بانوراما الإبداع الأدبي في نتاج عبدالوهاب برانية حتى سنة 2022م (3)

بقلم الأستاذ الدكتور /صبري فوزى عبدالله أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
وعضو اتحاد كتاب مصر، ومنسق مدرسة شباب النقد الأدبي

شكأ وربما خالفني البعض في جملته أو في بعض منه كذلك، غير أني لم أذكر ما ذكرت لإنصاف واحد أو بخس آخر، أو إجراء استفتاء على أداءات أساتذتنا، أيهم السابق في حلبة الفضل وأيهم اللاحق، بل كلهم عندي فرسان في الميدان، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ولا تبقى في ذاكرة التلميذ تجاه أساتذته إلا صفحاتهم البيضاء وصورهم الزاهية الناصعة، أما غير ذلك فيبهت مع مرور الأيام وتعاقب السنين والأحداث”.
إننا هنا في هذا النموذج السِّيري مع سرد غال نفيس ماتع، يعد من روافد الثقافة الأصيلة الخاصة، أصالة في عرض الأحداث والمواقف، بأسلوب بوحي صادق ذائع، وعاطفة هادرة جياشه، ودروس لطيفة، وعِبَر دقيقة، ومرام ومغازٍ عميقة في قراءة الحياة وتفرس الأحياء، حيث معاني الكفاح والنجاح والصبر والوفاء والكرم والحرص على الحلال…
حقًّا تحدث (عبدالوهاب) بصدق فمنحنا العلم والأدب والشعر والفكر، كما نشرت بعض كتاباته في صحيفتي الأهرام والمساء، وكل يوم يتحفنا في فيسه بالطازج الممتع شعرًا وسردًا وفكرًا… بطريقة ساحرة آسرة بسيطة يسيرة…
والقارئ في هذه التحفة الذاتية ينجذب، ويريد أن تزيد وتطول، ويشتاق وينتظر مزيدًا من هذه الوثائق والمذكرات، ولا أقول-كما يقول عبدالوهاب- (الأوراق)، حيث الماضي الجميل، و المؤثرات الفاعلة، والدوافع الإيجابية، التي تبلغ بالمتلقين الهدف في أسمى مراتبه وأنقى درجاته، إنها رؤية صادقة من أديب صادق، تبعث في النفس كل معاني الإنسانية، تجمع بين الماضي والحاضر، بين التاريخ والتنبؤ بالمستقبل، رؤية هادفة صادعة ساطعة ماتعة، تدل على الوفاء والرقي والنبل، لمن يتأملها ويعيش معها…
وقد نالت هذه السيرة تلقيًّا إيجابيا من النقد الأدبي الرقمي التفاعلي حين نشرت صفحاتها في الفيس بوك، فكان من عبارات الثناء والإشادة قول أحدهم : القلب الرقراق الذى يفيض حبًّا ويشع مودة ويشرق بجمال صاف. تنعكس تلك المشاعر على صفحة يخط القلم حروفها فتنساب كماء عذب زلال، يروى قلوب القارئين، ما كانت الأوراق الا أنيسًا للقلوب الحيرى في زمن الشغب والغبش، فكانت لوحة مشرقة تتلألأ بما فيها من عبرات ونظرات وتجارب إنسانية، عبر مسيرة عمر عشق الجمال، فبحث عنه وما ارتضى بغيره بديلاً، نحن لن نرضى بذلك، بل لا بد من موعد ثابت تحدثنا فيه بورقات الحب هذه ولن نرضى بغير ذلك بديلاً وان كان لا يكفينا.
وقول ثان: عرض أدبي مشوق، ومحتوى كاشف عن خبرة، راصد لدقائقَ نفسية وإدارية وإنسانية، تعد وثيقة ملهِمة لكل منتمٍ إلى لعمل الأكاديمي، ونموذجا لكل الأجيال الصاعدة في التفاني والعمل الجاد المخلص، الذي يبني ويرفع أعمدة المؤسسة، ويعلي شأنها، ويجعل ذلك هدفًا مقدمًا على النفعية الشخصية، والأهداف الخاصة الضيقة.
وما أجمل قول الدكتور محمد سلام:” – كم هي ظليلة تلك الأوراق …!
– كم هي مثمرة تلك الأوراق …!
– كم هي مثيرة تلك الأوراق …!
– كم هي أثيرة تلك الأوراق …!
وكم هي جديرة تلك الأوراق بكل ما يليق بها من تَلَقٍّ حميد: فهماً واستيعاباً، وتأثراً وتوارثاً، وتعلماً وتدارساً …!
إنها تجربة أدبية تنتمي إلى فن (السيرة الذاتية الروحية) (أو الذهنية) التي يسترجع أطوار حياته الفكرية والثقافية، مبينًا ما فعله من مواقف، وما شاهده من أحداثـ وما سمعه من مقولات، وما اعترضه من عراقيل ومصاعب، وما عاشه من ترددات وتقلبات، وما منحه من الروافد الثقافية والتيارات الفكرية والأيديولوجية المتباينة، إنها تُصور تفاعل صاحبها(البراني العدسة) الروحي والذهني العقل، ابتداءً بمرحلته الحياتية الأولى (التعلُّمية)، ومرورًا برحلته الثانية للبحث عن الحقيقة (الفكرية)، حتى يصل إلى الذي يطمئن إليه قلبه ويثبت عليه، من رؤى ومبادئ وشخوص.
وهكذا عرفنا عبر هذا المقالة بالجانب الطريف في شخصية أديبنا: جانب السارد القاص الحكَّاء القادر على التقاط النوادر وتسجيل الطرائف في الحياة والأحياء!
⦁ النثري السردي الغيري
وذلك في الترجمة الغيرية الطريفة المعنونة بـ(الكادحون)، والتي تمثل الإبداع النثري في فن الترجمة الغيرية عند أديبنا عبدالوهاب، حيث يصور لنا شخصيات ريفية بسيطة حوله عرفت بالكد والكدح، وفيها –كما يقول أديبنا-تسجيل عادات وطبائع وأخلاقيات الناس في مجتمعاتنا الريفية، وتصويرها كما عاشها أصحابها، وقراءة مشاهدها بكل دقة، وبمنتهى الحرص على أن تكون تلك المشاهد نابضة بالحياة كما عاشها أصحابها، وكما رصدتها أعيننا، وتعايشت معها وجداناتنا، ولا أكاد أجد فارقًا كبيرًا بين هذه الأوراق الجديدة وسابقتها (أوراق الماضي) إلا في اختلاف العنوان من ناحية، واختلاف الأبطال الذين تتحدث عنهم هذه الأوراق الجديدة، فـ(أوراق الماضي) كانت تسجل سيرتي الخاصة وعلاقاتي بالآخرين، سواء في مرحلة النشأة بقريتي (لقانة) أو في مرحلة الطلب في مراحلها المتعاقبة حتى الحصول على الدكتوراه، ثم العمل كعضو هيئة تدريس في كليتَيْ اللغة العربية ابتداء، ثم كلية الدراسات بدمنهور بعد ذلك، لكنَّ هذا السرد الجديد يرصد واقعًا عامًّا عاصرته، وتأثرت به، وقد أكون عشت بعضه، وعاينت بعضه في حياة الآخرين، فهو جزء من واقع عاصرناه وماض تلبثناه، وليس لنا مفر من تسجيله بالقلم بعد أن رصدته العين وتشبعت منه المشاعر وتفاعل معه الوجدان واختزنته الذاكرة في أعمق أعماقها”، وهدف أديبنا من هذه اللقطات الريفية المعبرة هو المتلقي المعاصر، الذي لم تقع عينه على مثل هذه الشخوص التي تعد ملح أرضنا الطيبة وسبب بقائها وصمودها إلى الآن، يقول:” وإني لأرجو يا قارئي العزيز أن يحظى منك هذا السرد ببعض القبول، وأن يقع من قلبك موقعًا حسنًا، وأن توليه عنايتك كما أوليت سابقه من عنايتك، وإني على ثقة بإذن الله من نبل مقصدي، ونقاء غايتي، وإخلاص هدفي، وعلى ثقة أيضًا من حفاوتك بهذا السرد الجديد؛ فقد خبرتك على مدار ثلاث وتسعين حلقة من أوراق الماضي، تتابعها بشغف، وتترقبها بحب، وتتلقاها بتقدير وحفاوة شديدين، ولست أطمه في أكثر من ذلك مع هذا السرد الجديد.
والعنوان عتبة فنية مختارة ومقصود إليها قصدًا بل لعلها تكون الدلالة الكبرى من هذا العمل، يقول أديبنا: “أما لماذا سميتُ هذا السردَ الذي سأوافيك به بهذا الاسم الذي تراه في صدر الأوراق (الكادحون) فلأن حياة أبطاله كانت كفاحًا في كفاح، ومعيشتهم كانت كدحًا متواصلاً لا ينقطع من أجل لقمة العيش والكفاف من الرزق، فهم كادحون لأجل ذلك، وهم راضون بنصيبهم من تلك الحياة، قانعون بقسمتهم منها، ولعلِّي أستطيع أن أصور بعض معاناتهم، حتى يرى أبناؤنا وبناتنا كيف كان يعيش آباؤهم وأجدادهم، وكيف كانوا راضين قانعين مطمئنين، رغم حياتهم الكادحة ومعيشتهم المكافحة.
أما عن طريقة بناء هذه التجربة السردية فيقول كاتبنا:” ولن ترى يا قارئي العزيز في هذا السرد إلا أسماء مستعارة، قد لا تمثل أشخاصا أعرفهم أنا أو تعرفهم أنت، بقدر ما تمثل ظواهر عامة وقواسم مشتركة بين كثير من أبناء الريف مع اختلاف أسمائهم، لقد كنت أحدثك في (أوراق الماضي) عن نفسي فكنت في حل من أمري، أفيض عليك بواقعي الذي عشته، فكنت لا تخالفني في شيء مما عرضته عليك؛ لأنك ربما تعرف بعض ما وافيتك به، فكنت تلمسه بيدك وتتحسسه بقلبك وتتملاه بيقينك، وكنت ترى فيه بعض ما فيك، أو مجمله، وإن اختلفت التفاصيل، لكن هذا السرد الجديد لا أراه سيمضي معك أو تمضي معه كما ألفت سابقه وألفك، وعهدته وعهد منك، غير أني على ثقة من أنك واجد فيه ما يعجبك، وراصد فيه ما يروقك، فما أكثر الكادحين في حياتنا! وما أوفر هؤلاء في دنيا الناس! فهل يختلف تذوق الأحداث لديك بين ما مضى من سرد أو ما هو آت؟ هذا ما سنراه، ونتابعه، ونحكم له أو عليه، وفي كل نحن بإذن الله ماضون لما اعتزمناه، وعارضون ما ارتأيناه من تلك المشاهد في حياة هؤلاء الكادحين.
وقد بناها كاتبنا من عنوان ومقدمة، واثنتي عشرة شخصية وقصة، هي على الترتيب: (أيوب، صابرة، عفيفة، مرزوق، طاهر، مستورة، عبدالصبور، عبدالمتين، أم السعد، غريب أفندي، عبدالرءوف، عبدالرافع الحمال)، وقد جاءت ي مائة وأريعين صفحة..
إن تجربة(الكادحون) عمل أدبي سردي واقعي طبيعي هادف، إنها قصص تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي، وتمثل بعدًا طريفًا في شخصية حبيبنا عبدالوهاب، بعد الإنسان المفكر فيمن حوله، والراصد لكل كد وكدح وجد وجهاد يقوم به الأغمار والنكرات ممن يتفانون ويتخفون في سبيل إعمار الحياة وتقديم الخير للأحياء!
ومن ثم لقيت تلقيًا نقديًّا متخصصًا معمقًا، من باحثتين قديرتين من خيرة مدرسة شباب النقد الأدبي، هما الباحثة ريهام عبدالعظيم في بحثها (البنية السردية في مجموعة الكادحون القصصية)، والباحثة حفصة شعراوي في بحثها (التجربة الغيرية في قصص الدكتور عبدالوهاب برانية، الكادحون أنموذجًا)…

ثانيًا: إبداع عبدالوهاب برانية الشعري
بلغت الأعمال الشعرية للدكتور(عبدالوهاب برانية) ستة دواوين شعرية بيتية، هي (من وحي الجامعة، إصدار سنة 2018م)، و(بقايا إنسان إصدار سنة 2018م)، و(ومضة من الزمن الجميل إصدار سنة 2019م)، و(قلبي يتألـم عـند الـفـجـر إصدار سنة 2020م)، و(أبطالها القلب والإنسان والقيم إصدار سنة 2020م)،و(عندما يتألم الشعر إصدار سنة 2022م). ويوجد ديوان مخطوط بعنوان(صديق نفسي أنا)، إضافة إلى مطولته الذاتية: (حديث النفس سيرة ذاتية شعرية)، وهاك تعريفًا بهذه الأعمال الشعرية:
الباكورة الشعرية(من وحي الجامعة):
أما عن باكورة الشعر البَرَّاني فهو ديوان (من وحي الجامعة)، الذي هو الديوان الأول الصادر سنة 2018م، والصادر عن إنسان ما عُرِف بالشعر قبلاً، بل عرِف باحثًا وناقدًا، جاءته الشاعرية في أخريات عقده الرابع، وهو عنوان دال على واقعه وطريقة إبداعه، أما الواقع فهو الجو الأكاديمي الكلاسيكي(الجامعة) ويزداد هذا الجو نبلاً وقيمة حين يكون الجامعة الأزهرية! وأما طريقة الإبداع فهي (وحي) أي إلهام! يقول في تجربته وحي الشعر:
إن وحي الشعر يرقى في سماوات المعاني
ينتقي فيها المصفى من معان ومباني
إن وحي الشعر يأتي بالأمالي والأماني
إنه ديوان مكون من إحدى وخمسين قصيدة ومقطوعة، نظمت في الفترة من 2015حتى 2018م، حيث أرخت القصيدة الأخير بـ16/4/2018م. وطبع في مائة وأربع وأربعين صفحة من القطع الصغير… وإن مقاربة أولى في هذه التجارب تكاد تعبر وتعلن عن الخط الفكري الواقعي الحياتي الذي سيلتزمه شاعرنا في إبداعه:
⦁ خط الذاتيات الأسْرية الحياتية، كما في تجارب(الإهداء، أبي، قلب الأم، في عيدك يا أمي، أسرتي الصغيرة، نفحات أمومة، وخزة ألم، قريتي لقانة، اعتذار إلى عصفورة…
⦁ خط الجامعيات التعليميات الإرشادية كما في تجارب(كليتي، إيتاي يا مرتعي الخصيب، دموع الأستاذة هدى، تخريج الدفعة الأولى، تكريم زميل يوم نقله، أمينة مكتبتنا، كنا هنا نحصل علمنا، بين أستاذ وتلميذ، الدكتور ياسر حافظ…
⦁ خط الاجتماعيات كما في تجارب(الهاتف المحمول، ضيف ثقيل، السؤال عن زميل في مرضه، فاء تلميذة، وداع زميل على سفر، عقوق تلميذ، تهنئة بنجاح، سن المعاش…).
⦁ خط الوطنيات الحماسية كما في تجارب(وطنب مصر، صباح الخير يا وطني، قصة ثورة يناير، صوتي له، النصر نصران وطني ورياضي، كارهو الجيش..)
⦁ خط الإسلاميات الواعظة والموقظة كما في تجارب(ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، الأزهر الشريف، رسالة شهيد.
⦁ خط الثقافيات كما في تجارب (وحي الشعر، فكرة الشعر، أديب يقطن السطح، أصدقاء السعداوي، رحيل الدكتور أحمد زويل، المحب الواهم، الكون العاشق، معارضة، هوية شاعر، رشيد الحديثة وتواصل الأجيال …
وبعد عتبة العنوان نجد عتبة الإهداء التي جاءت شعرًا عاطفيًّا خالصًا حيث يقول:
أهديك يا ديوان شعري للحبيب الأول
كملت محاسن خلقه ولغيره لم تكمل
فعطوره فواحة في عقر هذا المنزل
والشمس تشرق بشعاعها المتهدل
وهو في ذلك يعيش صدقًا باطنيًّا وبرانيًّا خاصًّا، ويملك صراحة وجرأة دالة على حرارة وغيرة، ولا أدل على ذلك من قوله:
يامصر لاتتفرغي من باطل أو تجزعي من صانع النكبات
فستصمدين لكل قرن منهــــم وستكسرين بعزمك الضـــربات
يتسارعون إلى حماك ليهتكوا عرض البلاد وينهبوا التركــات
وينفذوا خطـــــــــط العـــــــدا تبًّا لهم ويقسموا في أطـــــــهر العرصات
وقد كانت هذه الصرخة عما كان في ثورة يناير وما شابها من أوراق مختلطة وتدخلات خبيثة ومحاولات داخلية مأجورة، فأعلن شاعرنا بجرأة عن ثباته وصموده وأمله ضد العملاء البغاة الطامعين الموتورين!
وهذه الرؤية الجسور ظهرت ثانية في قوله:
سوف تبقين بلادي رغم تدبير الصغار
في أمان من عدو في بنــــاء وعمـــــــــــــــــار
سوف تبقين بقلبي ليس في هذا اختــــــيار
ومن تفاعل شاعرنا مع واقعه تفاعلاً رومانسيًّا قوله معتذرًا إلى عصفورة:
ودخلت في ذاك الصباح حجيرتي فلقيتها ووجــــــــــــــدت عزة عندها
فجريت نحو صديقتي في لهفــــــــــــــــــــــة أتحسس الأنفاس أرقب نبضها
ألفيتــــــــــــــــــــــها وقــــــفت على أقــــدامها وكأنما عادت لســـــــــــــابق عهدها
فتطايرت نحو الفضاء وأيقـــــــــــــــنت أني بريء من جريمة حبـــــــــــــــــسها
إنه ديوان بكر، يعلن عن شاعر أزهري نابغي، ويدل على طريقته في التعبير، وطريقته في التصوير، وقد نالا قبولاً نقديًّا فكتبت عنه مقالات نقدية بقلم الدكتور أحمد خليل، والدكتورة مفيدة عبدالخالق، والدكتور محمد سلام، والدكتور أحمد مصطفى… وغيرهم…
الديوان الثاني: (بقايا إنسان)
هذا هو الديوان الثاني لشاعرنا ذي الحس المرهف والعاطفة الهادرة، حيث يكسو قصائده الصدق الفني، والمنزع الإنساني، الشفاف الحزين، الذي يأسر القارئ، ويملك عليه أعطاف ذاته. إنه خمسون تجربة طبعت في مائة وخمسين صفحة من القطع الصغير، وتغلب على الديوان هنا النزعة الذاتية والاجتماعية، ولا ترى غيرهما، ومن ثم كان هذا العنوان الرومانسي (بقايا إنسان) وهو مركب إضافي مكون من جمع تكسير(بقايا) دال على ما حدث ويحدث من تفتت روحي وتكسر حسي لهذا المضاف إلى البقايا(إنسان) سواء أكان يقصد به الشاعر ذاته أو من حول الشاعر من أناسي!
قل لي بربك يا سيدي هل أنت من ماء وطين
هل أنت حقا ما نرى أم أنت سر لا يبين
أم صاغك الرحمن يا هذا بأمشاج السنين
ثم يقول:
هل أنت صانع بؤسنا أم أنت راعي السنين
هل أنت إنسان سعيد أم بقاياه الحزين
أم إنها الضحكات قد تخفي مواجيد السنين
ما لي أراك وقد علاك الشيب والهم الثخين؟!
إنه هذا وأكثر من هذا يقول في تجربته (أبطال قصائدي):
شعري تفجر من منابع ثرة في أعمق الأعماق بالإنسان
طورًا يوجهني القصيد إلى الذرا ويقودني آنا إلى الوديان
أبطال شعري ألتقيهم صدفة من غير ترتيب ولا استئذان
حتى الذين ذكرتهم بقصائدي أو حركوا المخبوء في وجداني
هم في الحقيقة أصدقاء مشاعري فجعلتهم بصحائف الديوان
ومن ثم يرى نقاد هذا الديوان أنه “يزخر بالعديد من القصائد الرائدة التي تنحاز في فكرها ومضمونها إلى الإنسان، إلى مواساته وتخفيف معاناته، ورفع الظلم عن كاهله؛ فهو القائل:
الشعر يا دكتورنا فن الألى عشقوا الحياة بحلوها وبمرها
ما قيمة الفن الذي لا ينبـري ليجفف الدمعاتِ من أجفانها؟
فالفن إنسان بقلب نابــــض دقاته تعني حـــياة ضميرها
فإذا تخلى الفن عن ناموسه فأقم على الدنيا مراسم موتها
وهكذا نرى في بقية التجارب حيث نلحظ النزعة الذاتية في تجارب (رقي نفس، وجيب قلب، وأسير الجمال، وحب ووفاء، ومكاشفة، صغيري أحمد، وجع الأسنان، أستاذي، صديقي، أستاذتي، حصان بلا عنوان…) أما عن النزعة الاجتماعية فنجدها في التجارب(تهنئة بنجاح، تهنئة بالعيد، الوقوف على الأطلال، وتهنئة معيدات، ورثاء، فواجع القطار…إلخ.
وقد نال هذا الديوان تلقيا نقديًّا واعيًا من قبل الدكتورة مفيدة عبدالخالق، والدكتور سلامة داوود، والدكتور محمد الجوهري، والدكتور محمد سلام، والدكتور محمد الشحات داوود، والدكتور رمزي حجازي، والدكتور منير محمدين، والدكتورة رحاب شحاتة…
الديوان الثالث: ومضة من الزمن الجميل
(ومضة من الزمن الجميل) ديوان تكون من ثلاث وثمانين تجربة، وطبع في مائة وسبع وعشرين صفحة من القطع الصغير، ويغلب على تجاربه النفس القصير، حيث النتف والمقطوعات. وهذا العنوان مبني من جملة اسمية، دال على أن تقنية استدعاء الماضي أساس بناء كثير من أشعاره؛ فالزمن الماضي في عُرْف شاعرنا زمن البراءة والنقاء، وكأني بشاعرنا يرى حاجتنا الضرورية لتقاليد هذا الزمن وقيمه، نرجع إليها ولو خياليًّا وعقليًّا، كان القلب فيها قلبًا نابضًا بالخير والعطاء والجهاد، تجد هذا في تجارب(الأنقياء، ومضة من الزمن الجميل، معلم من الزمن الجميل، خريف العمر، شيخ مستنير، أستاذ باقتدار، المجد للشهداء، رثائيات أربع في أستاذنا الدكتور أحمد خليل، وهو قيمة نقدية من زمن الأساتذة الجميل…) يقول شاعرنا متمنيًّا:
هيهات هيهات الرجوع لأزمن طارت كما الأطياف والأطيار
كانت ربيع العمر في آفاقنا يا ليتها لم تُسرَق الأعمار
يا ليته جمد الزمان بدربنا وتوقت بطريقنا الأسفار

حبك جهراً
لنا أحوال عجيبة نحن بنى الإنسان، أحوال توارثتها أجيال بعد أجيال فهدمت صروحاً من الحب بيننا ، وتسببت فى دمار علاقات و صداقات بالجملة ، وذلك لإصرارنا الدائم على السباحة عكس التيار ،فما أغرب أحوالنا !
.. نكره فنعلنها للآخرين مدوية ! نغضب فترتسم ملامحنا خارطة التجهم والنفور ! نحزن فننثر همومنا مع كل تنهيدة !،
نتشاءم فنسقط كل كلمات الأمل والتفاؤل من حساباتنا !
وعلى الجانب الآخر نفرح فنخفى فرحتنا ! ؛ نتكسب رزقا جديدا فنخشى الحسد و ندعى الحاجة والعوز ! ؛نعانق آمالا جديدة فنخشى دوما ضياعها! ..فرحتنا مؤجلة وإن كان ولابد منها فهى باهتة كألوان الطيف خلف الغمام …لهفتنا نحو كل ما هو جديد لم تعد موجودة فكل شئ أصبح عادياً !
..نخاف إعلان مشاعرنا الحقيقية لمن نحب من الأصدقاء والأهل وكل من حولنا فنتهم بالنفاق! فوصل بنا الحال لما نحن عليه الآن ، أصبحنا كروبوتات تتعامل بلا عاطفة بلا بسمة على وجوه كئيبة ! وصل الكبرياء إلى حجب مشاعرنا عن الزوج والأبناء الذين نحبهم حباً صادق يقارب حب الذات ؛ فلا نعلنها لهم ولو مرة كل حين فتصفو بها حياتنا وتزداد ألفتنا !
بأى منطق نسير أخبروني؟ وكيف تكون الحياة بهذا الجمود والآلية وتوصف بأنها حياة ؟! وقد زاد الطين بلّه وجود الإنترنت الذى استحوذ على الجميع .
نعم ..تباعدت المسافات بيننا أميال وأميال رغم القرب !
تباعدت فى العمل والمتجر والشارع والمدرسة والبيت حتى فى دور العبادة ! رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نخبر من نحب بقول ” إنى أحبك فى الله ” وهو يعلم حقا ويقيناً أثر هذه الجملة فى نفس المتلقى
فمتى قلت لإبنك أو ابنتك أحبكِ ؟ متى قلتها لزوجتكَ ؟ ومتى نطقها لسانكِ لزوجكِ ؟ وأكاد أجزم بأنه لو قيلت كلمات كهذه ستقطع طرقاً مهدها لنا الشيطان إلى محاكم الأسرة .. أعلنها للجميع الآن وكل آن ، ولكل من يستحقها فى حياتك، إجعلها أنشودتك ؛ رفيقة بسمتك فهى مجرد كلمة.. نعم كلمة.. لكنها ستفعل فى الغير الأفاعيل وتنحصر المسافات فى زمن

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: