بلاغة خطاب الأطفال في الحديث النبوي

بلاغة خطاب الأطفال في الحديث النبوي

دكتور أيمن أبومصطفى

 

بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم هي أعلى مثال بشري في البلاغة يمكن أن يصل إليه بشر ، وإذا كانت بلاغة البشر تختلف باختلاف الموضوع الذي تتناوله ، وكذلك الغرض من هذا الموضوع ، والغاية التي إليها يصبو ، فمن الأجدر أن تدرس بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم على بوصفها  بلاغة قائمة برأسها ، ينظر إلى غاياتها وما توسلت به للوصول إلى هذه الغايات ، فبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم تتسم بأنها بلاغة ذات غايات متعددة، فليست بلاغة إمتاعية وإن لم ينتف عنها الامتاع، فهي بلاغة تهدف إلى تعديل السلوك، وإرساء دعائم المجتمع المسلم.

ودراسة البلاغة النبوية تحاط بعدة مزالق أو لنقل مخاطر لعل من أهمها أنها بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به ، ونقدس كل ما أتى به ، وهذا قد يمثل مصادرة منذ البداية ،فقد يجعل الدراسة منذ بدايتها ذاتية بعيدة عن الموضوعية مما يجعلها عرضة للنقض ، ومما يدفع هذا الأمر الاحتكام إلى الثوابت البلاغية التي أقرها البلاغيون القدماء مع إنعام النظر ومعاودته في الحديث الشريف للكشف عن بلاغته وأسرار البراعة النبوية فيه ، والإفادة مما وصلت إليه الأسلوبية في الكشف عن جماليات النصوص.

وأول لبنة في بناء المجتمع هي الطفل، وقد أولى الإسلام الأطفال اهتماما خاصا، وسنقف على جوانب البلاغة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأطفال، فقد انبنت أغلب الأحاديث على لغة الحوار والتفاعل القولي ، وذلك كما في الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه إذ يقول :(أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه ، وعن يمينه غلام أصغر القوم ، والأشياخ عن يساره ،فقال : يا غلام ، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ ؟ قال : ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله ، فأعطاه إياه ، وفي رواية ، فتله في يده  )

فسياق هذا الحديث هو اجتماع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في مجلس , وقد أتي النبي بشراب , وقدر أنه كان غلام عن يمينه , والأشياخ عن يساره , والقاعدة التي يقرها النبي – صلى الله عليه وسلم – هي التيامن في كل أمر محمود , وهنا تأتي المفارقة : غلام أصغر القوم عن اليمين , والأشياخ عن اليسار .

وهنا يبدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنداء ياغلام , وأداة النداء (يا) كما يقول النحاة تستخدم في نداء البعيد أو ما في حكمه، فالمنادى وإن كان قريباً من النبي –صلى الله عليه وسلم – في مجلسه إذ هو عن يمينه إلا أنه ينزل منزلة البعيد لفارق السن الكبير –أصغر القوم – ثم هذا النداء –أيضاً – نكرة مقصودة , وتلك النكرة في بداية حديث النبي تقف في مقابل الأشياخ , فهو مفرد نكرة في مقابل جمع معرفة , ما يوحي بعمق المفارقة، ، فهذا النداء مقدمة  مشوقة للحديث , وهذا النداء يحمل من معاني التودد والتلطف في محادثة الغلام ما يحمل , وهذا النداء لم يخرج عن الاستخدام في معناه الحقيقي , وكذلك نجد الاستفهام الذي تبعه ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن وهذا أمر يثير الدهشة، فهو في مقام التعظيم لكونه الرسول، ورغم ذلك يطلب الإذن من الغلام تقديرا واحتراما له ، وهو أساس أراد أن يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ليكون أصلا من أصول التعامل والتواصل والتربية، فهو المعلم الأول، والتعليم بالقدوة أبلغ من التعليم بالقول.

ومن هنا كانت مساحة من الحرية في الرد أتاحت للغلام أن يسهم برأيه دون خوف ولا خجل،  يقول الغلام : (ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يارسول الله ) وفي رواية(لا والله يارسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا)ً

فالغلام أنس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأنس دفعه للوضوح والإفصاح عن رأيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجبره على رأي اتخذه، بل ترك الأمر له، وكان رد الغلام بليغا، ففيه حسن تعليل، وفيه أيضا تفسير لموقفه مما يدفع الحقد أو الكراهية أن تشتعل في قلوب الصحابة، بل سينقلب موقفهم إلى الإعجاب بفطنته وذكائه.

وبذلك تتضح قيمة الحوار في التربية، فالحوار هدف وغاية ووسيلة في الوقت نفسه، فما أجمل أن يكون منهجا وسلوكا!

فالحوار النبوي أسلوب راقٍ من أساليب الدعوة والتعليم في البلاغة النبوية، والحوارية في الحديث النبوي جاءت بنفس المدلول الذي عناه باختين وتودوروف فهي “الوعي بحقيقة التعدد والتنوع ،والتعلق بمشروعية الاختلاف وبحق التفكير والتعبير عن المواقف والقناعات ووجهات النظر بأكبر حرية ممكنة”( )ويتمحور المفهوم حول فكرة عدم احتكار الحقيقة وفكرة التعدد والتنوع ، فلا يمكن أن يقوم التواصل مع فكر يدعي تملك الحقيقة وبالتالي فرضها على غيره .

وقد كان هذا الحديث النبوي الشريف من أصدق الأدلة على قيمة الحوار في نشر الحرية وتدعيم أسسها، ولعله رد واضح على من يدعي أن الإسلام لا مجال فيه للحريات، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عظمه ربه يستأذن غلاما صغيرا أجلسه في مجلسه وسط الصحابة، فيأبى الغلام، فلا يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه يوافقه الرأي، فتلك هي بلاغتنا وذلك هو منهجنا في التربية، فلم يلهث بعضنا وراء النظريات الغربية التي لم تأت بجديد؟!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: