بردية الخلاص وثنائية الحُزن والوطن في ديوان (سماء أخرى) للشاعرة شيرين العدوي نقد قصيدة (بلورة الرحلة) نموذجا

بقلم الشاعرة / شريفة السيد

لو لم أكن أعرف شيرين العدوي شاعرة وإعلامية لقلتُ أن يدًا من السماء تكتب معها؛ شعرًا ونثرًا وخطابًا جماهيريًا. فقد حفرت لنفسها حفرة ووقعت فيها/ حفرة غواية الإبداع النابض/ وشرَك الحبر والورق الأبيض، الذي لا يغفو لها جفن إلا وقد ملأته نبضًا ولا تستطيب لها نفسٌ إلا وقد عبّرت عن مشاعر ، ولا يهدأ لها بال إلا وقد وضعت أفكارًا بعد حمل طال. وفتنة الكتابة والبحث التي بدأت من خلال بحوثها بالجامعة ماجستيرًا ودكتوراة، ومنذ ذلك الحين أدركتُ أن شيرين تكتب كما تتنفس، كنشاطٌ فسيولوجيٌ لايمكن الاستغناء عنه؛ ولو لم تفعل لاختنقت.
وشيرين العدَوي تنتمي للغةِ بقوة، مُنذ إعادة ميلادها بكلية دار العلوم فامتلكت من الأدوات ما يقنعك، ومن الإمكانيات ما يخدر أعصابك، وتجعلك تلهث وراء المعنى المقصود، حتى تصل أو لا تصل إليه، ومن وصل فقد فاز وتحققت له المتعة.
يقول أبو حسينه هلال الصابيء (1):
إن أفخرَ الترسل: “هو ما وَضُحَ معناهُ وأعطاكَ غرضَهُ في أوَّلِ وهلةٍ لسماعِهِ، وأفخرَ الشِعر ما غَمُضَ فلم يُعطِكَ غرَضَه إلا بعدَ مُماطلة منه، وغَوْصٍ منكَ عليه……”
فمع نصوص شيرين وذهنيتها المتقدة الشديدة القلق تجد نفسك لا تسيرُ في البر ولا تسبح في البحر؛ ولكنك إمّا تطير معها في السماوات العُلا ، أو تغوص معها في دهاليز جوف الأرض؛ لكي تُخرج ماردًا محبوسًا لأزمانٍ طويلة، فلا تقدر على الفكاكِ من أغلال النص إلا وأنت مع آخر حرف فيه. وهنا فقط تقول أعان الله الكاتبة وأعان القراء البسطاء..
إذ أصبحنا نعيش زمنًا يعرض سلعًا غير رائجة مع قوة سطوة الغوغاء والفوضى، بسبب التكنولوجيا والحداثة والشبكة العنكبوتية، ولم يعد الشعر كما كنا نحلم به وله..!
بيد أن شيرين العدوي في (سماءٌ أخرى) حلّقت في سماء مختلفة عن سماوات تحليقها السابقة. إذ ينتمي معجم هذا الديوان إلى قاموس الحزن بكل مشتقاته. حيث ترى الوجود والعالم بعيون الألم، لا بعيون الشاعر المُحايد.. فتغلبت مسحة الحزن والألم والنواح والعويل والفقد، فوقفنا معها عند برزخٍ موقعُهُ ليس بين نهر وبحر بل بين السماء والأرض.
بداية من النص المفتاحي للديوان المعنون بـ (آخر ما كتب الحزن) وقد أحسَنَت ْصُنعا بوضعه في المقدمة، تعبيرا عن قلب العروبة ونبضها الذي ضاع فضاعت العروبة كلها من بعده. ثم تلته بالنص الأنموذج (بلورة الرحلة) الذي سنتناوله بالتحليل؛ في ديوان كلما توغلتَ فيه تصطدم بالوطن. وقد عبّرتْ الشاعرة عنه بكل صراحة ووضوح، فجاءت مفردة الوطن أكثر من 13 مرة في الصفحات أرقام (9،14، 51، 53، 63، 74، 83، 86، 94) ، كما عبّرت عنه بالرمز والتلميح على طول الخط..
هي إذن لا تكتب الحزن ولا عنه؛ بل لم يعُد الحزن مفعولا به، ولا هو نتيجة صدامات مع الحياة .. وإنما الحزن هو الذي يكتب، هو الفاعل والمؤسس لقصص معجونة بالأوجاع، وما أكثر الدَّوال على الوجع هنا، فمن معجم الوجع مثلا :(موجعا/ الوجع الخفي/ وجع الثرى/ وجعَ المخاض/ وجع الفرَاش) ومترادفاته في الصفحات (17، 25، 69، 80، 84) ليصبح الحزن والوطن متلازمتين في سيمفونية الألم اللامتناهي بمفرداته الكثيرة.
زِد على ذلك نص (سرير المسافة) الذي ينضح ألما وحزنا ووجعا، وحتى السؤال في قصيدة (ماذا سيقول الشعر؟) مختتم الكتاب فالشاعرة تقدم فيها للعالم تقريرًا مفصلا ومسببًا، يؤكد أن الوطن العربي مَقتول والقتل أول أسباب كل هذا الحزن.. تقول (2):
ماذا سيقول الشعر
إن الوطن الغارب
مقتول في دلتا الشريان
ممتدٌ عبر براكين هزائمنا
من جثة حيفا حتى لبنان
من غزة حتى الجولان
ماذا سنقول لأنفسنا
تتدلى رأس هويتنا
في كف الإعصار
فالوطن يموت بل سيميتك معه في قصيدة (آخر ما كتب الحزن). وعلى نفس النسق أينما تسيرُ في الديوان يُداهمُك الحزن على الوطن والهموم والمصائب والكوارث ونزيف الجراح والصراخ وصوت النحيب والأنين ونبرة اليأس على الوطن العربي الذي يضيع ويحتضر ويموت، وكأني بها تعيد على مسامعي قصيدة امرؤ القيس قفا نبكِ (3) التي منها:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه …عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
حتى عندما ضمَّنت نصًا من التراث الغنائي العربي استخدمت صوت فيروز (4):
فخذى إليك شذًا تبقى
من صوت فيروز الشجيّ
“لا تعتب عليّ”
صوت فيروز الحاد الشجي المليء بالشجن، ويختزنُ أطنانًا من الحزن والألم والأوجاع، للدلالة على ما يجيش بصدرأمتنا العربية من أحزان.
منهجية النص :
انتهجت الشاعرة منهج قصيدة التفعيلة وأجادت فيها، وجعلت من الموسيقى الداخلية حليةً تُطرِّز بناتِ قلبها، فمارست حُريتها المنشودة باستمرار في محراب الكلمة، معبرة عن ذاتها التي تذوب في الوطن فلا تزال تشعر مثله بالقيود والسلاسل والضعف والذات الكسيحة المنكسرة تقول:(5)
أخشى لصوص الليل من أن يسرقوا وطني
سميتك الوطن المقدس
ووقفتُ جنديا ينافح عنك
وتفتتح القصيدة الثانية (بلورة الرحلة) بنحيب على الشهيد، قائلة لأم الشهيد: (افرحي وزغردي ولتصعدي منه اصعدي) ثم تتقمص دور أم الشهيد كمبعوثة فتصير هي المتحدث الرسمي باسم الوطن وتصعد، وعند الصعود نامت على قلبها العصافير ونقرت صمتها.! تقول (6):
وخرجتُ من هذا المدد”
فرَسي سهام الصبر من عين البلد
خطوي رهان اللازورد على الولد
دمُه النجوم اللامعات على فساتين البنات
هتاف صرخته خضار المتعبين للقمة العيش الكفاف
دمه خمور الطيبين
الجالسين على حصير مصاطب الشاي المؤجل
بانتشاءات المساء
فلتفرحي يا أم ، طِيري ، زغردي
ولتصعدي منه اصعدي
تصفو العبارة حين يسأل شهقتي
ملك عن الدنيا
وعن مبعوثة قالت بذات قيامة:
يا قوم قد حُمِّلتُ منطق ذلك الوطن البعيد
طوبَى لمن حمل المسافة ىبين أكتاف الحقيقة والخيال
طوبى لمن حمل المثال”
أي مدد هذا الذي خرجت منه أم الشهيد والمقصود مصر!. ورأت بعينيها دم الشهيد يُسكر الطيبين المنتشين بخضار شهقته الأخيرة..؟! إنها الثورة كيوم القيامة، وبرمزية بارعة وصفت الشاعرة المشهد، وكأنه نابع من القناعة والرضا والفرح. ثم تصور الوطن حبيسًا بين ضدين دائما: القوة والضعف، الصمود والذل، الكوارث الطبيعية والكوارث اليدوية، طبقات المجتمع أسيادا وعبيدا، القهر والاستبداد والاستنزاف، وبين احتكاراتٍ عابرة للقارات ومتعاون محلي، وبين الغفلة أوالتغافل والفساد والوعي والعولمة، والرأس الذي ذلَّ مع الحذر ولسان حال الوطن الحبيس يقول (7):
أرجوك حرِّر وردتي من هذه الدنيا
لآتي واحدًا فردا هناك
لا شيءَ يذكرني هنا.
وطن كالوردة لا يزال يشعر بالحبس، ورغم ثورته فهو مكتوف الأيدي، مسجىً لا يتحرك، السلاسل بقدميه والقيود بمعصميه، والمتاريس حوله في جوف بئر سحيقة. فيصرخ ويطلب النجاة، يستغيث بالأشخاص وبالنبات وبالأصوات، ينادي على الأجداد الفراعنة (حابي وأنوبيس) وكأنه يكتب بردية الخلاص على ورق الفراعنة، وحتى الجُمَّيز يستنجد به وبثواره و بصوت أطفاله؛ في إشارة إلى محنة مصر الكبرى؛ فلا هي أنقذها تاريخُها وحضارتُها ولا هي أنقذتها الحداثة والعولمة.. لمدة ثلاثين عاما هي حقبة زمنية لحكم سابق تقول (8):
ثلاثين انجرافا في لظى الكمَه المُعاد
أعود سكرَى
أرتمي في البرزخ المعمود للجسد الصبيّ
حيث انجرفت مصر يمينا ويسارا وفي كل الأحوال لم تكن كما أرادت.
نص ثلاثي الأبعاد أو أكثر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من جماليات النص أنه نص ثلاثي الأبعاد أو أكثر.
أ) بُعد الكتابة والفنية العالية: باستخدام الحوار الدرامي وبعض أداوت المسرح الشعري.
ب) البُعد الصوتي: حيث احتواء النص على حوار بين طرفين هما (المحبوس ومَنْ يناديهم) ويستنجد بهم لإنقاذه من سجن الذات الفوضوية هذه ،فيردون على الوطن أحيانا؛ وخين لا يردون تردد الشاعرة عنهم ردودا متوقعة، في حوارية بارعة، يصل بها الأمر إلى أن تنادي صوت ثوارها أنفسهم لكنه صوت عنيد، ثم لا يفلح النداء، فتتعلق بصوت الأطفال وتناديهم للنجدة والغوث، وصدَى صوتها يأتي من أعماق برزخ سحيق سقطت فيه في غفلة من الزمن (9):
ــ يا أيها الملأ القعود
هل ترسلونْ
قمرا هناك على سرير الأرصفةْ
هل ترسلون
لا تسمعوا الصوت ّْ الصدى
هل ترسلون
علما يرفرف في دمي
هل ترسلون
ــ لا تلبسي الأمل البلي
ــ هل ترسلون
نهرا نبيا ضارعا
هل ترسلون
ـــ لا تبدئي الوجع الخفي
ــ هل ترسلون
ـــ النهر مدّد قيحه في كل رابيةٍ وحي
لا تطلبي الشيء العصيّ
أرجوك حرّر وردَتي من هذه الدنيا آلتى ……. الخ
ج)التجسيد : وقد أحسنت الشاعرة في تسمية المنادَى عليهم وهم كُثر، وكانت تعتقد أنهم ذويها ولم يسمعوا لها في المحنة أمثال:
(حابي وأنوبيس)= وترمز بهما إلى إحياء جبابرة مصر القدامَى من قبورهم لحمايتها وإيقاظ الحضارة من غفوتها.
(الجميز)= كرمز إلى إحياء القيم الراسخة فينا والمُثل والأخلاق والضمير الإنساني الذي غاب.
(صوت الأطفال)= كرمز إلى محاولة عودة البراءة والنقاء في نفوس البشر والاحتماء بالأمل الوحيد في الحياة، وهم أطفال اليوم رجال الغد والمستقبل المأمول؛ إذا تمت إعادة صياغة عقولهم من جديد بعيدا عن الزيف والملوثات.
(الثوار)= والتوجه للثوار من الشباب والتشبث بهم لثورة أخرى على الأوضاع المؤلمة.
(أهلي الشهداء)= فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ويصح أن تنادي عليهم كذلك للنجدة رغم رحيلهم.
وعندما لا يستجيب كل هؤلاء فإنها تلجأ إلى :
(المطر)= رمز الفرار إلى السماء، إلى الله، فقد طال السّفر والانتظار وطالت فترة الهوان والظلم.
(الحادي)= الذي تستدعيه ليسقيها، ومستغربة تتساءل: أم أنه قد كتب عليها أن تحمل على أكتافها صبر(أبي ذر الغفاري).؟ وقوة تحمله كرمز للزهد والعفاف والصدق والعلم والعمل وقول الحق(10).
وفي هذا الحوار الشجاع المُر تعرض الشاعرة متطلبات شعبها في ورقة المَظلَمة ، فكل ما تريده هو الحصول على :
(الماء والهواء) ، فقد عطشت الأرض واختنقت
(الخبز واللحم الطري) ، فقد ملّ الفقراء جوعا
(قمر) يُضيء، فقد ضج المكان من عتمته فكريا وثقافيا
(عَلَم) يُثبت هُوية هذا الوطن
(نهرا نبيًا ضارعًا) أي طاهرًا غير ذلك النهر الذي تدنَّس وتم انتهاك حرماته.
وهي متطلبات طبيعية لأي شعب لكي يحيا حياة كريمة…
فيجيب (المستبدون بالأمر) كله: لا تبتدي الوجع الخفي ،
لا تطلبي الشيء العصيّ،
فحتى النهر مدَّد قيحه في كل رابية وحيّ..
صورة من أبشع وأقبح وأسوأ حالات النيل العظيم. رمز مصر ورمز العروبة، وقلب الأمة العربية بلا جدال _ والذي لو تصدّع تصدّعت الأمة العربية كلها _ يقولون ذلك وكأنهم شخصوا المرض وقرّروا ألا علاج. لكن الأرض العطشى للحرية لا تزال في النزع الأخير مُستميتة على الحياة فتقول: (11)
ــ لم أطلب الشيء العصي ، فقط ظننتكمو ذويّ ،
يا أيها الزعم العنيد ، يا أيها الجمع البليد ،
يا صوت ثواري تعالَ لنبدأ الترتيل بالصوت الندي
يا صوت أطفالي تعال إليّ
وتبرَع الشاعرة مرة أخرى في وصفهم بـ (الزَّعم العنيد)ثم بـ (الجمع البليد)، كما وصفتهم في بداية النص بـ (الملأ القعود) أي الخامل المتكاسل المستسلم لكل تلك المهزلة.
لكن الشاعرة تفاجئُنا بخروج الرُّوح الحَرون كأنها قُبلة، في مزج بديع بين قبلة الحياة الشهيرة وقبلة الموت، وأن الوطن العربي قد تم قتلُهُ بالفعل، ولكن لا تزال الرحلة مستمرة طالما صيرورة الكون مستمرة فتختتم النص بـ
فلتبدئي بلورة الرحلة
أبتكر الوجود الآن.. أبتكر الوجود….. !
إذ يظل هناك أمل في ابتكار وطن جديد.. وبشر جُدد يقيمونه من جديد.
لن أتحدث عن المجاز والتشبيهات وأساليب القفز من صورة إلى أخرى في شكل توالدي واضح ، فهذا يحتاج إلى دراسة أخرى منفصلة.
فقط أقول إن :
(سماءٌ أخرى) في مجمله يشكل حديث الحزن والألم في سيمفونية موجعة ، هو بكائية على القلب المقتول والوطن المقتول/ المسلوب/ المنتصر شكلا المنهزم مضمونا/ الممتليء بالفراغ واللصوص والغربان والأنياب والسوس والثعالب والشوك واللظى، والتكبيل والفجر الشريد، وكمنجات الغيوم. الوطن الذي يجمع بين مغارة الصوفي ومعبد البوذي وأجراس الكناس، كناية عن الوحدة الوطنية وأن الدين لله والوطن للجميع. ومع ذلك فهو وطن ينتحر ويموت بالبطيء، بل إن كل البلاد تراجعت للخلف في نص آخر بعنوان (إيزيس أخرى) ولم يعد هذا الوطن يحتمل المسير بكثير من الهزائم والانكسارات ، ولا عاد يشبعه الحليب، بل وتتباعد الأنهار وتعلن موته، فتعلن الشاعرة بناء على ذلك:
فليشهد التاريخ أني قد أضعتُ العمر بحثا عنك في الزمن الخطأ.!
أي بحثا عن الأمل ، عن الحبيب ، عن الوطن…!
وحتى في النص العاطفي وعنوانه (قُبلة) تقول (12):
وأقول يكفي الآن: أن تقتلني البداية
أو حين تقول: ( كن واقعيا يا فتى لترى انتحاري) وكذلك فكرة الموت في قصيدة (إيزيس أخرى)
شيرين العدوي شاعرة يجذبها الحوار وتسيّرُها الدراما المنتشرة في النصوص إلا فيما ندر، إذ لا تخلو قصيدة بهذا الديوان من حوار درامي.
شاعرة مغرمة بالتضمين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فمن الأغاني (لا تعتب عليّ لفيروز)، ومن القرآن الكريم (آية قد سمع/ وحديث عيسى عليه السلام: السلام علي يوم ولدت/ وفبأي آلاء تكذب/ وتبت يدا/ وهزي اليدين/ وهزي إليك بجذع نخلك/ اخلع نعليك/ والسبع الطباق/ وهئت لي/ ولله الأمر من قبل ومن بعد).
فيما يبدو ولع الشاعرة وانشغالها بالمعنى الحائر:
لا أحد يرد ولا أحد يسمع، كما في قصائد (صباح) و(بنات الكرخ) و(خمر المجذوب) .. أو حين تتساءل (هل سيرد الصدى.؟) كما في نص (سرير المسافة).
ويستهويها معنى البعث والميلاد:
والبدء من جديد وإعادة الحياة، وتكرار بل وابتكار الرحلة، وحلم الوصول إلى الشط قبل بدء الغروب كما في قصائد (بلورة الرحلة) و(صباح)و(قمع الحرير) و(بنات الكرخ) و(طوفان).
كما تلح عليها فكرة خروج الروح:
وخروج الأحشاء والاحتضار في قصيدة (بنات الكرخ) فتعانق الأمل والحلم المعاند في العراق الجريح ولبنان وكل بلاد الوطن العربي. كما في نص (سرير المسافة)، حتى أنها رأت الأمل الأخضر يُلقي بنفسه من شرفته في نص (ماذا سيقول الشعر؟) وقبل موته أرسل الأمل الأخضر برقية للعالم يقول فيها: يا كل رجال العالم آسَف أني قد أفسدت عليكم واقعَكم.!
توظيف الأسطورة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
فيما تستدعي الشاعرة الأساطير القديمة العربية والأجنبية، الاسلامية والمسيحية والفرعونية، وحتى الخيالية؛ لإضفاء روح القداسة والعمق على العمل، وللدلالة على خرق العادات، والتَّماسّ مع الأحوال النفسية لبني الوطن، أو للتعبير عن مراحل مختلفة يمر بها المجتمع، أوكمرجعية دينية أحيانا بتقديم أمثلة حية من الخلفية التراثية الراسخة في الأذهان وفي الضمير الإنساني.
وقد قسم النقد الحديث الأسطورة لعدة أنواع(13): (أسطورة التكوين والخلق ، وأسطورة تعليلية ، وأسطورة طقوسية، وأسطورة رمزية) وأعتقد أن كل الشخصيات الأسطورية التي استخدمتها الشاعرة هنا تنتمي إلى الأسطورة الرمزية، وتعني استحضار التاريخ بكل طقوسه وفرضياته؛ لما لها من سحر خاص بالحث على المعرفة والعودة لقراءة التاريخ، والربط بين أحداث الماضي والحاضر، ودراسة سلوك الإنسان وتصرفاته قديما وحديثا من خلال مفهوم الأنثروبولوجيا للوصول للمعنى المقصود.
فيما تنقسم الشخصيات الأسطورية في هذا الديوان إلى:
أ) شخصيات فرعونية مأخوذة من التاريخ المصري القديم مثل/ حابي وأنوبيس وإيزيس
ب) شخصيات أسطورية رومانية من التاريخ الروماني مثل/ فينوس
ج) شخصيات أسطورية مسيحية من التاريخ المسيحي يمثل/سالومي وقيل أنها حدثت بمنطقة الجليل بفلسطين في الأعوام الأولى بعد الميلاد فترة الحكم الروماني
د) شخصيات خيالية شكسبيرية مأخوذة من الأدب الشكسبيري الانجليزي مثل/أوفيليا
هـ) شخصيات واقعية إسلامية مأخوذة من التاريخ الإسلامي / مثل أبي ذر الغفاري
ومن هنا نجد أن:
فينوس الإلهة (14) ترمز للجمال والحب والرغبة والخصوبة.
وإيزيس (15) ترمز للحياة والبعث من جديد وشفاء العالم من أدرانه.
وسالومي (16) ترمز للتحدي والعشق والشهوة والخيانة.
وأوفيليا (17) ترمز للإخلاص والموت في سن مبكرة والخيبة والسذاجة
وحابي (18) يرمز إلى الجنائزية وحماية الرئتين من الغرق تحديدا في آن، وهو أيضا تحميه الإلهة (نبت حيت) أو (نبت حوط) (19)
وأخيرًا أنوبيس (20) ، ويرمز إلى الموت والحياة معا والتحنيط والحياة الأخرى والمقابر والعالم السفلي، ولذا تم تصوير أنوبيس باللون الأسود،
وهو اللون الذي يرمز إلى تربة نهر النيل أي التجديد والحياة، وليس للقتامة والكآبة مثلا.
وبغض النظر عن الغموض الذي يعتري نصوص شيرين العدوي، فبصياغة فنية محكمة وبلغة معجمية رصينة استطاعت توظيف الرموز في مكانها الصحيح كما سبق. ولم يكن ورودها من باب الوجاهة أو استعراض ثقافتها. بينما ظهر العمق الفلسفي والرغبة في إرسال العديد من الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والدينية للقاريء من خلال إنشاء علاقات بين هذه الرموز والحدث التاريخي الآني، للوصول بالإنسان لمعرفة ذاته والحكمة من خلقه. وذلك باستخدام العديد من أدوات التواصل الشعوري والسمعي والبصري مع النص.. إذ لا يزال الشعر هو الكلمة التي يتنافس الشعراء على إتقانها وتزيينها لتعبر عن دواخلهم بشتى أساليب التعبير.
والشاعرة إذ تغضب في هذا الكتاب وتثور على الواقع الأليم، فإن ثورتها في النهاية تنتصر للحق والخير والجمال، بوصف واقع مأساة العرب، مع محاولة التأكيد على أن الموت حقيقة أزلية مستشهدة بموت القلب وموت الوطن، وبآلهة الموت الشاهد الأول في التواريخ القديمة.
بقلم الشاعرة شريفة السيد
الهوامش :
ـــــــــــــــــ
(1) أبو حسين هلال الصابئ
هو أبو حسين هلال بن محسن بن إبراهيم الصابئ: كاتب ديوان ومؤرخ عراقي، ولد لأسرة صابئة من كتبة الدواوين، اعتنق الإسلام في1012حقق ونشر بعض أعماله المستشرق أمدرووز. (المصدر وكيبيديا)
(2) قصيدة ماذا سيقول ِّ الشعر/ ديوان سماء أخرى/ شيرين العدوي
(3) معلقة امرؤ القيس
وهو حُندج بن حجر بن الحارث يكنى بأبي وهب وأبي الحارث، ويلقب بذي القروح والملك الضليل وأشهر لقب عرف به هو امرؤ القيس ومعناه الرجل
الشديد، والقيس هو صنم من أصنام الجاهلية. ولد في بني أسد من
“قبيلة كندة”أي في”حضرموت”
شرق اليمن، التي هيأت له عوامل البراعة والفصاحة والنعيم. يعدّ امرؤ القيس رأس شعراء العرب وأعظم شعراء العصر الجاهلي(المصدر يوكيبيديا)
(4) من قصيدة آخر ما كتب الحزن… ديوان سماء أخرى
(5) من قصيدة آخر ما كتب الحزن…. ديوان سماء أخرى
(6) من قصيدة بلورة الرحلة… ديوان سماء أخرى
(7) من قصيدة بلورة الرحلة… ديوان سماء أخرى
(8) من قصيدة بلورة الرحلة… ديوان سماء أخرى
(9)قصيدة بلورة الرحلة… ديوان سماء أخرى
(10)أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري/ صحابي من السابقين إلى الإسلام، رابع أو خامس من دخل في الإسلام، وأحد الذين جهروا بالإسلام في مكة قبل الهجرة النبوية. قال عنه الذهبي في ترجمته له في كتابه «سير أعلام النبلاء»: “كان رأسًا في الزُهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حِدّةٍ فيه.”(المصدر يوكيبيديا).
(11) من قصيدة بلورة الرحلة/ ديوان سماء أخرى
(12) من قصيدة قُبلة/ ديوان سماء أخرى
(13) مجلة سطور تمام طعمة مارس 2019
(14) فينوس: إلهَةُ الحب والجمال والرغبة والخصوبة والرخاء والنصر لدى الرومان. واسمها في اليونانية الإلهة أفروديت. وقد اعتقد الرومان أن الإلهة فينوس ولدت في البحر وجاءت الى شواطئ قبرص في محارة. (المصدر يوكيبيديا).
(15) ايزيس: إلهة رئيسية في الديانة المصرية القديمة. انتشرت عبادتها في العالم اليوناني الروماني. شخصية رئيسية في أسطورة أوزوريس. قامت بإحياء زوجها الملك المذبوح أوزوريس، كما أنجبت وريثه حورس، وكان يعتقد أن إيزيس ترشد الموتى إلى الحياة الآخرة، وامتدت مساعداتها لشفاء عامة الشعب (المصدر يوكيبيديا).
(16) سالومي: هي ابنة الملك هيرودس الثاني وهيروديا حسب المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس. عاشت قبل الميلاد وتزوجت من هيرودوس (فيلبس) وبعد وفاته تزوجت من أرسطوبولس ملك خالكيس وأرمينيا وكان لها 3 أطفال وطلبت من عمها هيرودس رأس يوحنا المعمدان نكاية فيه، بعد أن رفض شهوتهاـ ويوحنا المعمدان هو قريب السيد المسيح وكان يبشر بدين جديد في منطقة الجليل بفلسطين ـ بطلب من أمها هيرودية. وقد نفذ هيرودس طلبها. ولكنه أمر بقتلها لما فهم شهوانيتها وقتل نبي من أنبياء الله. ومعنى اسمها باللغة العبرية (سلام) (المصدر يوكيبيديا).
(17) أوفيليا: هي في الغالب حبيبة هاملت في مسرحية شهيرة لشكسبير، وقد انتحرت غرقا في الماء بعد صراع داخلي إثر مقتل أبيها على يد هاملت، ومحاولة أخيها الثأر منه، وعزوف هاملت عنها، لأنه يفقد الثقة في النساء بسبب خيانة والدته. فانتحرت أوفيليا وكانت فاتنة نقية كملاك، وتعشق قطف الزهور التي بدت معها حسب تعبير شعري لاحق للشاعر الفرنسي رامبو “تلك الأوفيليا البيضاء التي تعوم وكأنها زنبقة كبيرة وسط أوراق النينوفار المجعّدة. وعلى سبيل التندر قيل أن رساما رسم أوليفيا الغرقى وحولها الزهور وكأنها من نسيج البحر والزهور، وكاد الرسام بدوره يقع ويغرق في مياه نهر استخدمه بديلاً عن الماء الذي تغرق فيه أوفيليا.
(مقال الباحث والكاتب ابراهيم العريس الاثنين 1 يونيو 2020 موقع اندبندت عربية) والمقال بعنوان (أوفيليا المنسية بعض الشيء أمام حضور هاملت الطاغي)
وفي يوكيبيديا جاءت اوفيليا بمعنى قمر طبيعي لأورانوس.. والصور التقطها عالم الفضاء فوياجر في كانون الثاني1986.
ويقال إن أوليفيا كانت ابنة عم هاملت، وأبوها كان مغرما بوالدة هاملت ولهذا شرع في قتله..
(18) حابي: أو(حعبي) أحد أبناء حورس الأربعة في الديانة المصرية القديمة، ويصوَّر في الأدب الجنائزي كحام لعرش أوزوريس في العالم الآخر. وعادة ما تتمثل مهمته في حماية الرئتين من التحلل. ويرمز له بطائر الإوز الذي يطفو على الماء ولا يغرق. وفي بعض أخباره كان يُدعَى العَدَّاء العظيم لعلاقته بالملاحة.
(19) نبت حوط: أو سيدة البيت وهي إلهة للولادة وللموت، طبقا للمعتقدات الدينية المصرية القديمة. وهي أخت أوزوريس وإيزيس والثلاثة أبناء جب إله الأرض ونوت إلهة السماء.
(20) أنوبيس: هو الاسم الإغريقي لإله الموت، والتحنيط، والحياة الأخرى، والمقابر، والعالم السفلي، وعادة ما يتم تصويره على شكل كلب . وقد تولى أنوبيس أدوارا مختلفة كحامٍ للمقابر ومسؤول التحنيط ومرشد الأرواح في الحياة الآخرة، وكان يحضر فعاليات قياس وزن القلب ويتم تحديد ما إذا كان سيتم السماح للروح بدخول عالم الموتى، وتم تصوير أنوبيس باللون الأسود، وهو اللون الذي يرمز إلى التجديد، والحياة، وتربة نهر النيل وهو نظير أنوبيس الأنثى إلهة الأفاعي.
وهنا تبدأ الرحلة ..

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: