المقاصد والحياة (3/10)
فقه

أ.د. محمد العتربي (جامعة السلطان عبد الحليم الإسلامية UniSHAMS)
قلنا إن المقاصد تتشابك مع الحياة تشابك الشريعة مع الواقع ؛فترسم المقاصد نظاما عقديا وتشريعيا تقوم الأحكام على إظهاره وبيانه ؛وفي هذه المقالة ندلل على ذلك التشابك بما يؤكد حيوية الشريعة وديموميتها وطلاحيتها لاستيعاب الحياة بمكوناتها وأطرافها المعنوية والمادية الإيمانية والعملية.. في المقالة السابقة تعرفنا عن مقاصد العقيدة أو قل مقاصد الإيمان واليوم نتحدث عن مقاصد الإيمان بالله تعالى ويمكن أن نجملها فيما يلي :
المقصد الأول : معرفة الله :إن معرفة الله فطرة شهود وواجب شهادة ؛أثاره جل وعز دالة عليه موصلة إليه وبالنظر إلى الكون قبل النفس يستدل الأنسان علي الله ويعرفه كما قرر المحققون العارفون “الكون كله ظلمة وإنما اناره ظهور الحق قيه ،فمن رأي الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده ؛فقد أعوزه وجود الأنوار ،وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار ..ومما يدلك على وجود قهره ،أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الذي أظهر كل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الذي ظهر بكل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الذي ظهر في كل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الذي ظهر لكل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الظاهرُ قبل وجود كل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو أظْهَرُ من كل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو الواحد الذي ليس معه شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ وهو أقرب إليك من كل شيء؟
كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أن يَحْجِبَهُ شيءٌ ولولاه ما كان وجودُ كل شيء؟
يا عجباً كيف يَظْهَرُ الوجودُ في العَدَم؟ أم كيف يثبت الحادثُ مع مَنْ له وصْفُ القِدَم؟
هذه مقالة ابن عطاء الله السكندري رحمه الله وفيها ما فيها من أنوار المعرفة دون تكلفة .
المقصد الثاني :معرفة أسمائه وصفاته ؛ إن الباب الوحيد للإيمان بالله – تعالى – والتعرُّف عليه المعرفة التي تقتضي العمل – هو معرفةُ أسمائه وصفاته.لأنها دليل أفعاله ونبراس التخلق بأخلاقه العليه بكل ما فيها من جمال وجلال وكمال ؛روى البخاري عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: اجتمعَ عند البيتِ قُرَشِيَّان وثَقَفِي – أو ثَقَفِيَّان وقُرَشِي – كثيرة شحمُ بطونِهم، قليلة فقهُ قلوبِهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمعُ ما نقول؟! قال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله – عز وجل -: ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ﴾ سورةفصلت: 22؛ (البخاري: 4817). لذلك رأينا إن علماء التفسير حين يعلِّقون على نهايات الآياِت المختومة بالأسماء والصفات الإلهية يُوقِعُونها موقعَ السبب لأحكام الآيات، أو موقع التحذير من منكر، أو موقع الحثِّ على معروف، وهذا يَعنِي أن هذه الأحكام مقاصد لصفات الله – تعالى. مثال ذلك: قوله تعالى -: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سورة البقرة: 226، 227.
يقول ابن القيم: “إنه – سبحانه – يعلِّل أحكامه وأفعاله بأسمائه، ولو لم يكن لها معنى، لما كان التعليل صحيحًا، كقوله -تعالى-: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ سورة نوح: 10، وقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سورة البقرة: 226، 227؛ فخَتَم حكم الفَيْء – الذي هو الرجوع والعود إلى رضا الزوجة والإحسان إليها – بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه، والجزاء من جنس العمل؛ فكما رجع إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة”؛راجع جلاء الأفهام: 173.
كلام فيه فوائدُ كثيرة، يخصُّنا منها آخره، أن هناك مقصدًا إلهيًّا من هذه المعلومةِ العقدية؛ كون الله -تعالى- غفورًا رحيمًا، تعليقًا على رجوع الزوج لزوجته، وتناسيه الخلاف رحمةً بها وبالأسرة – يعني: أنكم ينبغي أن تكونوا رحماءَ، فتفعلوا ذلك، حتى تنالكم رحمته – تعالى – ومغفرته؛ فهي معلومة عقدية تخصُّ الإيمان بالله -تعالى- لها مقصدٌ سلوكي. وكذلك في الطلاق حين قال – تعالى -: ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، هذه معلومة عقدية تخصُّ الإيمان بالله – تعالى – ولكن لها مقصدًا سلوكيًّا كذلك؛ فالمعنى: إن طلَّقتُم نساءكم، فلا تُوقِعُوا الطلاق جزافًا، وإن فعلتم فأَحسِنُوا الطلاق؛ لأن الله سميعٌ لِمَا تقولون من لفظِه، وعليم بما تُوقِعُون من حاله؛ فهو خبرٌ عقديٌّ، له مقصدٌ، هو التحذير الذي يَقتَضِي سلوكًا عمليًّا، وهو الامتناع من الظلم؛ خوفًا من الله – تعالى. الأمثلة كثيرة على هذه الحقيقة العقدية؛ إنما أردتُ بهذا المثالِ فقط بيانَ كيفيةِ استنباط المقصد العقدي من خلال النصوص المخبِرة عن الله – تعالى – هكذا يجب أن تقع العقيدةُ في سمع المؤمن وبصره، وهكذا يجب أن تربَّى عليها بصيرته. وللحديث بقية في المقالة القادمة والله المستعان .