النص والذِّمَّة الأدبية المستقلة  

محمود حسن

عندما قال ت س إليوت ” إن عملية الخلق في مجموعها لا تخرج عن كونها عملية نقدية ، فالكاتب الذي ينتقي كلماتِه ويصوغ تراكيبَه ويختبرُ مضامينَه ، إنما هو مبدعٌ بقدر ما هو ناقد ، إذ إن عمليات الانتقاء والصياغة والاختبار عمليات نقديةٌ بقدر ما هي إبداعية ، وقد اعتبر إليوت نقد الكاتب لإنتاجه الخاص أعظمَ إنتاجٍ في النقد “(١)
بالطبع لم يكن إليوت يقصد أن يكتب أو أن ينظِّر الكاتب عن – أو – لصالح كتاباته هو ؛ إذ أن الكاتب بمجرد أن يلقي إلي المستمع أو القارئ نصَّهُ ؛ فقد انتهت علاقته به ؛ وصار النص كائنا مستقلا له شخصيته وذمَّتُه الأدبيةالمستقلة ، فلا نسمع لرأي صاحبه عن جودته ولا عن تفرده ولا ألْمعيَّته وإلا انحدرنا من رسالية النص إلي الشهادات المجروحة التي .
الكاتب ناقد نفسه في مراحل الكتابة والإبداع وإسقاط الفكرة والنص على الورق ؛ ثم للنص نُقَّادُه ومحللوه بعد ذلك .
وربما يتذرَّع البعض بقول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
نقول إن المتنبي كان وهو يقول هذا في مرحلة الكتابة والإبداع ، وله أن يرى ما شاء في هذه المرحلة ، أما بعد أن خرج البيت من فمه فلا مجال لرأيه هنا ولا حاكميَّةَ له ، ولا اعتبارَ نقدياً يلزمنا من وراء تصريحه هذا ، وعلينا نحن النقاد أن نري أين يقف المتنبي بشعره من خلال آليات النقد المناسبة ، والفكرة واللغة والعصر والحضارة والثقافة الآنية ، آخذين في اعتبارنا عصر الشاعر وحضارته وثقافته آنذاك ، أما ما قاله هو عن نفسه فيلزمه هو ، وليس له سلطان علينا ، وإن رَأَيْنا أنه أي المتنبي وغيرَه ، من أصحاب المكانة العليا في طبقات الشعراء .
ولعل ما يشغلنا هنا هو أحد أمرين :
الأول : النص وفعله في عصره ولحظة ولادته .
الثاني : النص وامتداده وفعله في عصرنا نحن .
فإن قال الحطيئة :
‏‎وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ
‏‎بِتيهاءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
‏‎أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ
‏‎يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
‏‎وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزائَها
‏‎ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
‏‎رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ
‏‎فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَسَوَّرَ وَاِهتَمّا
‏‎وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ
‏‎أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
‏‎وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا
‏‎يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
‏‎فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَحجمَ بُرهَةً
‏‎وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
‏‎فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ
‏‎قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
‏‎عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها
‏‎عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
‏‎فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها
‏‎فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
‏‎فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ
‏‎قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
‏‎فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ
‏‎وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
‏‎فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم
‏‎فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
‏‎وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً
‏‎لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
فبإمكاننا هنا أن نطبق علي الحُطيئة الأمرين الذين أشرنا إليهما سابقا وأن ينجح في تجاوزهما ، ولا يمنعنا عن ذلك اللغة القديمة والمعجمية ، بل ونستطيع أن نسقط على النص ملامح فنون حديثة مثل السرد وملامح الدراما المسرحية من تصوير وحركة ولوكيشن وإضاءة ورسم للصورة وغيرها رغم أن الرجل قال قصيدته في عصر ما قبل الإسلام ، ولعل أهم ما يستطيع أن يقف به هذا النص حتي الآن هو بُعْدُه الإنساني الممتد ، حتي في تعاطيه للمبادئ نحو حق الظبي أن يشرب أولا وأن يسقي عطاشه قبل أن يطلق عليه سهم الضيف لا سهمه هو ، جالبا حق الضيف قبل حق أولاده وأهل بيته ، هذا الذي كان على استعداد لذبح ابنه إكرامًا لضيفه ، بل وكان ابنه مستعدا لتقديم روحه وجسده طعاما حتي لا يذمَّهم غيرُهم بِمذَمَّةِ البخل .
وعندما يقول الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين ” 1799 — 1837 “ :
أين حلاوتك
يا أيتها الأحلام؟
وأين بهجة الليل؟
لقد تلاشت أحلامي
والآن ها أنا ذا مستيقظ لوحدي
وسط العتمة العميقة
والليل الساكن يطوّق سريري
على حين غرة
تتسلل الرعشة إلى أحلام حبي
فتفرّ مني
وتختفي بين الحشود
مع ذلك
تبقى نفسي تعج برغبات الأحلام
ويتملكها شوق عارم
للإمساك بالذكريات
أيها الحب
أصغِ لصراخي أيها الحب
وارسل رؤاك ثانية إليّ
وعندما ينبلج الصبح
لا توقظني
بل دعني أرقد رقدتي الأبدية
وحينما يقول أول شاعر أسيوي حاصل على جائزة نوبل الشاعر الهندي العظيم طاغور ” ١٨٥٧ — ١٩٤١ م ”
هَذِهِ أغْنِيَتِيْ ، سَـتُدِيرُ مُوسِيقَاهَا حَوْلَكَ ..
طِفْلِي ..
كَـ ذِراعَيْ الَحُبِّ الَحَنُونَيْنْ ،
أغْنِيَتِيْ ، سَـ تَلْمَسُ جَبِينَكَ ..
كَـ قُبْلَةٌ مِنَ الَرِضَا ..
عِنْدَمَا تَكُونُ وَحِيدَاً ، سَـ تَجْلِسُ بِجَانِبِكَ ..
وَتَهْمِسُ فِيْ أُذُنِكَ ..عِنْدَمَا تَكُونُ وَسَطَ الزُحَامْ ،
سَـ تُحِيطُك بِـ العُزْلَةِ ..
أغْنِيَتِيْ سـ تكون كـ زوجٍ مِنَ الأجْنِحةِ لـِ أحلاَمكَ ..
سَـ تَنقُلُ قَلبَكَ لـِ حَافَةِ المَجْهُولْ ..
سـَ تَكُونُ كـَ النَجْمِ المُخْلِصِ فِيْ السَمَاءِ ،
عِنْدَمَا يَكُوُنُ الَليْلُ المُظلِمُ عَلَى طَرِيِقَكَ ..
أغْنِيَتِيْ سـَ تَجْلِسُ فِيْ بُؤبُؤُ عَيْنَيْكَ ..
وَ سَـ تَحْمِلُ نَظَرَكَ إلَىَ جَوْهَرِ الأشْيَاءِ ،
وَ حِينَ يَسْكُنُ صَوْتِيْ فِيْ الَمَوتْ ..
أغْنِيَتِي سَـ تَتَحدَّثُ فِيْ قَلْبِكَ الَحَيّْ .
وأيضا حينما يقول صاحب نوبل الإنحليزي ت . س . إليوت ” 1881 — 1965 م ”
يا ابْن البَشَر أنتَ لا تقدر أنْ تقولَ أو تَحْذرأنتَ لا تعرف غير كومةٍ من الألواحِ المُهشّمة حيث تسْطَعُ الشَّمسُ والأشجارُ الميّتةُ لا تمنح المأوى حيث الجُدْجُدُ لا يستريح والحَجَرُ الأجْدَب ليس صوتَ ماء فقط ثمّة ظلُّ تحت هذه الصّخْرةِ الحمراء ( تعال تحت ظلِّ هذه الصَّخْرَةِ الحمراء ) ،وسوف أريكَ شيئاً ما شيئاً يختلف عن ظلِّكَ حين يخطو خلفكَ في الصباح وعن ظلِّكَ حين يرْتَفِعُ لكي يُقابِلك في المَساء سوف أريكَ الخوفَ في حفْنَةٍ من غبار .
وحين يقول الشاعر الإفريقي النيجيري ” جون بيبر كلارك ” ترجمة ” رندة أبو بكر ”
في مقطع من قصيدة (من حقكم أن تبكوا)
يا أهلي! لا تغالوا في المغامرة
فقد تجدون أنفسكم مسجونين
داخل اللغز الذي سعيتم لكشفه حسبكم
الآن أن تعرفوا أن كل يوم نعيشه
يعلمنا لماذا بكينا ساعة الميلاد
أقول حينما نستمع لكل هؤلاء نستطيع أن نقول إن هذا الأدب وهذه النصوص أدب ونصوص تعيش في عصرها وفِي عصرنا وربما لعصور قادمة .
لكن ” وقد تعجبُ ” مما هو آت ؛ قد نستمع إلي نفس الشاعر ؛ الحطيئة مثلا وهو يقول :
قوم هم الأنف والأذناب دونهم
فمن يسوي بأنف الناقة الذنبا
في مقام الهجاء
نقول إن الحطيئة كان يهجو بعض قومه ولَم يغادر شعره هذا زمانه ولا مكانه هو إلا بمقدار ما يحتاجه الباحثُ للرصدِ والتحليل وتتبُّع تاريخِ الأدبِ والشاعر والبيئة والبادية والحاضرة .
أو حينما يقول عمرو بن كلثوم :
إذا بلغ الفطامَ لنا رضيعٌ
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
نقول له أنت كذاب كبيرٌ ، ولا يكرر بيتك هذا إلا أحد إثنين :
راصد وباحث ومؤرخ ” وله الحق في ذلك “

أو جاهل يعيد بيتك هذا في مثل هذا الموقف الجاهل ، وأنت ترتكب جريمة كبري تخالف كل الأعراف العربية والشهامة والفروسية والرجولة ، حيث وقفت تنشد شعرك المتعالي والمملوء كذبا وقد أغمدت سيفك في قلب مضيِّفك الذي أطعمك وسقاك وأطعم أمك معك وهي رأس الفتنة التي حوّلتك لقاتل وجاحد .
لكن يبقى السؤال ؛ أين الناقد الذي ليس في نفسه من النص ولا من المبدع شيء ؟!؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ١ ) نوابغ الفكر الغربي ١٧ إليوت للدكتور فائق متي ص 26 ” بتصرف ” دار المعارف رقم الإيداع ٣٣٢٢/ ١٩٩١ م .

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: