المقامة الحصادية

المقامة الحصادية

حمادة عبد الونيس

 

حدثنا ابن عبد الونيس ،الروائي الفذ ،شلال السرد الهويس قال :

حدثني أبي تاج رأسي ومصدر قوتي وبأسي ،الذي ورثني النباهة والنزاهة ورهافة الحس ؛فقد كان لي معه كل ليلة مسامرة فيها  تحلو الجلسة الأبوية بحسن المحاضرة وعبق الماضي وجمال العرض والتشويق وقوة الذاكرة !!

قال :

لذ بركن الله يا ولدي يغنك عن كثرة العتاد والعدد فقد مرت بي سنوات عجاف يهتز لها الطود الأشم لكني بحول الله  وطوله  من شيء لا أخاف !!

لقد عشت في قرية الظلم طاغ فيها ما في ذلك مرية !!

الكثرة الكاثرة تعمل بالأجرة اليومية ربع جنيه لا يزيد،  والشكوى لغير الله لا تفيد فمن تضرع إليه واعتمد عليه كفاه وأغناه ووهبه المزيد !!

عشت يا ولدي، في كد وتعب لكنني عزيز النفس ،طيب الكسب ،عظيم الغرس لم يكن لي من أخ شقيق أشدد به أزري وأشركه في أمري ولقد عضني الدهر بأنيابه لما توفيت أمي؛ فزادت أحزاني وعظم خطبي وغمي فأسرع أبي في الزواج فباع الأرض وعاش حياته كما تقول العامة: “بالطول والعرض” !!

أسرع الماكرون الذين للمال من حلال وحرام يجمعون فوضعوا أياديهم على أرض الأوقاف، وكل فقير بائس منطو على نفسه قابع في ثياب ذله من بطش المتجبرين يخاف فلم يجرؤ أحد في هذا البلد أن يذهب إلى” الملقا”حيث البراري والحامول يسكنها الذئاب والغول ،كلما ذهب الناس يرعون أنعامهم وجدوا جثثا ملقاة وسط المياه فوجلت قلوبهم وارتعدت فرائصهم وركبهم الهم فولوا على أعقابهم مدبرين !!

الخوف يا ولدي -من قديم -أعدى أعداء الإنسان في بلدي ؛ نجح الظالمون في إقصاء عامة الناس عن الأراضي البور وزينوا لهم العمل لديهم بأبخس الأجور فتكونت طبقتان :

طبقة السادة وطبقة العبيد ،السادة مشهورون بالدهاء ووضع الخطط يدورون حول المصلحة حيث دارت يهتدون إليها إذا عقول العوام حارت !!

يحاربون المصالح العامة ويقدمون مصالحهم على مصالح الأمة لا يساعدون الفقير ويدفعون الرشوة للمسئول الكبير !!

نشأ الأغنياء يا ولدي في صلف وتيه وكبرياء ينظرون للناس شزرا ؛يسخرون منهم  ،يستخدمونهم في السخرة وفي الشدة لا يسألون عنهم !

والحق أن الفقراء يستأهلون لأن من رضي بالذل كتب عليه وانتهى أمره إليه وافترش التراب بإليتيه ولن يبكي أحد عليه !!

لكن يا ولدي ربك له أمور يصرفها وفق حكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون!!

عرف الفقراء السفر فأسرعوا إليه قاصدين وجه الكريم الودود الرحيم فاشتروا الأرض وبنوا بيوتا تضارع بيوت الأغنياء بل تفوقها أبهة وجمالا وامتلكوا الأنعام والأموال وصاروا نعم القوم حالا !!

وتعهدوا أبناءهم بالرعاية والعناية وعلموهم في المدارس من مال حلال وحكمة الله آية !

نجح أبناء الفقراء الباحثون عن حياة فاضلة متوكلين على رب الأرض والسماء فحازوا الرتب وفازوا بالسلب وتحقق لهم الرجاء !

أما الذين أطعموا من حرام وانتفخوا كبرا وبطرا فقد تواكلوا على أموال آبائهم وساروا تيها وعربدة فلم يحقق أحدهم هدفه ولم يبن سؤدده!

وقد صدق في الجميع قول الحق :

“وتلك الأيام نداولها بين الناس “.

هل تعلم يا بني أن أكابر مجرمي قومي قد حاربوني في قوت اولادي وقلعوا من أجرانهم أوتادي واتفقوا على الإثم المبين ظنا منهم أنني ينساني رب العالمين أو يتزعزع مني اليقين فنصرني الله عليهم وفتح لي البلاد وقلوب العباد ؛فذهب كيدهم سدى ووغرت مستعينا بربي صدور العدا فعلمتكم في الإسكندرية والقاهرة فسبحان من ينصر عباده بالأسباب الباطنة والظاهرة ثم كان من أبناء الفقراء المهندس والطبيب والمعلم والعالم وأستاذ الجامعة والمستشار وربك يخلق ما يشاء ويختار يكون الليل على النهار ولا ينفع معه كيد الظالمين ولا تدبير الفجار فسبحانه سبحانه ما أعظم شانه!

الملك العدل الجبار القهار !!

يقول ابن عبد الونيس ففاضت عيني بالدموع ودب في جسدي الخشوع فقبلت رأس أبي وقدمه ثم خررت ساجدا إلى الأذقان وقمت ملبيا الأذان فصليت الفجر واستعذت بالله من الغدر والفجر وفوضت إلى الله جميع أمري !

ووجدتني أردد قول الأول :

عليك بتقوى الله إن كنت غافلا    يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري

وكيف تخاف الفقر والله رازق فقد رزق العصفور والحوت فب في البحر !

ولو أن الرزق يأتي بقوة  ما أكل العصفور شيئا مع النسر !!

ثم أخذتني سنة من النوم فوجدت أبناء الظالمين مختصمين مختلفين يتعاركون ويتشاجرون ،يسبون آباءهم ويلعنون أمهاتهم من أجل الميراث يأكل قويهم ضعيفهم دون ورع أو اكتراث وقد علتهم العلل يلبسون الرث من الثياب وقد انفض سامرهم وليس لهم من ناصرين ولا أحباب هجروا العبادات وتكاسلوا عن الطاعات وانكشفت أسرارهم وسكن دورهم الهم وكرههم جميع المخلوقات حتى أصبحوا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله !

وبينما أنا في هول المشهد إذا بسواد مقبل علي فأبصرته فإذا هو شخص أعرفه فلم اقترب مني لم أستطع أن أشتم رائحته رغما عني فكأنه ما اغتسل من أعوام فهو أسوأ حالا من زرابي الأنعام !!

قلت ما خطبك ؟!

قال أشكو إلى الله أخي

الذي أكل مالي وذلني

واستأثر بكل شيء

وحرمني وزوجتي وأولادي

تحدث عن الظلم في خطبة الجمعة !

فقلت يا ولدي :

فوض أمرك إلى الله

فإليه يرجع الأمر بدايته ومنتهاه

ولعلها ديون تقضى

وعلى الله جبر الكسير

وعلاج المرضى !!

تمت ولله الحمد والمنة

ونسأله من فضله حسن الحياة وحسن الممات والجنة .

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: