النموذج النقدي لمعالجة العمل الأدبي عند الأستاذ الدكتور محمد علي سلامة
قراءة في دراسته لسيرة فؤاد قنديل الروائية "المفتون ونساء وألغام"

بقلم / دكتور : سيد محمد السيد
في محبة الكلام، وصحبة الأوراق والأقلام، تابع الدكتور سلامة تجلّيات الجمال في المداد، ملتمسا صوت إنسانيتنا العميقة الغريقة، وعقله يسبح في تفاعيل البحور، ومائية الصور، وأنهر السطور، واصلا بين ضفاف الاستقبال ومنابع الإرسال.
استمر ناقدنا الأستاذ الدكتور محمد علي سلامة (1953- 2022م) يمعن النظر في الإبداع وجمالياته، والنقد الأدبي ومقولاته، حتى يوم الأحد الثامن من مايو 2022م الذي رحل في صباحه بعد أن ألقى مرويته الأخيرة في مناقشة رواية “زهور بلاستيك” لشريف مليكة بصحبة حسين حمودة وعمرو الشامي مساء السبت السادس من شوال 1443هـ، خاتما السباق، تاركا تقدير القيمة للرفاق.
مكتب الدكتور سلامة في (منزله/المكتبة) يضم كثيرا من الأعمال التي دعا أصحابها أستاذ النقد لمناقشتها برؤيته وخبراته ومنهجيته. وأينما يحضر الدكتور سلامة يسري السلام والابتسام، وتتدفق الأذهان بالأفكار التي يعد لها سلامة في الغرفة المضيئة بإعمال العقل، هناك تحتفظ رسائل جامعية في الأدب والنقد والبلاغة والدراسات الثقافية، بلمسات اليد التي أخذت بسواعد النابغين من الأساتذة والتلامذة، وكم كان الرجل مرحبا في دوحته بعيون الأوراق التي ترسل إشارات الإبداع.
وفاء للصداقة الكريمة التي جمعتني بالدكتور سلامة أتوجّه إلى دراسته التي كتبها بعنوان (الجذوة المتّقدة تلاقح العام مع الخاص والذات مع الموضوع قراءة في سيرة فؤاد قنديل عبر “المفتون” و”نساء وألغام”) وهي منشورة بالعدد الرابع – يناير 2016م – ربيع أول 1437هـ – من مجلة جسور التي تصدرها الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، برئاسة تحرير الدكتور محمد العبد أستاذي وصديقي.
الفرضية التي يهدف إليها مقالنا هي استخلاص النموذج الذي يمكن أن يفيد دارسي النقد من خطاب محمد سلامة، بالتالي يصبح النقد التطبيقي مجالا لتنظير معرفي يوضح دافعية العمل النقدي، تلك الدافعية التي تحدد منهجية المعالجات ومقصديتها.
كيف يكتب محمد علي سلامة قراءته النقدية؟ نفترض أن هناك استراتيجية اختيار، تنطلق من دافعية تصل عقل الناقد بنص المبدع، ويهمنا استنباط الاستراتيجية التي تنطلق منها الدافعية التي توجّه الناقد لتحديد الظاهرة الإبداعية التي ستصبح موضوع الدراسة، بوصفها مجالا لمقصدية قراءته.
المحور الذي نتحدث عنه في الاستراتيجية النقدية لمحمد علي سلامة هو الدافعية، فكل عمل لابد أن ينطلق من حافز يحدد أهميته ومنهجيته ومقصديته، وحين يقرر كاتب الخطاب النقدي أن يقرأ نصا محددا، أو يتناول الأعمال التي أصدرها أديب بعينه، أو يعالج ظاهرة إبداعية ما، فإنه يفعل ذلك من دافعية لها منطق في توجيه اختياره.
دافعية محمد علي سلامة في تحديد النص الأدبي موضع المعالجة النقدية تقوم على أسس علمية وثقافية ونفسية، وإذا أخذنا دراسته لسيرة فؤاد قنديل بجزئيها “المفتون” و”نساء وألغام” سنجد أنه يحاول استكمال مشروعه النقدي التطبيقي الذي وضع أساسه في كتابين مهمين عن نجيب محفوظ، أستاذ الرواية العربية في أكاديمية السرد العالمي، عالج في أحدهما الشخصية الثانوية، وفي الآخر الشخصية الدينية، وهذا الأساس يستطيع أن يقيم العمارة النقدية لسلامة الذي يلتقي مع فؤاد قنديل (1944- 2015م) في جيل واحد بدرجة ما، هذا الالتقاء يسمح له بفهم المرجعية الثقافية التي انطلقا منها (قنديل وسلامة/ السارد والناقد) ووجّها لها خطابهما: الإبداعي والنقدي في سيرة ثقافية مشتركة.
من منطلق علاقة سيرة فؤاد قنديل بالمشروع النقدي لمحمد سلامة الذي اهتم بمسار السرد المعاصر، مؤسسا خطابه بدراسة نجيب محفوظ، وممتدا بذاك الخطاب إلى الأجيال اللاحقة لأديب نوبل، جاءت دافعية اختيار المعالجة النقدية، لكن انتماء سرد فؤاد قنديل لفترة مشروع سلامة النقدي ليس السبب الوحيد، فهناك السبب التاريخي الاجتماعي وهو التكوين في سياق ثقافي واحد، فسلامة سيقرأ رحلة جيله وهو يتابع زمن فؤاد قنديل، وهناك الجذر العقلي، فسلامة مثل قنديل تخرّج في كلية الآداب، جامعة القاهرة، برسالتها التنويرية المدعّمة بمفهوم التطوّر، ومنهجيتها العلمية، ونزعتها العقلانية، هذه سمات تجمع الأديب والناقد، وهما من أبناء الريف الذي أتى العاصمة، وهو يحلم بدور في المشروع القومي الذي أعلنته ثورة يوليو 1952م، فاللقاء النفسي بينهما كان محفّزا روحيا للمعالجة النقدية.
كان سؤال الحياة يطرح نفسه على الأديب والناقد معا، وكان موضوع الموت مرتكزا لذاك اللقاء بين المبدع الذي يضع سيرته بين يدي القارئ ويرحل، والناقد الذي ينظر وراءه بشجن متأملا الطريق الذي صحب فيه رفاق الإبداع.
كتب سلامة الدراسة قبيل وفاة فؤاد قنديل، ونشرت تلك الدراسة بعد وفاة الأديب، وقلم الناقد يتمنى أن يكمل فؤاد السيرة، لكنه ترك لصديقه الناقد مهمة الاستكمال، فالقراءة كتابة ثانية.
الغريب أن يبدأ سلامة مقالته التي سيرحل بعد ستة أعوام من نشرها قائلا: “سامح الله فؤاد قنديل فقد أبكاني وأنا أقرأ فصل “الموت في أبشع تجلياته” من كتابه “المفتون” وهو الجزء الأول من سيرته الذاتية، وإن شئنا قلنا سيرته الموضوعية.” – مجلة جسور – ع 4 – ص21 فتحدد المقدمة تأثير العمل في الناقد، كأن صوت فؤاد قنديل، أو قلمه، ينطق بما في وعي محمد علي سلامة، أو يكتبه.
إن المخزون النفسي لديهما متشابه لمرورهما بتجربة تكوين لها مرجعية واحدة، تركت في الذاكرة رصيدا متشابها من التجارب، بما يعكس ذاك الرصيد، التقارب بينهما في البنية الشعورية العميقة التي يمكن أن تتجلى في الأداء التعبيري، ذاك الأداء الذي تنصب فيه تصورات العالم، بدرجة تسمح لأحدهما بقراءة نفسه وهو يقرأ الآخر، أو أن ترسم الكتابة السيرية الروائية العالم الداخلي للسيرة الشخصية التي لم تكتب عند الناقد، بالتوازي مع المعالجة التي يمارسها الناقد للسيرة التي كتبها الأديب، مستخلصا الهوية الإبداعية لصاحبها.
الأديب (فؤاد قنديل) يضع في سيرته الذاتية ترجمة ضمنية مستترة للناقد (محمد علي سلامة) والناقد (سلامة) يكتب سيرة الأديب (قنديل) من جديد بعد أن تمر على تجربته الإدراكية.
من الدافعية التي امتزجت فيها الموضوعية بالذاتية، إلى الرؤية التي تحدد عنوان المعالجة “الجذوة المتقدة تلاقح الذات والموضوع..” يتضح أن العنوان انبثق من الانطباعية، أو التأثيرية في تلقي الناقد للعمل، لكنه ملتزم بظاهرة تناسب تحليل سيرة ذاتية في قالب روائي، فالجذوة المتقدة إشارة إلى النفس، تلك النفس التي تتميّز بالإبداع، وتتعلّق مداركها بمعطيات الحياة، إن النفس تتشابك مع سياقها وهي في سبل التكوين، مدفوعة برغبة متأججة صوب معرفة ترضي نهمها الروحي، وفي رحلة التحققّ الوجودي تكتب النفس سيرتها في مسارها المتقاطع مع اللحظة التاريخية حولها، فتكون السيرة مرآة عاكسة لفاعل الإدراك والموضوع المدرك معا. والمزج بين الذات والموضوع بوصفهما بنية متكاملة عند فؤاد قنديل صاحب السيرة، يتكرر في نسق يطرح نفسه في دراسة الدكتور سلامة النقدية، الذي يقرأ تجربته بالتوازي مع المحتوى النصي للمفتون، كأن العنوان الذي حددّه الناقد لمقالته قناع يمرر ملامحه النفسية في معالجة سيرة الآخر.
هذا الاختيار السيميائي للعنوان يشير إلى انطلاق سلامة من منهجية تحليل الموضوع، أو الظاهرة السردية، وهذا المنهج ميراث علمي نقدي من مدرسة أمين الخولي في كلية الآداب، فقد رسّخ الخولي منهجية تحليل الموضوع من نظرية إدموند هوسرل في فلسفة الظواهر، وكانت إحدى الروافد الفكرية التي أتى بها الخولي من فترة وجوده في ألمانيا، وهذا يؤكد التواصل العلمي عبر الأجيال، وإن لم يكن واضحا للوهلة الأولى، لكن القراءة الجذرية، الباحثة عن الجذور الجيولوجية للأفكار، كما تعلّمنا من عبد الله خورشيد تلميذ أمين الخولي، تساعدنا على تحديد السمات التي يمكن أن تتشكّل منها المدارس العلمية.
ولا يعد المجاز في العنوان عدولا ينتقص من المعيارية العلمية بل هو الصورة الناطقة التي تستطيع أن تحتفظ بوجودها الحيوي في مخيّلة المتلقي، وكثير من الكتابات النقدية تضيف بالتعبير الاستعاري قيمة جمالية تتجلّى فيها الظاهرة موضوع المعالجة، ومن هذه الدراسات كتاب “في البحث عن لؤلؤة المستحيل” للأستاذ الدكتور سيد البحراوي، معاصر الدكتور سلامة، ورفيق الدراسة معه في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
حققّت دافعية اختيار الدكتور سلامة لموضوع دراسته وهي سيرة فؤاد قنديل (المفتون ونساء وألغام) غايتها وهي النظر إلى السيرة بوصفها ظاهرة تجمع الخاص والعام، وتصل خط الحياة بفضاء السرد، ودعّمت تناول الظاهرة الموضوعية وهي مفهوم الافتتان وأنواعه واتجاهاته، بتحليل تقنيّات الكتابة الدالة على الظاهرة، فالتمست الدراسة من البنيوية التكوينية، أو علم اجتماع الأدب عند لوسيان جولدمان مفتاحها الثاني بعد المفتاح الظاهري المحوري، وهذا الاتجاه المنهجي يستحضره الدكتور سلامة من جابر عصفور الذي شارك في نقل تلك المنهجية بوصفها أحد الحلول المهمة التي تجمع ثنائية الشكل والمعنى دون فصل تعسفي بينهما، بذلك يكون محمد علي سلامة قد أخلص لكلية الآداب التي تعلّم فيها أسس النقد الأدبي، ونتيجة حتمية لمنهجية تماهي المضمون في الشكل، وصلت الدراسة إلى أرضية النقد الثقافي الذي يزيح الحاجز الوهمي بين الجمالي والاجتماعي، وليست هناك مشكلة في اقتراض تحليل الظاهرة الأدبية من منهجيات نقدية متنوّعة إذا كانت تحتفظ بمحورها المنطلق من دافعية الاختيار.
دراسة محمد علي سلامة لسيرة فؤاد قنديل الروائية (المفتون ونساء وألغام) تطرح إحدى القضايا المهمة أمام الباحثين في النقد الأدبي بمنهجية علمية، وهي قضية اختيار الموضوع، والقيمة التي يضعها الدكتور سلامة لكل من يتوجّه إلى الدرس النقدي أن يحدد إطار مشروعه، وأن يكون اختيار العمل منطلقا من استراتيجية هذا المشروع، وأن يمنح الناقد مبدعي جيله أهمية في خطابه إذا كان عمله متصلا بالسياق الثقافي المحيط، وليس شرطا أن يكون الاختيار نابعا من التقارب التاريخي بين الناقد والمبدع فقط، فهناك الالتقاء الفكري والجمالي والشعوري، وإذا نظرنا إلى هذه المحاور لن نفتقد الصلة بإنسانية الإبداع عبر الثقافات والأجيال، إنما سنحدد وسننطلق من الظاهرة موضوع الدراسة إلى المنهجية النقدية التي يمكن أن نستخدمها بوصفها أداة تنقيب، نعمل بها في استخلاص قوانين البلاغة وكلمة النص.