بهجت العبيدي يكتب: السببية ما بين هيوم وكانط وأينشتاين والإمام الغزالي

السببية ما بين هيوم وكانط وأينشتاين والإمام الغزالي

بهجت العبيدي

 

إن عظماء العلم والفلسفة جميعا من شجرة واحدة جذورها ممتدة في أعماق التربة؛ تربة العبقرية تجمعهم فروعا وغصونا تثمر نورا للإنسانية، فهؤلاء العظماء يكمل بعضهم بعضا، وفي نظرتهم للكون والحياة إثراء هائل للحياة العلمية والفكرية والثقافية والفلسفية والدينية كذلك، ولعله من الجدير بالذكر أن نعلم أن العالِم له طبيعتان إحداهما علمية والأخرى فلسفية، فكل عالِم في طرحه للأسئلة التي لا تنتهي هو فيلسوف فمهمة الفيلسوف الأولى هو طرح الأسئلة، والعالِم في أي مجال من المجالات دائم لطرح السؤال بــ “لماذا، وكيف”.

ولابد أن يُبْنى العلم على قواعد ثابتة وقوانين دائمة، ذلك الذي يجعل هناك أسباب تؤدي إلى نتائج يقينية، ليصبح العلم يقيني، هذه السببية التي ضربها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم  David Hume)‏ الذي (ولد في 26 أبريل 1711 – وتوفي في 25 أغسطس 1776)، وهو فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي وشخصية مهمة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسكتلندي. ضرب هذا الفيلسوف السببية في مقتل حينما رفض قانون السببية متحديا  أن يستطيع أحد ” إثبات أن ماهية التجارب التي تسمح لنا أن نفهم “السبب” و “النتيجة” كأفكار مجرّدة. ذلك الذي عرّض العلم لعدم اليقينية، وكما هو معروف فإن ديفيد هيوم صاحب منهج تجريبي حسي غير مقتنع بالفلسفة المثالية العقلية التي تذهب إلى أنه بالعقل وحده يستطيع الوصول إلى المعرفة.

ولقد أنقذ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant) الذي ولد في القرن الثامن عشر (1724 – 1804) العلمَ من هذه الضربة القاصمة التي وجهها له ديفيد هيوم حيث تصدى لفكر ديفيد هيوم المعتمد على الحس والتجربة فقط، فأعاد الثقة للعلم بإمكان الوصول إلى نتائج يقينية غير احتمالية، وذلك من خلال نظريته في المعرفة “المثالية المتعالية” التي اعتبرت المكان والزمان والسببية من ضمن مقولات وقوالب قبلية في العقل تلك التي تحكم العالم باعتبارها قائمة في العقل الإنساني، وذلك في كتابه نقد العقل المحض أو الخالص أو المجرد (بالألمانية: Kritik der reinen Vernunft) حيث برر لنظريته في المعرفة بالعديد من الأدلة خاصة تلك التي تؤكد أن الزمان “الذي يرمز للعدد والجبر” والمكان الذي تخضع له “الهندسة” وأن كل من الجبر والهندسة يعطيان نتائج حقيقية موثوقة،  وهما قالبا إدراك وليسا متحققان في الواقع، وأن عقولنا جميعا مبنية على هذا الشكل الذي تتركب فيه هذه القوالب بهذه الكيفية الثابتة، ومن ثم تدرك العالم والأشياء على هذه الكيفية فبعدما تنقل الحواس من مدركات الحس هذا الكم الهائل من الاحاسيس فإن العقل من خلال القوالب القبلية المركبة فيه يقوم بعملية التنظيم بطريقة واحدة عند جميع البشر ومن ثم تصبح المدركات واحدة عند الجميع وبالتالي يمكن الحصول على علم يقيني ثابت.

كان هذا التصدي من إيمانويل كانط بمثابة الإنقاذ للعلوم الطبيعية، حيث يصبح بالإمكان الحصول على نتائج موثوقة ومعرفة حقيقية.

فهذا العلم الموثوق هو طريقة عقولنا لمعرفة العالم، هذه المعرفة التي تبدا بالتجربة ولكنها لا تنشأ عنها، ذلك هو الجديد الذي جاء به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، فعقولنا واحدة وثابته ومن ثم ترى العالم على هذه الكيفية.

هذا الذي اتفق معه فيه أكبر عقلية، ربما، في التاريخ البشري ألبرت أينشتاين  (بالألمانية: Albert Einstein) الذي ولد ‏(14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955) ذلك الفذ في عالم الفيزياء، ألماني المولد (حيث تخلى عن الجنسية الألمانية لاحقا) بعدما اتخذ من سويسرا مقرا لإقامته خوفا على نفسه من الاضطهاد المنتشر في ألمانيا ضد اليهود، فأصبح سويسري وأمريكي الجنسية بعد أن هاجر إليها، حيث أخبرهم بأن ألمانيا النازية سوف تتحصل على القنبلة النووية وهو ما كان له أكبر الأثر في حرص وإصرار أمريكا في سرعة امتلاك هذا السلاح النووي، وكان ألبرت أينشتاين قد أعلن ندمه من بعد على إخبار الأمريكان بذلك، مؤكدا أنه لو كان يعلم أن ألمانيا لن تتحصل على ذلك ما ساهم بشكل أو بآخر في تحفيز أمريكا على امتلاك هذا السلاح.

اتفق أينشتاين مع كانط في مفهوم السببية وإن أختلف معه في كونها من البديهيات العقلية، بل هي مرتبطة أيضا بالتجربة، وكان ألبرت أينشتاين قد قرأ كتاب نقد العقل المحض لكانط، وهو في سن السادسة عشر، حيث تعرف على مفهوم قالبي المكان والزمان، وهو ما يؤكد أنه كان لهذا التعرف المبكر منه دورٌ بشكل أو بآخر في اكتشاف أينشتاين لنظريتيه “النسبية العامة والنسبية الخاصة”.

تعرف أينشتاين على تلك المساجلة الفلسفية بين كانط وديفيد هيوم وانحاز لنظرية كانط في المعرفة، التي تجعل من السببية قالب إدراك للموجودات، ومن ثم يخضع الكون وجميع الأشياء إلى قانون ثابت جبري حيث كان يؤمن أينشتاين بتلك الجبرية إيمانا شديدا يجعل هناك فرصة للتنبؤ لما يمكن أن يقع في العالم طالما هو يسير وفق هذه القوانين الثابتة، فلا مجال لأن يحدث غير الذي تفرضه هذه القوانين، بطريقة حتمية، هذا الذي يعكس معنى مقولته: إن الله لا يلعب النرد، جاء هذا في ردِّه على خطاب من الفيزيائيّ الألمانيّ ماكس بورن. حيث كان ماكس يقول إنّ قلبَ نظرية ميكانيكا الكمّ الجديدة ينبض بالشكّ والعشوائيّة، وكأنه يعاني من اضطراب النَّظْم القلبي، فكانت الجملة ردا على أصحاب فيزياء الكم، الذين عادوا بنظريتهم للشك في إمكانية الحدوث، خاصة وأن الفوتون له شكلان يتحول بسرعة شديدة بينهما، فإما أن يكون موجة، وإما أن يكون جسيم، وليس هناك فرصة لضبطه في الحالتين: حيث يمكن أن تحدد وتتابع شكل واحد فقط من شكليه، وهو ما يعيد بنا في العالم الكمومي إلى الاحتمالية وليس اليقينية، ذلك الذي دفع أينشتاين في نهاية الأمر للقول: ربما أن الله يلعب النرد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: