النقد الحديثي: نشأته وتطوره         

النقد الحديثي: نشأته وتطوره         

 

د. صفاء مصطفى علي

أولا: النقد في القرآن الكريم:

إن جذور هذا العلم ترجع في نشأتها -منذ إرهاصات النبوة وبواكير الوحي – إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ففي ثنايا آيات القرآن الكريم ثناء الله على الصحب الكرام، كما فيها ذم المنافقين والكفار والفاسقين اللئام. .

ثانيا: النقد في العهد النبوي

أما المنهجية التي أسسها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنقد السنة فقد كانت مبنية على الفطرة الإنسانية؛ لأن دينه دين الفطرة، والنظرة تقتضي بأن الخبر يحتمل الصدق والكذب، وبأن الأخبار المهمة التي ينبني عليها عمل ينبغي التحري في صدقها من كذبها، وبأن راوي الخبر هو أول من ينبغي التحري حوله هل هو من أهل الصدق، وهل جُرب عليه الكذب من قبل؟ وهل هو متهم في خبره أو مستفيد منه؟ ودليله حديث “هرقل” لما سأل أبا سفيان قبل إسلامه:” ‌هَلْ ‌كُنْتُمْ ‌تَتَّهِمُونَهُ ‌بِالكَذِبِ ‌قَبْلَ ‌أَنْ ‌يَقُولَ ‌مَا ‌قَالَ؟”  سأله هرقل بمقتضى الفطرة وأجاب أبو سفيان بمقتضى الفطرة أيضا. وكذا تقتضي الفطرة البشرية أن الخبر البشري كما يدخله الكذب، فإنه أيضا قد يدخله الخطأ غير المتعمد. وهذا يعني أنه ينبغي التحقق من سلامة خبر الصادق من الخطأ غير المقصود.

وكان التحقق من صحة الخبر في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال النظر إلى حال راويه متسقا مع المنهج القرآني حين قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}  فالآية دلالة على وجوب التمييز بين الثقات والضعفاء. وكان الفسق في الآية هو معيار الراوي الذي لا يؤمن كذبه.

وعليه، فإن النقد الحديثي في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم على مستويين ظاهر وخفي يتوجه المستوى الظاهر إلى نقد الراوي، وكان منصبا على الاستيثاق والتأكد من عدم الوهم والخطأ.

ومن شواهد حرص الصحابة –رضوان عليهم-على الصدق والتوثيق عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أخرجه مسلم في صحيحه، أن “ضمام ابن تعلبة أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق…” .

ثالثا: النقد في عهد الصحابة (المقصود بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم)

وقد كان الصحابة –رضوان الله عليهم-يوثِّقون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلمهم بخطورة الكذب عامة، والكذب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، وكيف لا، وهم يسمعون منه مشافهة قوله صلى الله عليه وسلم:” «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، ‌مَنْ ‌كَذَبَ ‌عَلَيَّ ‌مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»” .

فلا كذب أعظم وأشد من كذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا يقول الخطيب البغدادي كلاما قيِّمًا: “فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين، والتفتيش عن أمور الناقلين احتياطا للدين وحفاظا للشريعة من تلبيس الملحدين” .

فالصحابة كلهم عدول لا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضا، بعد أن شهد لهم الله في كتابه:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا” وقوله:” وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

فالصحابة أتقياء أنقياء اختارهم الله لحمل رسالته ورسم معالم مكانتهم، وذب عنهم كتاب الله، وشهد لعدالتهم رسول الله: ” خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي”  فما ينبغي لأحد أن يرميهم بسوء بعد هذا.

لكن يجب التنبه إلى  أن عدالة الصحابة شيء وضبطهم وحفظهم شيء آخر، فهم –ولا شك-متفاوتون في درجة حفظهم، كما هو شأن البشر جميعا، حفظ منهم من حفظ، ونسي منهم من نسي، وقد جاء في الكفاية للبغدادي أن ابن أبي ليلى قال لزيد بن أرقم: حدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “كبرنا، ونسينا، والحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد” .

على أننا يمكن أن نلحظ سمة أخيرة في سمات منهج النقد عند الصحابة ألا وهي تفاوت الصحابة في الحديث روايةً وفهمًا، فمن المعلوم أن صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفاوتت درجات ملازمتهم له، فمنهم الملازم، ومنهم البعيد وذلك بحسب مشاغلهم وسعة أوقاتهم كذلك يؤخذ في الاعتبار اختلاف سنوات إسلامهم، فهم بالطبع لم يسلموا جميعا في وقت واحد، لكن في وقت لاحق فمنهم السابق ومنهم اللاحق. وكذلك تفاوتت درجات فهمهم لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعتبارات كثيرة منها الملكة العقلية، العلم بسياقات الحديث ومناسبته القدرة الاستنباطية لديهم كما هو الحال عند ابن عباس رضي الله عنه.

وللحديث بقية إن شاء الله

______

هوامش:

[1] المعلمي، عبد الرحمن بن يحيى المُعلمي اليماني، بحوث حديثية علم الرجال وأهميته، حققها وعلق عليها على بن حسن بن علي بن عبد الحميد، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، 1417ه.ص18. بتصرف.

[1] البخاري، صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم الحديث 7، 1/8.

[1]الحجرات: آية 6.

[1]مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام. الرقم الحديث 12.

[1] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الجنائز، ‌‌بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ، رقم الحديث 1291، 2/80، بأمر السلطان عبد الحميد الثاني، ثم صَوّرها بعنايته: د. محمد زهير الناصر، وطبعها الطبعة الأولى عام ١٤٢٢ هـ لدى دار طوق النجاة – بيروت، مع إثراء الهوامش بترقيم الأحاديث لمحمد فؤاد عبد الباقي، والإحالة لبعض المراجع المهمة. ومسلم، بَابُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رقم الحديث 3، 1/10..

[1]البغدادي، الكفاية في علم الرواية، 1/35. ولعل المقصود بالملحدين المائلون عن طريق الحق عموما، المشككون وربما الفلاسفة الذين يخضعون كل شيء لعقولهم ويموهون به على العامة.

[1] الفتح: 18- التوبة:100. صحيح على شرط مسلم.

[1] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم الحديث 2509، 2/931. ومسلم، كتاب فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فَضْلِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، رقم الحديث 2533، 4/ 1963.

[1] الخطيب البغدادي، الكفاية 1/171.والأثر في مسند الإمام أحمد، 22/58، حديث 19304. وهو صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: