بانوراما الإبداع الأدبي في نتاج عبدالوهاب برانية حتى سنة 2022م (2)

بقلم الأستاذ الدكتور /صبري فوزى عبدالله أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
وعضو اتحاد كتاب مصر، ومنسق مدرسة شباب النقد الأدبي
والأعجوبة الثالثة أنه يكتب هذا الكم الكبير من السرد الذاتي؛ وفاء للمكان الأول الذي ولد فيه ونشأ وترعرع، يقول في الإهداء: “ولدت، ونشأت، وتربيت في قريتي (لقانة) إحدى كبريات قرى مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، ودرجت في شوارعها، ومساجدها، وملاعبها، وحقولها، ومدارسها، صبيا وشابا، وهأنذا في عامي الرابع بعد الخمسين أكتب عن ذلك كله، فهل وفيتها حقها؟ لا أدري،وأترك ذلك لقارئي العزيز”؛ فالباعث على الإبداع هنا هو الوفاء لموطنه الأول، وذلك يدل على قيمة إنسانية كبرى تدور فيها شخصية (عبدالوهاب)، ويدور حولها مجمل إبداعه. قيمة الوفاء، وما أجملها وأعظمها من قيمة!
والأعجوبة الرابعة هي هذا التماهي الجلِيِّ بين الشعر والسرد في شخصية (عبدالوهاب)، وفي منجزه النقدي، وفي منجزه الشعري والقصصي على السواء، فهو على المستوى الإنساني رقيق حالم مثالي، ينشغل بالعاليات الساميات، فليس بالمادي ولا الواقعي ولا بالنفعي! وتلك أبرز خصيصة في كل شاعر، وهو حكَّاء في كل مجلس ومُقام. وكتب الله له في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وما بعدهما من كتب وأبحاث، أن يعيش مع العالم القصصي ثم مع الشعر والشعراء، كما أنه في الشعر قصاص، وفي القص شاعر؛ ففي ديوانه الأول نجد له قصائد(قصة ثورة يناير)، و(أديب يقطن السطح)، و(اعتذار إلى عصفورة)، وفي ديوانه (ومضة من الزمن الجميل) نجد له قصائد(ليلة في دسوق)، و(ومضة من الزمن الجميل)، و(أستاذ من ورق)و(في السوق)، وفي ديوان(بقايا إنسان) نجد قصائد(تضحية)، و(بطاقة تعريف)، و(تحديث أخلاقنا)، و(رمضان أول أستاذ عرفته)، و(فاطمة)، وفي ديوانه الرابع نجد قصيدته(قلبي يتألم عند الفجر)، و)كريستيان)، و(ثمن بخس)، و(رسالة من متعهد ثورات)، و(قطة حيرى)، بل إن السرد يكاد يكون لازمة أساسية في تقديم قصائد الدواوين الأربعة؛ إذ نجد تقدمة لكل قصيدة تأتي في قالب سردي يبين مناسبة إبداعها!
كما يأتي الشعر موظفًا في سرد (عبدالوهاب) الذاتي في غير موضع من سيرته بدءًا من الإهداء، حيث يقول:
اليومَ أجملُ يومٍ خَطَّه قلمــــــــــــي أنهيتُ من لحظتي أوراقَ ماضينا
سجلت فيها كثيرًا من عوايدنــــــا ومــــــن مبـــادئِ أهليكـــــم وأهلينـــــا
حكيت فيها عن التاريخ أجمعِه تاريــــخِ آبائِنــــــا مُــــذْ أَمَّلُــــــوا فينـــا
فإن لمستم هنا صدقا بسيرتنا وآنستْكم بما ضمَّتْ حكاوينا
فهذه سيرةٌ صِيغَتْ بقريتِنـــــــــــا لقانةٍ إذ غدَا حُبِّي لها دِينـــــــــــا
فهذا النص الشعري يكاد يكثف صنيع مبدعنا في سيرته من حيث الأسلوب، والغاية، والدافع على الإبداع. وهذا ديدنه في مشاهد السيرة العديدة المتنوعة!
وهذا التماهي بين السرد والشعر عند المبدعين، يكاد يكون ظاهرة فنية طريفة وخاصة جدًّا، وجدت قديمًا عند المعري(ت 9 44هـ)، ، وأسامة بن منقذ(ت 584هـ)، والعماد الأصبهاني(ت 597هـ)، وخليل بن أيبك الصفدي(ت 764هـ)، ولسان الدين ابن الخطيب(ت 776هـ)، والسيوطي(ت 911هـ) والشهاب الخفاجي(ت 1069هـ)، والمحبي(ت1111هـ)، كما وجدت حديثا عند شوقي وحافظ والعقاد، ومحمد رجب البيومي، وهي الآن بادية عند بعض المعاصرين كأستاذنا كمال لاشين، والدكتور علاء جانب، والدكتور مصطفى السواحلي… وغيرهم. وهي حقا ظاهرة تستحق الدرس والبحث، وخير أنموذج لها نتاج الحبيب النجيب عبدالوهاب برانية نقدًا وشعرًا وسيرة ذاتية!
نموذج دال من هذه السيرة:
أدعك أيها القارئ الكريم مع مقطع من هذه السيرة، وهو عن (خليل العصر الحديث: الأستاذ الدكتور محمود علي السمان) [الورقة (41)، يقول عبدالوهاب الوفي بادئًا بالعلاقة الأولى قائلاً: “أعود بك قارئي العزيز إلى ما كنت أحدثك عنه – حين كنت معيدًا في قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بإيتاي البارود – من ذهابي إلى أساتذتي في مكاتبهم لأجلهم وأقدرهم، ورأيت نفسي في لحظة أجالس قامات طالما كنت أطمح للجلوس معهم في غير قاعة الدرس لأكتشفهم عن قرب، وما كان يمكن لمثلي لو لم يعين في مثل تلك الوظيفة أن يجالس هؤلاء الأساتذة الكبار إلا في أضيق الحدود، وما كان له أن يجالسهم حتى وهو يشغل تلك الوظيفة لو لم يكونوا بمثل ما هم عليه، من التواضع والرقي الخلقي والسمو الإنساني”، ثم يعلن عن جوانب فكرية في المترجم له قائلاَ: “لقد وجدتني أتحدث إلى الأستاذ الدكتور محمود علي السمان الذي كان يشغل موقع عميد الكلية، وقد كان شاعرًا محلقًا ولغويًّا مدققًا وعروضيًّا مُفْلِقًا، وكان يتحفنا بين الحين والآخر بإحدى قصائده وروائعه”..
ثم نرى (عبدالوهاب) المحلل النفسي والباحث الاجتماعي في شخص المترجم فيقول: “وكنا ندخل عليه مكتبه، فنظل ننتظر وننتظر كي يفرغ من أعبائه الإدارية، لنتحدث إليه ويتحدث إلينا، ولكننا لم نكن ننفرد به إلا في القليل النادر، فكنا لشدة حبنا له نكتفي بتلك النظرات والابتسامات، التي يرسلها إلينا بين الحين والحين، في وسط هذا الزحام اليومي من أعباء العمل الإداري، وكأنه كان يعتذر لنا بتلك النظرات والابتسامات عن عدم تمكنه من الحديث إلينا أو الفضفضة بما نتوق إليه من حديث. كنا نلاحظ أستاذنا الدكتور السمان في صمته وكلامه وقعوده وقيامه، وكم كان ذا شخصية قوية! يبتسم فنقرأ في ابتسامته معاني الثقة والاعتزاز والعطف، ويقطب عن جبينه فنقرأ في تقطيبه كل معاني الرفض والعزة والإباء، يمشي وهو الكهل الذي اقترب من الستين فلا نستطيع ملاحقته، فتجد نفسك مستجمعًا قواك لتهرول خلفه، وكأنه ماض عازم على أمر جلل، وكنت أقول في نفسي: كأن أستاذنا قد آثر السبق في كل شأنه، فلن نستطيع أن نلحق به، فلما تفرغ أستاذنا وانتقل إلى حجرة جديدة خصصت له، وتخلص من عبء العمل الإداري، وجدنا أنفسنا أكثر قربًا منه، ووقوفًا على جوانب مضيئة من حياته، كنا نحسها بنبضنا ونبضه، ولكنها أضحت بعد فراغه كأننا نلمسها بأيدينا، فقد كنا نذهب إليه في حجرته الجديدة التي تم الاعتناء بها، ونجلس على هذا الصالون الجلدي الأسود القابع قبالة مكتبه، فكان ينهض لاستقبال زائريه من تلاميذه، ويقدم لهم بنفسه علبة الشيكولا، التي لم تفارق مكتبه، ويضغط على زر الجرس، ليأتي إليه العم فتحي عبد القوي – رحمه الله – ذلك الرجل الذي كان يرفل في عافيته، فيعتصر كف مصافحه بين قبضته، ثم يقدم لنا واجب الضيافة من مشروبات اعتدنا على شربها في مكتب أستاذنا”…
ويظهر (عبدالوهاب) الأكاديمي الباحث المُنقِّب في قوله عن شعر أستاذه:” وكثيرًا ما كنا نستمع من أستاذنا الدكتور محمود السمان إلى بعض أشعاره التي كتبها في مناسبات عدة، وربما نشرت في بعض الصحف اليومية، ولا أدري أين استقرت هذه الأشعار، وما مصيرها؟ ولعل واحدًا من الباحثين يُعْنَى بها مع ما تركه من ديوان بعنوان (مع القرآن) فيقدمها للقارئ في دراسة ممتعة تليق بقدر شاعرنا العظيم، وأذكر أن أخي الدكتور محمد سلام قد اهتم بإحدى قصائد أستاذنا فوازن بينها وبين قصيدة أخرى للدكتور محمد العزب في بحث علمي نشر بإحدى الدوريات، ولعله -وهو الآن رئيس قسم الأدب بكلية الدراسات بدمنهور- ينهض بتلك المهمة، فيكلف إحدى الباحثات بجمع تراث أستاذنا الشعري ودراسته. فيكون بهذا قد أدى لأستاذنا وشعره بعض حقه على تلاميذه.
ثم يسجل لنا العلاقة العلية بينه وبين أستاذنا السمان قائلاً: “لقد أشرف الدكتور محمود السمان علىَّ في رسالتَيْ الماجستير والدكتوراه، وكم كنت أشعر بالأمان في ظل إشرافه! وقد كنت لهذا كثير الجلوس معه، والنهل منه، والتزود من فيض علمه وخلقه وإنسانيته، وعرفت به الكثير والكثير من أخلاقيات البحث العلمي وواجبات الأستاذ الجامعي، فالأستاذ الجامعي صاحب رسالة، ولعل أهم ما تعلمته من تلك الأخلاقيات النزاهة والعفة وطهارة اليد واللسان، وأذكر أني بعد حصولي على الدكتوراه بادرني أستاذي في اليوم التالي مباشرة من مناقشة الرسالة – وكنت أحضرت له هدية- قائلا: “الناجح تُقَدَّمُ له الهدايا ولا يقدم هو الهدايا”! وكأنه يقفني على درس آخر لم أتعلمه إلا منه، ذلك هو أستاذنا الدكتور محمود علي السمان الذي أدى رسالته نحو تلاميذه بهذا الشكل العملي التربوي الذي نفتقده لدى كثير من الأكاديميين على كثرتهم. لم يكن الدكتور محمود السمان إلا واحدًا من أساتذتنا الذين تعلمنا منهم، وتربينا على أيديهم وندين لهم بالفضل، ولو ظللت أتحدث عنه، وأسرد ما له من أياد بيضاء علىَّ لضاقت تلك الصفحات عن استيعاب ذلك الحديث المطول عن أستاذنا، ولكنها إشارة المتعجل، وإطلالة المحب المتذكر لماضيه الجميل.
وينتقل السارد العجيب (عبدالوهاب) من الخاص إلى العام قائلاً: “ولقد كانت كلية اللغة العربية بإيتاي البارود كروضة غناء كثيرة الغرس طيبة الثمر، وإني لأجدني من شدة حبي لأساتذتي حائرًا في إحصاء مآثرهم والوقوف على جميل صفاتهم، وكلهم صاحب فضل وله عليَّ أياد أعجز عن حصرها، ولكن تكفي الإشارة إلى مناقب بعضهم، ولو تتبعت بقيتهم بالحديث، لاحتجت إلى مجلد خاص، يعرض ما لجملتهم وآحادهم من صفات مشتركة أحيانا وخصوصيات، تأبى إلا أن تعبر عمن انفرد بها من هؤلاء الأفذاذ. وقد يقف على هذا الحديث بعض الزملاء والدارسين، من الذين عاصروه وشاركوني في بعض ما أشرت إليه، وربما وافقني في كل ما ذكرت بعضهم أو في شيء منه، وربما خالفني البعض في جملته أو في بعض منه.