهرة – طافت به عنان السماء – بإحدى أشهر القصائد في الأدب الإنجليزي والعالمي وهي قصيدة “الفردوس المفقود”، التي تعتبر من أعظم الأعمال الشعرية في اللغة الإنجليزية، أما قصيدته “الفردوس المستعاد” فلم تحظ بنفس القدر من الاهتمام التي حظيت به الأولى وهو ما كان يغضب كثيرا الشاعر الكبير الذي لم يكن يرى أفضلية للأولى عن الثانية.
يمكن لنقاد الأدب والدارسين الوقوف طويلا عند إنتاج ذلك الأديب الفذ، وهذا ما تحقق عبر السنوات والقرون السابقة وهو ما سيتحقق عبر القادم من السنوات والقرون اللاحقة، لعظمة هذا الإنتاج ولعبقرية الموهبة التي صدر عنها. ولكني أود هنا أن أتوقف عند جون ميلتون ليس الشاعر فحسب بل السياسي والمفكر العام، لقد كانت الفترة التي عاش فيها الأديب الفذ مضطربة اضطرابا كبيرا، حيث شهدت صراعا بين الجمهوريين والملكيين في إنجلترا.
ميلتون السياسي
كان ميلتون من أنصار الجمهورية في الحرب الأهلية التي قامت عام 1642 بين الملكيين والجمهوريين، وناصر كرومول القائد الحربي مناصرة هائلة، حيث سخر قلمه للذود عن أفكاره، وكان لسان حال تلك الثورة التي أطاحت بشارلز الأول، فانشغل بالكتابة التحريضية ضد الملكية والبابوية. فلقد كان طيلة حياته شخصية نشطة في القضايا السياسية والدينية، ولم يكن غريبا أن ينضم في الحرب الأهلية الإنجليزية إلى صف الجنرال أوليفر كرومول المعارض للحكم الملكي. فلقد كان جون ميلتون مؤمن كل الإيمان بالجنرال كرومول، فوقف بالمرصاد للثورة المضادة، وسن قلمه البتار ليرد على كل من يتناول ثورة الجمهوريين بسوء، داخل إنجلترا أو خارجها، ضاربا المثل في إيمان المثقف بمبادئ لا يحيد عنها، ومقدما النموذج في دور الموهبة – اتفقنا أو اختلفنا معه – في خدمة تلك المبادئ مهما كان الثمن، ومهما كانت المخاطر.
ولقد أصبح ركنا من أركان نظام الديكتاتور حيث شغل منصبًا في «مجلس الدولة» الذي يمكن أن يقارن بمنصب وزير خارجية وثقافة وإعلام معًا، كما كان المستشار والمحرض السياسي الأول على الملكية.
وكان موقفه هذا قد سبب له متاعب كثيرة بعدما توحدت القارة لإعادة الحكم الملكي في إنجلترا بإعادة شارلز الثاني ابن الملك المقتول شارل الأول، ولكن ميلتون استطاع الفرار من عقوبات حتمية بعد رجوع الحكم الملكي في عام 1660.
لم تستمر دولة الجمهوريين في إنجلترا طويلا فبعد موت القائد القوي كرومول، وعدم صلاحية ابنه لتولي الحكم، أدت الأزمة السياسية التي تلت وفاة كرومول في عام 1658 إلى استعادة النظام الملكي ودعوة تشارلز الثاني الذي كان قد فر إلى القارة الأوروبية – بعد أن أُعْدمَ والده شارلز الأول من قبل الجمهوريين – للعودة إلى بريطانيا من جديد، ما كان يعني بالضرورة الانتقام من الذين أعدموا الملك الوالد ومناصريهم، ومنهم شاعرنا الكبير جون ميلتون – الذي كان قد فقد بصره – فزُجَّ به في السجن عام 1660، ولكن استطاع زملاؤه أن يحصلوا له لاحقًا على عفو، فترك العمل السياسي ليتفرغ كليًا للكتابة في عالمه المظلم، بعدما أصابه العمى، ولم يغادر منزله حتى وفاته.
العمى وكتابة القصيدة الأشهر
بعد إصابته بالعمى في عام 1652، كرس نفسه لكتابة قصيدة «الفردوس المفقود» والتي يدور موضوعها الرئيسي حول هبوط الإنسان من الجنة إلى الأرض، وحول آدم وحواء وإغراء إبليس لهما وحول جنات عدن متأثر بالروايات الدينية. وتقوم القصيدة بمكافحة العديد من القضايا اللاهوتية الصعبة ومنها المصير، الاقدار والثالوث. وقد قام ميلتون بدمج الوثنية مع الإشارات اليونانية والكلاسيكية من خلال هذه القصة، وهو من أشد المعجبين بالكلاسيكيين ولكنه عزم من خلال هذه القصة أن يعمل على إفاقتهم مما هم فيه.
- من أشهر ترجمات قصيدة الفردوس المفقود إلى اللغة العربية هي ترجمة الدكتور محمد عناني.
أما “الفردوس المستعاد” أو “استرداد الفردوس” فلقد نشرها بعد أربع سنوات من الفردوس المفقود والقصة تمثل انتصار المسيح على إغراءات الشيطان ». كما تشتمل أعماله المعروفة الأخرى على المسرحية القصيرة «كومس» (1637)، و«أريوباجيتيكاز» (1644).
ميلتون والموسيقى
لقد نشأ ميلتون في بيئة يغلب عليها طابع التدين الممتزج بقدر كبير من الالتزام، وكذلك عُرف عن هذه الأسرة حبها الشديد للعلم، ويذكر التاريخ أن جده عانى الكثير في عصر الملكة إليزابيث وذلك بسبب اعتناقه للمذهب الكاثوليكي، ومن المعروف أيضاً أن أباه كان شغوفا بالموسيقى. فضلا عن كونه مؤلفا وملحنا موهوبا، وربما كان حب ميلتون للموسيقى نابعاً من التصاقه الدائم بأبيه، وبذلك امتدت روافد العطاء من الأب للابن، ولا شك أن الموسيقى تركت بصمات ـ لا يمكن تجاهلها ـ على آراء ميلتون حيث كان يرى أنها وسيلة مهمة لجعل الشعر أكثر فاعلية وتأثيرا.
مليتون والتعليم
في 1639 استأجر ميلتون مسكناً لرجل أعزب في “سانت بريد تشيرشيارد” في لندن، حيث تولى التدريس لأبناء أخته. وبعد سنة واحدة انتقل معهم إلى أولدرزجيت ستريت”، وهناك (1643) استقبل عددا آخر من التلاميذ بين سن العشرة إلى سن السادسة عشرة آواهم وعلَّمَهم، وحصل من ذلك على دخل متواضع يكمل به المبلغ الذي خصصه له والده. وفي كتاب إلى “مستر هارتلب (1644) صاغ ميلتون آراءه في التعليم. فأتى لهذه اللفظة بتعريف قوي رائع: “أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة والعامة، في السلم والحرب، سواء بسواء.” وأول واجب على المعلم هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، “ويصلح ما أفسده آباؤنا الأولون”-أي أن يقهر نزعة الشر الطبيعية في الإنسان (الخطيئة الأولى)-أو (كما يجدر بنا أن نذكر الآن) أن يعيد تكييف الخلق القومي الذي سبق تشكيله وفقاً لحاجات مرحلة الصيد، نقول تكييفه تبعاً لمتطلبات حياة المدينة الحالية”.
وأحس ميلتون أن هذا يمكن تحقيقه على خير وجه بأن نغرس في الذهن الناشئ إيماناً قوياً بإله واحد بصير، وأن نعوده على ضبط النفس وفقاً لنظام واقي (التحرر من الانفعال، عدم التأثير بالفرح أو الترح، الخضوع دون تذمر لحكم الضرورة) وضرب لتلاميذه مثلاً يحتذونه: “الدراسة الشاقة والطعام اليسير”. فقلما أجاز لنفسه يوماً “اللهو والمتعة وبعد الدين والأخلاق، يجب أن تأتي الدراسات اللاتينية والإغريقية القديمة، والتي لم يستخدمها ميلتون مجرد نماذج للأدب، بل وسائل لدراسة العلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ والقانون والأخلاق والفسيولوجيا والطب والزراعة وهندسة العمارة، والخطابة والشعر والفلسفة واللاهوت.
ميلتون وحرية الفكر والصحافة
ويظهر موقف الشاعر الإنجليزي الشهير جون ميلتون من حرية الفكر والمطبوعات في حديثه إلى برلمان إنجلترا والذي يرى فيه أن قتل كتاب لا يقل جرما عن قتل إنسان بل هو قتل للعقل نفسه وقتل لصورة الله: وليس في هذا الحديث قذف ولا طعن ولا نقد لاذع، بل كان على مستوى عالٍ من اللغة والفكر وفيه يطلب إلى البرلمان بكل إجلال واحترام، أن يعيد النظر في قانون الرقابة، من حيث أنه ينزع إلى “تثبيط الهمم في سبيل العلم والمعرفة، ويعوق بل يقضي على أي إبداع واكتشاف يمكن أن يخرج في المستقبل إلى حيز الوجود في مجال الحكمة الدينية والمدنية كليهما.” ثم يستطرد في قطعة مشهورة قيِّمة: لست أنكر أنه من أعظم صلاحيات الكنيسة والدولة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدار الناس، ومن ثم يحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر لأن الكتب ليست أشياء ميتة إطلاقاً، بل أن فيها من الفعالية والحيوية ما يجعلها نشيطة في مثل نشاط النفس التي أنتجتها. ليس هذا فحسب، بل أنها كذلك، تحفظ، وكأنما تحفظ في قنينة، أبقى عصارة ودقة مؤثرة للفكر الحي الذي نماها وأبدعها. وإني لأدرك أنها نشيطة قوية الإنتاج مثل أسنان التنين الخرافية إذا نثرت على الأرض هنا وهناك انبعث منها رجال مسلحون (هكذا تقول الخرافة). ومن جهة أخرى، فإنه إذا لم يكن ثمة حيطة وحذر، فإن قتل الإنسان يعدل تقريباً قتل الكتاب الجيد. إن من يقتل رجلاً يقتل مخلوقاً عاقلاً على صورة الله، على حين أن من يدمر الكتاب الجيد، يقتل العقل نفسه، بل يقتل صورة الله، في صميمها. وكم من إنسان يعيش حملاً ثقيلاً على الأرض، ولكن الكتاب الجيد هو دم الحياة الغالي للروح السامية يصان ويختزن، قصداً لحياة وراء الحياة. حقاً إن أي عصر لن يستطيع استعادة الحياة، وقد لا يكون في هذا خسارة، ولا تعوض ثورات العصور في الغالب عن فقدان حقيقة منبوذة، ساءت حال أمم بأكملها من أجل افتقارها إليها.
وينبغي لذلك أن نكون حذرين يقظين لأي اضطهاد نصبه على الأعمال الحية لمشاهير الرجال البارزين، وكيف نبدد حياة الرجل الناضج المحفوظة المختزنة في كتاب. فإذا رأينا عملاً من أعمال القتل يرتكب على هذه الصورة، وهو في بعض الأحيان استشهاد، إذا امتد هذا إلى كل الإنتاج حتى ينتهي الأمر إلى مذبحة، فمن ثم لا ينتهي الإعدام عند خنق الحياة الفطرية، بل ينفذ إلى الجوهر السماوي الخامس البالغ الرقة، أي روح العقل ذاته، فيقضي على الخلود أكثر ما يقضي على مجرد حياة.
- لا امتداح لفضيلة مفروضة
ما فائدة أن تكون رجلاً، لا مجرد تلميذ في مدرسة، إذا كنا فقط هربنا عن الدرة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة (للطباعة)؟ إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن.
إني لا أستطيع أن امتدح فضيلة مفروضة عليها الحماية والرقابة، لا يمارسها أحد ولا ينشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها، بل تتسلل بمعزل عن الناس. أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فوق كل الحريات. ومع أن كل رواج المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تنهزم في معركة حرة مفتوحة؟
ومع ذلك لا يمكننا أن نذهب إلى أن جون ميلتون كان مع الحرية المطلقة للرأي والفكر والنشر حيث كان يطالب بسن قانون لتحريم الإلحاد والتشهير كما كان غير متسامح إطلاقا مع الكاثوليكية الذي يراها عدو للدولة ولأنها في ذاتها تتسم بالتعصب.