المقاصد والحياة (2/10) 

أ.د. محمد العتربي  (جامعة السلطان عبد الحليم الإسلامية  UniSHAMS)

قلنا إن المقاصد  تتشابك مع الحياة تشابك الشريعة مع الواقع ؛فترسم المقاصد نظاما  عقديا وتشريعيا تقوم الأحكام على إظهاره وبيانه ؛وفي هذه المقالة ندلل على ذلك التشابك بما يؤكد حيوية الشريعة وديموميتها وطلاحيتها لاستيعاب الحياة بمكوناتها وأطرافها  المعنوية والمادية الإيمانية والعملية..

أول مكون من مكوناتها الإيمان والاعتقاد الإيمان بالله تعالى  .فما مقاصد الإيمان أو ما مقاصد العقيدة كما يصطلح الباحثون في علم  الكلام ومقاصد العقيدة؟ بداية نقرر ما قرره الباحثون المغاربة  -وكثير هم في العقد الأخير -الذين تنبهوا لأهمية النظر المقاصدي في العقيدة بأن  “مقاصد العقيدة” لم تَجِدْ من الاهتمام ما وجدتْه “مقاصد الشريعة”، فلم يؤلِّف فيها إلا قليلٌ من الباحثين، ما هي إلا ضغطة زر على محرِّك بحث في الشبكة العنكبوتية حتى تفاجأ بهذه الحقيقية المؤسفة. إن قلة البحث في مقاصد العقيدة يُوحِي مباشرةً بأزمةٍ كبيرة تمر بها الأمة الإسلامية. يقول الدكتور محمد شلبي في مقالته بشبكة الألوكة: ( إن الأمة التي لا يمرُّ على فكرِها أهميةُ تحليلِ الأوامر العقدية، واستخلاص معانيها، وغاياتها، وآثارها؛ لَهِي أمةٌ متحلِّلة محتلة، مَقُودة، مفقودة! لا أثر لها بين العالمين. إنه ليس يَخفَى على أحدٍ أن مسائلَ الشريعة – مع أهميتِها المطلقة في تقويم الدين – تَنبَنِي أساسا على مسائل العقيدة؛ ذلك أن الإيمان يَسبِق الإسلام إذا أردنا بالأول الاعتقادَ وبالثاني العمل، فكلُّ عملٍ يأتي بعد عقيدة تدعو إليه، يكون ثابتا راسخا ، ومن هنا كانتِ الأزمة الحقيقية التي تَمُرُّ بها الأمة ليستْ أزمة عملٍ، بقدر ما هي أزمة عقيدة. إن الخلل في استحضار الأمة “مقاصد العقيدة” هو الأمرُ الذي يفسِّر – بصورة مباشرة – ما أصاب الأمة مؤخرا من شللٍ في أعضائها الحيوية، وما أصابها من نقائص في عناصرها الخُلقية.إن الأمة في حاجة شديدة لأنْ تَستَعِيد استحضار عقائدها، بالقدر الذي يردُّها “للدين الحقيقي”.

نأتي الأن لبيان المقصود بمقاصد العقيدة :فنقول مقاصد العقيدة هي  (الحكم والأسرارالتي أودعها الله في أوليات الإيمان  وأمر باعتبارها والتصديق بها وضبط السلوك بمقتضاها لتحقيق السكينة والطمأنينة في الدنيا والسعادة بالجنة في الآخرة).وإذا كان الإيمان بالله يقتضي التسليم  بكل ما يليق به  من صفات واجبة  أو صفات المعاني والصفات المعنوية وتنزيهه عما لا يليق به  مما يستحيل في حقه فنؤمن بالوجود والقدم والبقاء ومخالفته الحوادث والقيام بالنفس والقدرة والوحدانية والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ؛كما نؤمن بالصفات المعنوية ككونه قادرا مريدا عالما حيا سميعا بصيرا متكلما ، وفي إطار تلك الصفات الثبوتية والسلبية والفعلية نؤمن بما له من صفات الكمال والجمال والجلال . وما يرتبط بالذات العلية من العقائد الخمسين وهي العشرون الواجبة في حقه وأضادها والسبع المعاني وما يجوز وما لا يجوز وما يستحيل في حقه تعالى. حتي يتحقق الإيمان به تعالى .هكذا ذكر الباجوري في حاشيته  تحقيق المقام على  كفاية العوام .لكن مقصودنا أعمق من سرديات علماء الكلام عن الإيمان ،فما الفرق بين العقيدة وبين مقصدها: العقيدة لفظةٌ دالَّة على العناصر التي يؤمن بها الإنسان، ومن أفضل ما قرأتُ في هذا المعنى قولُ الفيروزابادي: البصيرة: “عقيدة القلب”؛ انظر القاموس، مادة: بصر ،و يستفاد منه أن العقيدة ما يبصره القلب، كما أن الشهادة ما يبصره الحس، ويستفاد من ذلك أن العقيدةَ لا تُطلَق إلا على العناصر الغَيبية، أو ما دار حولَ هذه العناصر من أفكارٍ، فيَصِير الفكرُ عقيدةً كذلك لَدَى صاحبِه، وإذا كانتِ العقيدة تتعلَّق بما يراه القلبُ، فإن ذلك لا بدَّ أن يكون طريقُ العلم به وحيًّا إلهيًّا بأي نوع من أنواعه الثابتة؛ لأنه لا طريقَ لمعرفة الغَيْب إلا من الله – تعالى – فالعقيدة “معلومات” و”أخبار” يعرفها الناس من قِبَل الله – تعالى – عن طريق رسله، ولكن هذه المعلومات لها خصوصية عظيمة. فما خصوصية ما نعلمه عن الله تعالى من رسله . خصوصية “المعلومات” الدينية: إذا كان هناك لجنة امتحان – مثلاً – ثم جاء المراقب لأحدِ الطلاب، فقال: أنا محمد، فإن الطالب حَدَث لديه “معلومة”، وإذا قال له: أنا أرى جيدًا، فقد حدثتْ لدى الطالب معلومة أخرى، لكنَّ فارقًا كبيرًا بين المعلومتين؛ الأولى معلومة لا تقتضي العمل، الثانية معلومة تقتضي العمل، فكون المراقب أعلمه أن اسمه محمد، شيء مجرَّد من الأمرية، أمَّا كونه يُعْلِمه أنه يرى جيدًا، فهو أمر متضمن للأمر والنهي، كأنه قال: لا تغشَّ.  وكل “المعلومات العقدية” التي يخبرنا الله – تعالى – بها عنه وعن العالَم الغَيْبِي هي من النوع الثاني الذي يقتضي العمل، ويتضمن الأمر والنهي. أما كثيرٌ من المسلمين هذه الأيام، فيأخذون “معلومات العقيدة” من النوع الأول، أنها تعريف فقط، إذا اتضح ذلك، فإن العقيدة لا بدَّ أن يكون لها مقصد، لا بدَّ أن يكون لها أمرٌ ونهي؛ كالشرع سواء بسواء.  فإذا قال الله – تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224]؛ كان ذلك أمرًا بالالتزام، ونهيًا عن العِوَج في السلوك؛ فهو يَسمَع الأقوال، ويعلم الأفعال، وإذا كان يسمع ويعلم، فلا بد أن يثيب ويعاقب. وكذلك إذا قال: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]؛ فهو أمرٌ بالتواضع والعدل، ونَهْيٌ عن الظلم والتجبر، وهكذا سائر “المعلومات” العقدية التي أعلمنا الله – تعالى – بها، كلها يقتضي ما ذكرتُ، وهذه المقتضيات هي ما نتكلَّم عنه في قضية “مقاصد العقيدة”. (راجع مقاصد العقيدة مدخل تأسيسي مقاله دكتور محمد شلبي بشبكة الألوكة) وللحديث بقية في المقالة القادمة والله المستعان .

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: