المعَرِّيُّ البَصِيرُ

المعَرِّيُّ البَصِيرُ

دكتور  مصطفى السواحليّ

 

لا أدري، لماذا كلَّما لقيتُهُ، فأبصرتُهُ شاردًا في فكرِه، زاهدًا في مَلْبسِه، وكلَّما حاورتُهُ، فألفيْتُهُ حاضرَ البديهةِ، لاذعَ السُّخريةِ، وكلَّما قرأتُ مؤلفاتِهِ، فوقفْتُ فيها على أماراتِ العبقريَّةِ، ومجالي الموهبةِ الفطريَّةِ؛ طَفَرَتْ إلى مُـخَيِّلتي صورةُ شيخِ المعرَّةِ في اعتزالِهِ وتزهُّدِه، وعَبقريَّتِه وتفرُّدِه؟!

وحُقَّ لكَ أنْ تقولَ: أنَّى لكَ الموازنةُ بينَ سابقٍ وَسَمَ التَّشاؤمُ شِعْرهِ بميسمٍ من السَّوادِ المحلولِك، ولاحقٍ لَدَيْه من خِفَّةِ الرُّوحِ ما يدلُّ على نفسٍ مُفْعَمَة بالأمل المتجدِّد؟ وكيف تجمعُ بين مَنْ كانَ عدوًّا للمرأة، يرى أنَّ النساءَ حبالُ غَيٍّ بهنَّ يضيَّع الشَّرفُ التَّليدُ، فأبكارهنَّ ابتكارُ البلاءِ وأيـِّمُهُنَّ هي الأيِّم، ومَنْ تولَّه بزوجِهِ الرَّؤومِ، وضمَّخَ ديوانَهُ (حصادُ الدَّمع) بشَجْوِ الأنينِ، وبللَّه بالدَّمعِ الهتونِ؟ ألا ترى البَوْنَ واسعًا بين رجُلَيْنِ أرهقَ أوَّلُهما كاهلَ شِعرِهِ بأثقالٍ فادحةٍ، ولجَّ في لزومِ ما لا يلزمُ، وأعوزك الوقوفُ على مراميه إلى كثيرٍ من رشحِ الجبينِ، وتخفَّفَ ثانيهما في بيانه، فابتعدَ عن التأنُّقِ والزَّخرفةِ، وصدَّ عن التكلُّفِ والتصنُّع، وإنَّما نطقَ بانسيابيَّةٍ باهرةٍ، مُؤمنًا أنَّ الصدقَ في التعبير من أعظمِ أدواتِ التَّأثير؟!

 

والحقُّ أنَّه ليس لازمًا لازبًا أنْ يكونَ اللاحقُ نُسخةً مُكرَّرةً من السابق حتَّى نعقدَ تلكَ المشابهةَ، فكلُّ عبقريٍّ مُتفرِّدٍ له تأملاتُه الذَّاتيَّةُ، وبصماتُه الأسلوبيَّةُ التي تحبوهُ وِسامَ التميُّزِ والتفرُّدِ، وتمنحُهُ تأشيرةَ السَّفرِ إلى عالمِ الخلودِ الأدبيِّ، وحسبُنا أنْ نجدَ وَجهًا ما لتلكَ المشابهةِ، وفي حالَتِنا هذه ليس هناك وجهٌ واحدٌ، بل وجوهٌ مُتعدِّدةٌ، لا تخطئها عينٌ بصيرةُ قَرَأَتْ سيرةَ شيخِ المعرَّة، أو خالطتِ العلَّامةَ محمد رجب البيوميَّ، وحسبُنا أن نُشيرَ إلى سبعةٍ منها:

أوَّلُها: مَوسوعيَّةُ الفكرِ والإبداعِ؛ فقد كان أبو العلاءِ مَضربَ المثلِ في سَعَةِ الاطِّلاعِ ورحابَةِ التبحُّرِ، ليس فقط في علوم العربيَّةِ طُرًّا، التي كان يُـمْلي بعضَ مَعاجِمها مِنْ حِفظه، وإنَّما في علومِ الدِّينِ فقهًا وحديثًا وتفسيرًا ومِللاً وفرائضَ، بل كان عارِفًا بالنجومِ ومنازلِها، والحسابِ وطرائقِه، والشِّطرنجِ وحِيَلِه، حتَّى كأنَّه جابَ التاريخَ الإنسانيَّ طولًا وعرضًا بأفكارِه وآدابِه ومُعتقداتِه، فحُقَّ له أنْ يقولَ:

مَا كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَنُو زَمَنٍ   ***   إِلَّا وَعِنْدِيَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ طَرَفُ

وعلى هذا الدَّرْبِ من شموليَّةِ المعرفةِ التي لا تَعرفُ الحدودَ المصطَنَعةَ بين العلومِ والفنونِ سارَ العلَّامةُ البيوميُّ، الذي ضربَ مثالاً عمليًّا في حيازةِ مقاليدِ الأدبِ بمعناه الثقافيّ الشَّاملِ، الذي لخَّصَه ابن خُلدون في عبارتِه العبقريَّة: «الأخذُ مِنْ كلِّ علمٍ بِطَرَفٍ»، فكان عالـمًا موسوعيًّا وإنْ برعَ كلَّ البراعةِ في تخصُّصِهِ الدَّقيقِ، وكانَ مُحَقِّقًا مُدَقِّقًا ليس للمخطوطاتِ وإنَّما للمسائلِ والقَضايا، وما ذاك إلَّا لأنَّه عاش راهبًا في محرابِ الفكرِ والأدبِ، يتَّخذُ من الكتابِ خيرَ جليسٍ، ومن القلم خيرَ أنيسٍ، وهو القائلُ مُصَبِّرًا نفسَه بِأُنْسِ القراءةِ عن لَأْواءِ الحياةِ التي ذهبتْ مَلذَّاتُها، وبقيتْ مُنغِّصَاتُها:

شَكَتْ مُقْلَتِي طُولَ القِرَاءَةِ، وَيْحَهَا!   ***   أَمَا عَلِمَتْ وَقْعَ القِرَاءَةِ فِي نَفْسِي؟

حُرِمْتُ مَلَذَّاتِ الحَيَاةِ، وَلَيْسَ لِي   ***   سِوَاهَا، فَإِنْ وَلَّتْ تَأَوَّهْتُ فِي حَبْسِي

وإنْ أنسَ لا أنسَ يوم سافرتُ معه من المنصورةِ إلى القاهرةِ في حافلة الكليَّة عام 1991م للتكريم في مَقرِّ الجامعةِ بعد حيازتي لقبَ الطَّالبِ المثاليِّ للجامعةِ، وقد اصطحبْتُ معي كتابًا دراسيًّا؛ لأنِّي كُنْتُ على مشارفِ امتحانِ نهايةِ العامِ، لكنَّني لم أفتحْهُ، وانشغلْتُ بِالسَّمَرِ مع الأصدقاءِ، ومُتابعةِ ما يمرُّ في الطَّريقِ، أمَّا هو فقد كانَ على مشارفِ السَّبعينَ، ومع ذلك اصطحبَ معه كتابَ (الحُلَّة السِّيراء) لابن الأبَّار القُضاعيّ، وانشغلَ بمطالَعَتِه، غيرَ عابئٍ بِمَنْ حولَه، كأنَّه ليس منهم وإنْ سافرَ معهم، حتَّى أتى في الذَّهابِ والإيابِ على الكتابِ بِرُمَّته!

وثانيها: حُضورُ البديهةِ، فقد كان المعَرِّيّ آيةً في الذَّكاءِ اللمَّاحِ، والبديهةِ الحاضرةِ، تُسعفه ذاكرةٌ واعيةٌ، وعقلٌ متيقِّظٌ، فهو ينتقي لكلِّ مقامٍ مقالَه، ويلبس لكلِّ حالةٍ لبوسَها، فيبهتُ خَصْمَهُ بالأجوبةِ الـمُسْكتةِ، ويَشْدَهُ مُحاوِرَهُ ببدائعِ البَدائهِ، وبخاصَّةٍ إذا انتقصَهُ أحدٌ أو أهانه، فتأتي بديهته بأبدعَ مِـمَّا تأتي به رويَّةُ غيرِه، كيف لا؟ وهو الذي ظلَّ وهو صبيٌّ صغيرٌ يُقَافِي جماعةً من أهل الأدب، من أكابر حلب، حتَّى فرغَ محفوظُهم بأجمَعِهم، وقَهَرهم بما أعْجَزَهُم!

وعلى هذا النَّحو من الحضورِ الذَّكيِّ اللمَّاحِ سار العلَّامةُ البيوميُّ، حيث رُزِقَ من حضورِ البديهةِ ما سجَّلَ بعضَه في مطالعاتِه ومُسامراتِه وذكرياته التي كَسَرَ عليها بعضَ الكتبِ، وبَثَّ أكثرَها في سائرِ مؤلَّفاتِهِ، وهو ما يشهدُ به كلُّ مَنْ خَالَطَه من أساتذتِه وأصدقائِه وطُلَّابه، وحسبُكَ من ذلكَ ما أورده في كتابِه (مدرسة المسجد) من أنَّ والِدَه أرسلَ إليه خِطابًا يخبرُهُ فيه أنَّه سيحضُرُ إلى القاهرةِ، وأنَّ عليه أن ينتظرَه في محطَّةِ القطارِ، فذهب إلى عميدِ كليَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ آنذاك الشيخ إبراهيم الجبالي، رحمه الله، لِيأخذَ منه تصريحًا بالغيابِ في ذلك اليوم، فتبسَّمَ الشَّيْخُ الجليلُ في هدوءٍ، وقالَ له: لنْ تذهبَ إلَّا إذا أعربْتَ قولَ الشَّاعرِ:

وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ، وَإِنْ هُمَا   ***   تَعَاطَى القَنَا قَوْمَاهُمَا، أَخَوَانِ

فردَّ الشابُّ الواعدُ على عميدِ الكليَّةِ قائلًا: سَأُعربُ البيتَ، ولكنْ عليكَ أنتَ أنْ تذكُرَ مُناسَبَتَه، ومَنْ قائِلُه! فنظر الشَّيخُ، وقال مُبتسمًا: جِئتَ بآبدةٍ، جِئتَ بآبدةٍ! ثمَّ قال له: (كُلُّ) مبتدأ، و(أخوان) خبر، (وإنْ هُما تعاطى القنا قَوْماهُما) جملةٌ شرطيَّةٌ مُعترضِةٌ. فصاح الشَّيخُ فرحًا: فتح اللهُ عليكَ، تفضَّلْ يا بُنيَّ، واذهبْ إلى لقاءِ أبيكَ.

وثالِثُها: العاطفةُ المرهَفَةُ، فقد كانَ شيخُ المعرَّةِ -على الرغم من تبرُّمه من الحياةِ والأحياءِ- مُرهفَ الإحساس جدًّا، وبخاصة مع الحيوانِ الأعجمِ، إذ بقيَ نحوَ خمسٍ وأربعين سنةً لا يأكلُ اللَّحمَ ولا البيضَ، ويُحرِّمُ إيلامَ الحيوانِ، ويقتصرُ على ما تُنبِتُ الأرضُ، ويلبسُ خشنَ الثِّيابِ، وقد سأله رجلٌ فقال له: لم لا تأكلُ اللَّحمَ؟ فقال: أَرْحَمُ الحيوانَ، وهذا دليلٌ على أنَّ صَنيعَهُ من قَبيِل الزُّهدِ الخالصِ لا من قبيلِ فلسفةِ الهنودِ كما زعم خصومُهُ، وقد كان تلامِيذُه يأكلونَ اللَّحمَ عنده فلا يُنكرُ عليهم.

وقد سَرَتْ هذه العاطفةُ الرَّحيمةُ والحِسُّ المرهَفُ إلى شيخِنا العلَّامةِ البيوميِّ، الذي لا تُخطئ العينُ رهافةَ شُعورهِ مُجسَّدةً في دمْعِهِ السَّكوبِ في رثاءِ زَوْجِهِ الرَّؤومِ في ديوانٍ مُستقلٍّ، ناهيك عن قصائدَ شتَّى مبثوثةٍ في سائرِ دواوينِه، مثل قصيدةِ (إحساس النبات)، التي يحنو فيها على غُصْنٍ غضٍّ، هصرته يدٌ قاسيةٌ، وقصيدتِه (الأسد الباكي)، التي يرقٌّ فيها لحالِ أسدٍ أسيرٍ رآه في حديقةِ الحيوانِ، وقصيدَتِه (فأر مريض)، التي يتعاطفُ فيها مع فأرٍ مريضٍ يرى الذُّلَّ في مُقْلَتَيْه، وتمنَّى أنْ لو طلبَ له طَبيبًا يُداويه، إلى غيرها من القصائدِ التي تدلُّ دلالةً واضحةً على هذه النزعةِ الإنسانيَّةِ، التي تُشْبه إلى حدٍّ مَا حُنُوَّ المعَرِّيّ على الحيوانِ.

وإنْ أنْسَ لا أنْسَ يوم أنْ دخلَ عليه أحُد العُمَّالِ يتظلَّمُ منْ جزاءٍ وقَّعَهُ عليهِ مديرُ الكليَّةِ؛ بسبب تفريطِه في النَّظافةِ، فرقَّ لحالِه، ولم يوقِّعْ على استمارةِ الجزاءِ الماليِّ، ثمَّ استدعى المديرَ، وقال له: يا هذا، لقدْ تركَ التُّرابَ لمن أرادَ أنْ يَتَيَمَّمَ!

ورابِعُها: السُّخريةُ اللَّاذعةُ، فقد كانَ المعَرِّيُّ أحدَ أولئكَ الموهوبينَ الذين مسُّوا ثُلَّةً مِمَّنْ حولهم بنفحةٍ من مَكاوي سُخريَتِهم، ومَياسِم تَهَكُّمِهم، فما أكثرَ ما سَخِرَ المعَرِّيُّ من أقدارِ الناسِ الذين علا جاهِلُهم، وانحطَّ عالِمُهم، ومن السَّاسةِ الذين يَسوسونَ الأمورَ بغير عقلٍ، ومن القُضاةِ الذين يُوصَفونَ بالعُدول، وما هم إلَّا عُدُولٌ عن الحقِّ، ومن الدُّعاةِ الذينَ يحملونَ المسابِحَ وهمْ سابحونَ في أوديةِ الخَنا، فَمِنهم مَنْ يُحَرِّمُ الصَّهْباءَ صُبحًا، ويشربها على عمدٍ مساءً، إلى غير ذلك من المعاني التي ألحَّ عليها المعَرِّيُّ في شعره. ورسالةُ الغُفرانِ تنضحُ بسخريةٍ كاويةٍ وتهكُّمٍ لاذعٍ مِنْ كثير ممَّنْ حَشَرهم في هذا المشهدِ البَعْثِيِّ الخياليِّ البديعِ. وهو في ذلك كلِّهُ يتَّكئُ على مخزونٍ ضخمٍ في ذاكرةٍ حديديَّةٍ زَاخرةٍ بالكلماتِ والتعبيراتِ السَّاخرةِ، التي تقع من مقاتلِ الخُصومِ مواقعَ النَّبلِ، وما قِصَّتُهُ مع الرَّجُلِ الذي سبَّه بقولِه: “يا كلبُ” عندما عثرتْ رِجْلُه به، فقال قولَتَه الـمُوجِعَةَ: “الكلبُ مَنْ لا يعرفُ للكلبِ سبعينَ اسمًا”، وهي المقولةُ التي حملتِ الإمامَ السُّيوطيَّ على أنْ يجمَعَها في منظومةٍ سمَّاها: (التبرِّي مِنْ مَعَرَّةِ المعَرِّيّ)!

وأستاذُنا العلَّامةُ البيوميُّ كانتْ له كثيرٌ من المواقفِ السَّاخرةِ، التي يُضمِّخُ فيها سُخْريتَه بروحِ الدُّعابَةِ الـمَرِحةِ، فطالما كان يُوردُ قولَه تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا، عندما يغيبُ عنه اسمْ شخصٍ، أو تشتَبِهُ عليه صورتُه. وفي إحدى المناقشاتِ العلميَّةِ تقيَّأَ البَاحثُ، فقال بعضُ الحُضورِ: “معذرةً يا دكتورُ، لقد تزوَّجَ حديثًا”، فقالَ على البديهةِ: “لا عليكَ يا بنيّ، أعراض حمل، أعراض حمل!”.

وأذكرُ أنَّنِي مع زُملائي كُنَّا ننتظرُهُ للدُّخولِ عليه في امتحانِ القَبولِ للدِّراساتِ العُلْيا، فلمَّا حضرَ، قال لي: كَمْ عددُكُم؟ فقلتُ: ثمانية. قال: يا بُنَيَّ، إنَّ القرآنَ يقول: وَثَامِنُهُمْ، فقلتُ له على الفورِ: الحمدُ لله، الحضورُ سَبْعةٌ، هم عِدَّةُ أهلِ الكَهفِ، والثَّامنُ غَائِبٌ. فقالَ: ادخُلوا جميعًا، فجعلْتُ أقلِّبُ الأمرَ في نَفْسِي: ما عَسَى أنْ يسألَ، ومنْ أينَ يبدأُ، ولكنَّني كنتُ أوْسَطَهم، وكانت المفاجأةُ التي لم تخطرْ لي على بالٍ إذْ قال: هو سؤالٌ واحدٌ للجميعِ: ما آخرُ كتابٍ قرأه كلُّ واحدٍ منكم، وماذا استفادَ منه، وما مُلاحظاتُهُ عليه؟ وجعلَ يُناقشُ كلَّ واحدٍ فيما ذكر، كأنَّهُ قرأهُ لتوِّه!

وخامسُها: التَّأمُّلُ الـمُستغرِقُ، فقد عاشَ الرجلانِ رهبنةً فكريَّةً، وتجربةً تأمليَّةً فريدةً، ذلك أنَّ المعَرِّيّ أدمنَ التأمُّلَ في الحياةِ والأحياءِ، وقد ساعدهُ ارتهانُه في محبَسَيْه: العمى ولزوم البيت، بالإضافة إلى زُهْدِه وتقشُّفِه، ومكابَدَتِه من هُمومِ الدَّهرِ قَاموسًا، على الاستغراقِ في التَّأمُّلِ، مـمَّا أهَّلهُ للتَّحليقِ في عوالمِ الخيالِ من خلالِ رحلَتِهِ الخياليَّةِ إلى عالم الآخرةِ، وفي حديثِه على لسانِ الحيوانِ في غير كتابٍ، كما ألهمَهُ تلك التأمُّلاتِ الفكريَّةَ التي طرقَ بها جميعَ مناحي الفكرِ الإنسانيِّ في لُزوميَّاتِه، التي ضمَّنها فلسفَتَه القائمةَ على تأمُّلاتٍ عميقةٍ في ذلك الكونِ الفسيحِ، مهما اختلفْنا معها قبولًا أو ردًّا.

وعندما كنتُ أرى أستاذَنا رجلًا طويلًا نحيفًا مُسترسلَ الشَّعرِ طويلَه، شاردَ الفكرِ ثاقِبَه، بعيدَ التأمُّلِ، يكادُ ينصرفُ عن الـمُحيطينَ به في سَبَحَاتِه الفكريَّةِ، ورحلاتِه في عالمه الخياليِّ الخاصِّ، مُتعقِّبًا فكرةً، أو مُستذكرًا خبرًا، أو مَهْمومًا بمسألةٍ علميَّةٍ، كنتُ أتخيَّلُه صورةً مُبصرةً من شيخِ المعرَّةِ، إذ آثر الرَّجلُ العُزلَةَ، بالعيشِ في المنصورةِ بعيدًا عن وهجِ العاصمةِ، وركنَ إلى العزوفِ عن أضواءِ المهرجاناتِ التي طفتْ طحالبُها على المستنقعاتِ الثقافيَّةِ الآسنةِ، بل كانَ فيما أظنُّ مُقصِّرًا في بعضِ الواجباتِ الاجتماعيَّةِ، منصرفًا عنِ مُقتضياتِ العلاقاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، لا تَزدهِيه إلَّا سَبَحاتُه الوجدانيَّةُ، وتأمُّلاتُهُ الفِكريَّةُ، التي كانتْ خيرَ عِوَضٍ له عن مُكابداتِ الحياةِ، ولأواءِ العلاقاتِ بالأحياءِ، فكنتُ أراهُ منعزلًا عنهم بفكره، وإن عاشَ بين ظهرانَيْهم بجسدِه، ولسانُ حالِه قولُ أبي الطَّيِّبِ:

وَمَا أَنَا مِنْهُمُ بِالعَيْشِ فِيهِمْ   ***   وَلَكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ

وسادسُها: الزُّهدُ والتَّواضُعُ، فقد كانَ للرَّجُلينِ من الزُّهدِ والتَّواضعِ أوفى نصيبٍ؛ إذ تجرَّدتْ نفوسُهُما مِنْ حظِّها كلَّ التجرُّدِ، فابتعدا عن النَّفجِ والاستطالةِ والغُرورِ الكاذبِ، وغيرها من الأخلاقِ الرَّديئةِ التي ما فَتِئَتْ تَستبدُّ ببعضِ النّاسِ سابِقِهم وسُكَّيْتِهم، فأبو العلاءِ الذي افتخرَ بنفسِه في صدرِ شبابِه، وبخاصَّةٍ في اللاميَّة الذَّائعةِ، عاد بعد ذلكَ إلى التَّواضُعِ، وأنكر على نفسِه ما سلفَ منها في صِغَره، حتى إنَّه كانَ يكرَهُ أنْ يُقْرأ عليه شِعرُهُ في صِباه، لأنَّه مدحَ فيه نفسَه، وعناوينُ دواوينِه وكُتُبِه ورسائِلِه تدلُّ بوضوحٍ على ذلكَ التَّواضُعِ العجيبِ، مثل: (مُلْقى السبيل)، (خُطبةِ الفَصيحِ)، فوعظُهُ الفريدُ الجامِعُ بين الشِّعرِ والنثرِ مجرَّدُ شيءٍ مطروحٍ في الطريقِ، مبذولٍ لمنْ شاءَ، ونثرُهُ البليغُ المتميِّزُ ما هو إلَّا خُطبةٌ لفصيحِ ثعلبَ.

وعلى هذا الدَّربِ من الزُّهدِ والتَّواضُعِ الجمِّ سار أستاذُنا حِسًّا ومعنًى، فكان على الصعيدِ الماديِّ يلبسُ ملابسَ متواضِعَةً جدًّا، ولا أذكرُ أنَّني رأيتُهُ يقودُ سيَّارةً خاصَّةً به، بل ربَّما جاءَ الكليَّةَ مَاشيًا بملابسِ البيتِ، وكان على الصعيدِ المعنويِّ مُنكرًا لِذاتِه، مُبتعدًا عن المزاحمةِ في الصُّفوفِ الأماميَّةِ التي يتصدَّرُ لها الأغرارُ من الغلمانِ، ومِنْ تواضُعِهِ أنَّهُ كانَ يُثني كثيرًا على أقرانِه مُتَعاليًا على حِجابِ المعاصرةِ، بل كان يُثني على صغارِ تلاميذِه تشجيعًا لهم وتحفيزًا، ولم يكنْ يكتفي بمجردِ الثناءِ الشَّفويِّ الذي قد يُحملِ على المجاملةِ الآنيَّةِ، وإنَّما كان يكتبُ عنهم المقالاتِ، ويذكُرُهم في كُتُبِهِ السَّيَّارةِ، وقد أثنى عليَّ وعلى رسالتي للماجستيرِ التي ناقشني فيها عام 1997م، وقال كلامًا هو فوقَ قَدْرِي بمراحلَ، وما أراه إلَّا كانَ مُجاملًا يَقينًا!

وسابِعُها: الضِّيقُ بالمظاهرِ الزَّائفةِ، فقد كانَ الرَّجلانِ يَضيقانِ ذَرْعًا بذوي المظاهرِ الفارهةِ، والبواطنِ التَّافهةِ، ويـَمْقُتانِ كلَّ المقْتِ مَنْ يُتاجرونَ بالعلمِ والدِّينِ، ومَنْ يلبسونَ مُسُوحَ أهلِ التُّقَى وهم يتمرَّغُونَ في حمأةِ الرَّذيلةِ، ومَنْ يُنافقونَ الحكَّامَ لجلبِ المغانمِ، ودَفْعِ المغارمِ، فلم يَسْكُتا على باطلِهم، بل ناصَبَاهُم العداءَ، وفَضَحا فسادَهم ومُروقَهم، ونزعا عنهم أستارَ النفاقِ التي يُوارونَ بها مَطامِعَهم الرَّخيصةَ، ومَسالِكَهم الشَّائنةَ.

وكلُّ مَنْ يقرأُ شعر المعَرِّيِّ -وبخاصَّةٍ اللُّزوميَّات- يلمسُ هذه النَّزعةَ في كلِّ صفحةٍ من صفحاتِ الدِّيوانِ تقريبًا، ومَنْ يقرأُ لشيخِنا في فضحِ واعظٍ دعيٍّ مُتَكسِّبٍ، أو قصيدَتَهُ في السُّخريةِ من مُدرِّسٍ خاوٍ، ليس أحبَّ إلى تلاميذِه من صوتِ صلصلةِ الجرسِ مُؤذنًا بنهايةِ الحصَّة الدراسيَّةِ التي تحوَّلَتْ على يديه من التَّهذيبِ إلى التَّعذيبِ، ومن روضة الحريةِ إلى كآبةِ السِّجنِ، أو قصيدَتَهُ عن نابح، سَعَى إليه ذليلًا مُجْتَدِيًا عند الحاجة، فلمَّا بلغَ مَأْرَبَه أعرضَ عنه إعراضَ الكلبِ الجائعِ الذي يتبعُ صاحِبَه، فإنْ شَبِعَ انصرفَ عنه!

وختامًا، فإنَّ شخصيَّةَ أستاذِنا العلَّامةِ محمَّد رجب البيوميّ من الخُصُوبَةِ والثَّراءِ بمكانٍ، وقد كُسِرتْ عليها دراساتٌ غيرُ قليلةٍ، وما أراها إلا كنافِجَةِ المسكِ التي كلَّما حرَّكْتها أعطتْكَ طِيبًا، أو التُّربةِ البِكْرِ الَّتِي كلَّما قلَّبْتَها تجدَّدتْ خُصُوبَتُها، فاهتزَّتْ وَرَبَتْ وأَنْبتتْ من كلٍّ زوجٍ بهيجٍ، وإنَّهُ لَحَرِيّ بدراساتٍ موسَّعةٍ لا تدرسُ نِتاجَه كلَّهُ دراساتٍ أفقيَّةً سطحيَّةً، وإنَّما تغوصُ في أعماقِ شخصيَّتِهِ ونِتاجِهِ في دراساتٍ رأسيَّةٍ عميقةٍ، تربطُ بينه وبين كبارِ العباقرةِ من أدباءِ العربيَّةِ ومُفكِّريها قديمًا وحديثًا؛ والذين سَجَّلَ قلمُ التَّاريخِ اسمَهُ بينَهم بحروفٍ من نورٍ في سِفْرِ الخُلودِ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: