المستشار بهاء المرّي يكتب: في بيـت جَــدِّي – الحلقة الثامنة
في بيـت جَــدِّي – الحلقة الثامنة
بقلم: المستشار بهاء المرّي
هذا التكافل في مثل هذه المناسبات وغيرها، كان مظهرا طيبًا من مظاهر ترابط العائلات بعضها مع بعض، وترسيخًا لصلة الرحم والمَحبة والتَّوادْ، وفي ذات الوقت من أبهَى المظاهر التي كانت تُميز الريف من قِيَمٍ وجمالياتٍ، أرى كثيرا منها قد غاب عن مجتمع الريف الآن، فما عاد الريف ريفًا، ولا شيءَ من مظاهر الحياة فيه التي عِشناها بصفائها ونقائها وفطرتها إلا أسماء القرى، ولو خُيِّر الناسُ في تغييرها لغَيروها. فمِن سوبر ماركت إلى مطاعم ومشويات، ومخابز أفرنجية، وغسْل سجاد بالماكينات، وواي فاي وأسلاك إنترنت على الأسطح، حلت محل حطب القطن والذُرة وتكييفات تعلو الشُرفات، ومقاهٍ لا يقولون عنها “المقاهي” بل “كافيهات”، ومدارس لغات، و”باصات” لنقل التلاميذ بدلا من الحَمير التي تعلمنا من فوق ظهورها ذهابًا وإيابًا، إلى مدارس تَبعد عن قُرانا بضعة الكيلو مترات، بزغَ خلالها العالِم والطبيب والمهندس والمدرس والقاضي، وتَغير الحال وتغير معه الكثير والكثير من الأخلاق.
كان الناس يتحدثون في قريتي منذ طفولتي إلى أن صِرتُ رجلًا، عن الدكتور أحمد فوزي بهنسي رحمه الله، الطبيب المشهور في القاهرة، وصاحب مستشفى النصر التخصصي بمدينة نصر قُرب مسجد رابعة العدوية، وأخيه أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة الدكتور أحمد فتحي بهنسي – اسمان مركبان – رحمهما الله.
شببَتُ في القرية على روايات وروايات، يرويها الناس عن الأول بحُب وتقدير وفَخر، حول عدم تقاضيه أي مقابل “للكَشف” الطبي من جميع أهالي قرية الصواف، مهما بلغ عددهم في كل يوم أو في كل شهر ما دام حيًا، وحكايات عن شراء الدواء لمن يَستشعر الدكتور بهنسي حاجته وعدم مقدرته على شرائه، فلا يخرج من عيادته أو مَشفاه إلا مُحملًا به مهما غلا ثمنه. بل قالوا: وكذلك ببعض الملابس والطعام الجاف في كراتين.
وكان لي مع هذا الرجل موقفًا في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عند بداية مرض أمي، ذهبتُ إليه؛ ليُرشدني أين يكون العلاج؛ فبعد توقيع “الكشف” الطبي عليها، ولدَى انصرافي ناداني الرجل الذي يقبض قيمة “الكشف”؛ ليردُه إليَّ. قال:
– إنها أوامر الدكتور.
طلبتُ منه إدخالي عليه مرة أخرى، فلما دخلتُ عليه تبسم ضاحكًا متوقعًا سبب العودة، فقلت:
– يا سيدي أنا أقدر على دفع قيمة “الكشف”، فلندع كرمك هذا لمن لا يَقدر”.
اتسَعت ابتسامته قائلا بصوتٍ ملائكي رقيق:
– ليست مسألة مَن يَقدر، ومَن لا يَقدر، ولكنها وصية أبي منذ اليوم الأول الذي وطئَت قدماي فيه كلية الطب؛ “ألا أتقاضَى أجرًا من أي شخص من الصواف”، وإذا بالمفاجأة أن راح يذكر لي شيئًا من ذكرياته مع أستاذ الفصل الذي عَلمه في صِغره، وهو المرحوم والدي، الشيخ خيرت المري.
هذا الرجل الطبيب العَلَّامة صارَ قُدوة من كثرة ما سمعنا عنه من حكايات في الفضل، فأذكر أنَّ ابنًا لإحدى بنات عمي “الناظر” الحاج محمد عبد المجيد المري، هو الأستاذ ممدوح سلام رحمه الله، كان قد ترسَبت هذه الحكايات في وجدانه وتكوينه الريفي إلى حَد اعتناقها، فلما تفوق ولده أحمد ودخل كلية الطب أوصاه الوصية نفسها، فإذا بأستاذ جراحة المُخ والأعصاب الشهير أحمد ممدوح سلام، ينتهج النهج الكريم نفسه حتى كتابة هذه السطور.
ويبدو أن أمي لم تقنَع بنشاطي المَحلي في العزاء أو باقي المناسبات – أي في القرية فقط – فتطلعَت إلى تجاوز حدود القرية – أو كما يُقال في القانون “عَبرَ الوطنية” فعندما أعادَني أحد أبناء عمومة أبي إلى الدار بعد انتهاء عزاءٍ ما، بعد تدريبي عليه جيدًا من وجهة نظرها فإذا بها تتوجه إليه بحديث في صيغة أمر، لا رجاء: يا أبا فلان، ابنكم أصبحَ رجلاً، وأي مأتم أو عزاء للعائلة خارج البلد، يأتيني أحدُكم؛ ليَصحَبه وأُجرة مُواصلاتهِ ستكون في جَيبه”، فكان ردُه: حاضر يا عمتي” رغم كونه يكبُرها بنحو عشرين سنة، ولكن أفراد العائلة جميعًا، كانوا لا ينادونها إلا بعمَتي مهما كان سِنهم بحسبانها زوجة عمهم.
وتَوالَى حضوري للجنازات، وكلما سِرتُ في جنازة في البلدة يتكرر ما حدث من الأطفال، يُشيرون عليَّ بأصابعهم، وهم يضحكون، حتى أصبحتُ أخشاهم، كنتُ أتوَجس خِيفةً من هذه الصورة، كانت عيناي تراقب جنبات الطريق، وأنا أقول يا رب لا يراني الولاد، فلما تَكرر الأمر كرهتُ أن أذهب إليها، وفاجأتُ أمي بذلك، وهي تُجهزني للخروج ذات يوم قائلا:
– لن أذهب إلى العزاء. انزعجت انزعاجًا شديدًا قائلة:
– ماذا تقول؟ هل بعدَ أن صِرت رجلا لا تُعزِّي؟ ما السبب؟
– لن أذهب بدون أسباب.
لم تتركني ساعَتها قبل أن تعرف السبب. راحت تستجوبني باللين حينًا، وبخشونة الحديث حينًا آخر، إلى أن استطاعت أن تنتزع مِنِّي اعترافًا بما حدث، وما يعتلج في دخيلة نفسي، فإذا بها تبتسم، وتضُمني إلى حِضنها قائلة: ألم أقل لكَ من قبل لا تخرج للعِب مع هؤلاء الأولاد، إنهم يَغارون منكَ لمَّا وجدوكَ رجلا، تمشي مع الرجال؛ عليكَ أن تكون فخورًا بعمل، لا يعمله إلا الرجال.
لقد استطاعت أمي أن تُبدد ما تَرسَّبَ في وجداني من الإحساس بالسخرية، وذهبتُ إلى الجنازة مقتنعًا بما قالت وقد ازددتُ ثقة في نفسي، شاعرًا بأنني بحق مُتميز عن هؤلاء الأولاد، لأنني – كما قالت لي – أعمَل ما يَعمله الرجال، وانتقل الأمر من العَزاء إلى حضور عقد القران أو حفلات الزفاف لا سيما أنَّ الداعين للأفراح، راحوا يَطرقون بابنا ليدعونني كما يدعون باقي رجال القرية.
وبمناسبة تفوقي في الشهادة الابتدائية، كان لها معي موقف، سمعتُ فيه لأول مرة عبارة: “هذا حقك”.
علِمَت أمي بتكريم زميلي الأول مكرر، أو الأول وأنا المكرر دون تكريمي، فقد حصل كل منا على ذات المجموع، فأرسلتني إلى ناظر المدرسة الذي كنتُ أُحبه لتشجيعه لي على التفوق؛ قالت اسألهُ:
– ليه لم يتم تكريمك، كتكريم زميلك، “ودا حقك”، ومجموعكم زي بعضه؟
ذهبتُ إلى الناظر، فإذا به يَتلجلج في الرَّد عليَّ قائلا إنه أرسلَ اسمَينا إلى الإدارة التعليمية، فاختارت مَن تُكرمه، وعدتُ إليها بهذا الرد، لم تقتنع، وقالت:
– “هو كذاب”.
وكلَّفت ابن خالتي المقيم في البندر الكائن به الإدارة التعليمية؛ ليسأل عن مدى صحة ما قاله السيد الناظر، كانت الإجابة إن الناظر، لم يرسل إلا اسم مَن كرَّموه، ولو أرسل الاسم الآخر لوجبَ تكريمنا معًا، فقالت أمي:
– “لله الأمر من قبل ومن بعد. حسبي الله ونعم الوكيل”.
وتَمُر السنون ويموت هذا الرجل بعد نحو أربعين سنة من حصولي على الشهادة الابتدائية، وجدتُ أن من واجبي، بل فرضٌ عليَّ، وقد كان أستاذي أن أسافر لأداء واجب العزاء. ويشاءُ الله أن أكتشف كذبه يوم وفاته؛ كان زميلي هذا الذي كرموه قد خَدعه الإخوان المسلمون إبان دراستنا في جامعة الإسكندرية، فصدَّق خداعهم، وانضمَّ إليهم، وانخرط فيهم إلى أن أصبح واحدًا من قيادات الجماعة، وإذا به يخطُب خُطبةً بعد أن فرغ أحد المُقرئين من تلاوته، وراح يذكر مَحاسن هذا الناظر، وأخذ يَقصَّ فضله عليه في وقعة تكريمه في الشهادة الابتدائية، فقال: كنتُ وأحد الزملاء الأفاضل الذي يتبوأ الآن مكانًا قضائيا الأولَين على المدرسة، فأرسل إليَّ المغفور له، وقال لي إن الإدارة التعليمية طلبت موافاتها باسم الأول على المدرسة، فأرسل اسمي بالرغم من حصول فلان على نفس مجموعي، فلما سألته لماذا أنا، وهو لا؟ قال إنه وجدَني أعلى منه درجة في مجموع درجات الدين”. إنه “الدين” الذي يحلو لهم الحديث عن أي شيءٍ من خلاله، حتى لو كان مادة “الدين” في المدرسة.
وكأنني كنتُ على موعد مع القَدَر؛ لأكتشف كذب أستاذي يوم وفاته، فقد بلغتُ سُرادق العزاء بعد تكبدي عناء السفر في نهاية تلاوة قرآنية، وقبل بدء هذه الخُطبة، كان يمكن لهذه الخُطبة أن تسبق حضوري، أو أن تلي انصرافي، ولكنه القَدر يؤكد لي صِدق إحساس أمي، يوم أن قالت عنه في حينه “إنه كذاب”، وبقَدْر ما كنتُ أُجله في حياته، بقدر ما سَقَط من نظري في يوم وفاته، فما كان لمُربِّي أجيال أن يكون كذابًا، ولو كان قد قال ما ذكره زميلي من هذا التبرير العُنصري في حينه لكنَّا قد اقتنعنا، ورضينا وجهة نظره.
وبرغم حُنُو أمي الذي فُطرت عليه، لاحظتُ أنَّ معاملتها للبنات لم تتغير كثيرًا عن معاملة جدتي لهنَّ، الفرق الوحيد هو الهَوادة والإقناع في دعوتهن إلى الأعمال الشاقة بالمنزل، تدعو واحدة للكَنْس، وكان الكنس “بمقشة من ليف النخل”، لم تكن أدوات التنظيف الحديثة قد ظهرت في القرية بعد، وثانية لغَسل “المَواعين”، وثالثة لتنظيف السجاد بوضعه على سور الفرندة، وهو سور داخلي من أمامه أرض فضاء، هي باقي المساحة المقام عليها البيت، وذلك بالخَبط فيه بعصا مستوية وغليظة نوعًا ما، مُعدة لهذا الغرض بالذات، ثم العودة إلى النوافذ لتنظيفها بالخبط عليها بقطعة من القماش سميكة نوعًا ما، مُعدة أيضا لهذا الغرض بالذات، مع إصدار الأوامر بوضع تلك الأدوات في المكان المُخصص لها في ناحية من المطبخ الكبير، ويا ويل مَن تترك إحدى هذه الأدوات في غير مكانها، فقد كانت تَمرُّ من خلفهن لاستطلاع الأمور كالخُولي في الحقل من خلف القائمين بالزراعة، فمَن تكون قد أهملت التعليمات، تَلقَى حظها من التقريع واللوم الشديد، وتوبيخها بأنها على هذا النحو لن تفلح في تكوين بيت وتربية أطفال، ناهيك عن العمل الأكثر مَشقة عليهنَّ، وقد كنَّ يَعملنَ له ألف حساب إذا ما قيل لهنَّ سنُبكر غدا الجمعة للخبيز، وهو الجلوس إلى الفرن البلدي، فحتى هذا الوقت لم تكن أفران الغاز التي تعمل بأنبوبة البوتاجاز قد ظهرت هي أيضا بعد، صحيح أنهن مارسنَ الخبيز في بيت جدي، ولكن عملهنَّ وكذلك دور أمي في هذا الوقت، لم يكن يعدو “التبطيط” أي فرد قِطع العجين بأكف الأيدي لجعلها أرغفة، لم تكن أدوات فرد العجين قد ظهرت في هذا التوقيت كذلك، أو “تقريص” العجين؛ أي تقطيعه إلى قطع متساوية، كل قطعة تُناسب أن تكون رغيفًا، وبالرغم من أن الخالة مفيدة كانت هي المختصة بالجلوس إلى الفرن إلا أنه كان لابد من تدريبهن على الجلوس إليه.