المديح النبوي عند الشوربجي

المديح النبوي عند الشوربجي

بقلم: الأستاذ الدكتور أحمد فرحات

الشاعر عبد الله الشوربجي في أعماله الشعرية موهبة فذة، وقالب موزون من الشاعرية المفرطة، معجمه الشعري لا يخلو من العبق الديني، ففي كل قصيدة من قصائده إشارة فارقة إلى المعجم الديني الثري، يكتب الشعر بروح الدين، ومفردات معجمه جامعة لمفردات الدين، وأعلام الدين، وهدي الدين.

النص المختار للشاعر عبد الله الشوربجي نص ديني، تغنى فيه بأخلاق الرسول الكريم، وسيرته-صلى الله عليه وسلم- وهو نص مقدم إلى هيئة تحكيمية في مسابقة كتارا الشعرية 2017م، تلقيت النص مثلما تلقاه غيري، قرأته بعناية شديدة، وكنت قد قرأت أعمال الشاعر من قبل، وقرأت معظم القصائد التي تقدم بها أصحابها للمسابقة المذكورة، وسألقي الضوء على نص شاعرنا بنية وأسلوبا ونسقا ثقافيا.

وقصائد المديح النبوي لها قيمة تاريخية، وأدبية، واجتماعية، ودينية كبيرة؛ فهي منذ نشأت في حياة الرسول الكريم حتى الآن تشهد تطورا مطرِدًا، ودائما دافعها خال من الزيف والتمظهر، لأنها تنبعث عن عاطفة صادقة قوية، مركزها العميق يكمن في إيمان المادح، وأحقية الممدوح، فالعاطفة صادقة لم تلوث بشائبة من شوائب المديح الآخر، وفي القاهرة نرى ازدهارا لهذا النوع من المديح في المناسبات الدينية المختلفة، كشهر رمضان، والعيدين، والمولد النبوي، وفي المناسبات الدينية الأخرى، حيث يحتفل المصريون بهذه المناسبات بإلقاء القصائد الدينية، وقصائد المديح النبوي، كما تفاعل كبار الشعراء في جميع العصور على كتابة قصيدة المديح النبوي، ويستوي في ذلك الرجال والنساء على اختلاف أعمارهم، فكتبت شريفة السيد الليلة المحمدية، وأداها كبار الممثلين مصحوبة بكورال، وفرقة موسيقية، وقد أجادت الشاعرة في نسج لوحة أوبرالية غنائية قادرة على الولوج إلى ضمير المثقف الكبير، والمثقف العادي، حتى العوام من الناس، عازفة على أوتار القلوب المحبة للمديح النبوي أجمل القصائد وأعذبها فصحى أو عامية أو غنائية. تاركة لخيال المتلقي تجميع أحداث السيرة النبوية العطرة عن طريق اختيار بعض المواقف للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مولده مرورا بغزواته إلى نهايته محدثة بذلك حالة من الرضا النفسي لدى جمهورها، فهي لم تتناول كل أحداث السيرة النبوية مفصلة من البداية إلى النهاية، بل انتقت بعض المواقف منها لخلق حالة تمثيلية مصحوبة بالموسيقا والإضاءة ليتجاوب معها الجمهور في وعي تام ومسبق بما ستؤول إليه الأحداث.

ويقرر د. محمود علي مكي وظيفة المدائح النبوية بجانب أنها ابتهالات ومناجيات ذاتية، فيقول: إن المدائح النبوية لم تكن مجرد ابتهالات ومناجيات، وإنما كانت توظف أيضا في تصور واقع المسلمين، والاهتمام بقضاياهم، والدعوة إلى إصلاح أحوالهم.

وبناء على ذلك؛ فقد توقعت أن أقرأ ضمير الشاعر، وحاله وحال أمته، توقعت أن أبكي كما بكيت أمام قبره صلى الله عليه وسلم، توقعت أن ألمس الصدق في مديح كما قرأته عند الأمير شوقي، لكن البون كبير بين شاعر يمدح ويمزج حاله وبكاءه عند قبر سيد الخلق، وبين شاعر قام للمديح فقط، وهو محمود وغير منكور، ولكني توقعت أشياء وكان الواقع صادما، لما وجدت في معظم القصائد من مديح خالص، وعاطفة منقوصة، يستطيع أي ناظم أن يغزل منها ألف ديوان من المديح الخالص، الخالي من العاطفة الصادقة. أتساءل: هل قرأ هؤلاء الشعراء قصيدة الأمير شوقي في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم، هل قرأ هؤلاء ضمير شوقي واختلاج ألفاظه بعبراته في المديح النبوي؟؟

فقد وقف شوقي أمام الرسول الكريم شاكيا حاله، وحال وطنه، وحال أمته، ولم يبخل على صاحب المقام بالعبرات منسكبات، تكاد تلمسها بكلتا يديك، وتجد نفسك حاضرا مع الشاعر في مديحه، لأنه أوحى إليك بمكنون فؤاده من ضيق الحال، وشدة العوز، وقهر الناس، وتطاول بعضهم على بعض، فضاق صدره بأفعال الخلق فشكاهم إلى الرسول الكريم في نبرة دينية حزينة للغاية، وصادقة للغاية، وصادمة للغاية، حتى وهو يخاطب ملك مصر إذا وقف أمام الرسول ألا ينسى أمته ووطنه ويسأل الرسول لهم الهداية لأنهم ضلوا الطريق، وحادوا عن الحق الأبلج.

إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ

وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ

وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً

لِأَحمَدَ بَينَ السِترِ وَالحُجُراتِ

وَأَشرَقَ نورٌ تَحتَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ

وَضاعَ أَريجٌ تَحتَ كُلِّ حَصاةِ

لِمُظهِرِ دينِ اللَهِ فَوقَ تَنوفَةٍ

وَباني صُروحِ المَجدِ فَوقَ فَلاةِ

فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ

أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ

شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها

كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ

بِأَيمانِهِم نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ

فَما بالُهُم في حالِكِ الظُلُماتِ

وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِم وَفَخارِهِم

فَما ضَرَّهُم لَو يَعمَلونَ لِآتي

وَهَذا زَمانٌ أَرضُهُ وَسَماؤُهُ

مَجالٌ لِمِقدامٍ كَبيرِ حَياةِ

مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَئوا

فَقُل رَبِّ وَفِّق لِلعَظائِمِ أُمَّتي

بَوارِجَ في الأَبراجِ مُمتَنِعاتِ

وَزَيِّن  لَها  الأَفعالَ  وَالعَزَماتِ

قصيدة عبد الله الشوربجي تخلو من وصف الحال القاسي لوطنه، وأمته، ومعاناة العرب، وقلة حيلتهم أمام المصائب الجسام التي تمر بها البلاد شرقا وغربا، ولمن نشكو إذا لم نشك أمام رسول الله؟؟  واقتصرت شكوى الشاعر على ألم ذاتي طفيف لم نشعر به، ولم نتعاطف مع دموعه تعاطفنا مع من ذكرهم من الشعراء، وكأنه كان ينشد الجائزة ولم ينشد الجنة!

وهذا البوصيري الذي استشهد بشعره، يمزج الألم الذاتي مع المديح النبوي، بنبرة أخاذة، تلزم القارئ على التغني مع الكلمات، وترديدها في كل مناسبة، وبدون مناسبة، وبعضهم يقرأها للاستمتاع الفني، والإنشاد.

إنِّي اتهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلٍ

والشِّيْبُ أَبْعَدُ في نُصِحٍ عَنْ التُّهَمِ

فإنَّ أمَّارَتِي بالسُّوءِ ما اتَّعَظَتْ

مِنْ جَهْلِهَا بنذيرِ الشِّيْبِ وَالهَرَمِ

ولا أَعَدَّتْ مِنَ الفِعْلِ الجَمِيلِ قِرَى

ضَيفٍ ألمَّ بِرَأْسِي غيرَ مُحْتَشِمِ

مَنْ لِي بِرَدِّ جِماحٍ مِنْ غَوايَتِها

كما يُرَدُّ جِماحُ الخَيْلِ باللُّجُمِ( )

وهاك الفرزدق مدح الرسول مدحا غير مباشر، بقصيدة يخلدها أدبنا العربي على مر العصور، وما تخليدها إلا لما أبدع فيه الشاعر من قوة في التعبير، وطلاقة لسانية عبر أساليب وأنساق ثقافية درج عليها المتلقي العربي في عصره وفي العصور المختلفة، وأعتقد؛ ستظل هذه القصيدة في الوجدان الجمعي لكل المثقفين على اختلاف مشاربهم. وهي إجابة لسؤال أحدهم عن الرجل الذي يهابه الناس ويعملون له ألف حساب، سائلا: من هذا؟ فهب الفرزدق مدافعا عن آل النبي صلى الله عليه وسلم:

هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ

هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ

بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ

العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ

كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما

يُستَوكَفانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ

سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ

يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ

ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ

لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاؤهُ نَعَمُ

إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها

إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ

يُغضي حَياءً وَيُغضى مِن مَهابَتِهِ

فَما يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ

ويقال كما ذكر ابن خلكان: إن هشاما غضب عند سماع القصيدة؛فأمر بحبس الفرزدق، وأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم، إلا أن الشاعر ردها. وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء.  وهنا تتجلى الدافعية والتعزيز في قول القصيدة، فلم يكن المال دافعا، بل حب آل البيت هو الدافع، وبمقارنة ذلك الموقف، وموقف الشعراء المعاصرين يتضح لنا أن دافعهم كان الجائزة وليس الجنة، وهذه إشارة إلى عدم فوز كثير من الشعراء المصريين في المسابقات الدولية.

بداية الأبيات سريعة وعفوية، وفيها ما فيها من تعالق نصوصي مع شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بداية تفرض على القارئ استلهام هذه النصوص وأثرها التداولي، حتى غدت هذه النصوص مرجعا للشاعر، فتناص معها تناصا حرفيا جزئيا، فكانت بمثابة الإشارة العابرة لحظة خلق النص المدحي، والشاعر هنا يراهن على نصه بأنه حلقة في سلسلة قصائد المديح النبوي، فشوقي والبوصيري وكعب كلهم مدحوا الرسول بقصائد خالدة، وتداولها الشعراء من بعدهم تقليدا وتخميسا وتشطيرا، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا، فقصائدهم تقف في صدارة المديح النبوي.

وبعد أبيات المقدمة نصل إلى أبيات المناجاة(3-8)، وكلها نجوى ذاتية خالية من التسامي الروحي، وبكائية على الذنوب والمعاصي التي لا مناص منها، وكنا نتوقع حرارة الأنين المبرح لحال الوطن، وما آل إليه، أو شكوى حزينة للأمة العربية نفسها، وقد مزقتها الأهواء والشيع!! وما من شاعر مدح الرسول الكريم إلا ألقى بظلال عصره، وتقلبات أمته، وبيان حال الواقع المعيش، حتى الكميت في هاشمياته حاول أن يثبت أحقية بني هاشم في الخلافة، ويتناول قضيته في حجاج متقن، وجادل بني أمية في ادعائهم ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم جانبا عاطفيا قويا، وحجاجا عقليا ليثبت قضيته من خلال مدائحه.

ويمكننا وضع ذاتية الشوربجي في مناجاته، في مقابل جماعية شوقي، واهتمامه بأمر المسلمين قاطبة ليتجلى لنا أوجه الاختلاف بين شوقي والشوربجي:

أبيات شوقي:

يا رَبِّ هَبَّت شُعوبٌ مِن مَنِيَّتِها

وَاِستَيقَظَت أُمَمٌ مِن رَقدَةِ العَدَمِ

سَعدٌ وَنَحسٌ وَمُلكٌ أَنتَ مالِكُهُ

تُديلُ مِن نِعَمٍ فيهِ وَمِن نِقَمِ

رَأى قَضاؤُكَ فينا رَأيَ حِكمَتِهِ

أَكرِم بِوَجهِكَ مِن قاضٍ وَمُنتَقِمِ

فَاِلطُف لِأَجلِ رَسولِ العالَمينَ بِنا

وَلا تَزِد قَومَهُ خَسفاً وَلا تُسِمِ

يا رَبِّ أَحسَنتَ بَدءَ المُسلِمينَ بِهِ

فَتَمِّمِ الفَضلَ وَاِمنَح حُسنَ مُختَتَمِ

وبعض الأبيات في المديح النبوي عند الشاعر عبد الله الشوربجي جاءت على غرار ما يمدح به العوام من الناس، تأمل قوله في البيت الأخير مثلا:

أنت الحياة وأنت الروح ما عرفوا

يوما حياة بلا طه ولا ذكروا

القصائد التي تمثل المدائح النبوية يجب أن يراعي فيها الشاعر جانب الإنشاد، ولذا يهتم الشاعر بالجانب الموسيقي والتقفوي في قصائد المديح النبوي؛ لأنه يدرك أهميتها على المستوى الإنشاد الشعائري، ولذا اختار لها قافية مطربة، راقصة، فالراء من القوافي الذلل، ولم يختر قافية من القوافي النفر، أو الحوش،وخير القوافي ما لازم ألفاظ البيت، ولم يجيء كالواغل، كما قال صاحب المرشد، والواغل الداخل على الطعام من غير دعوة، وقافية الشوربجي(الراء) المطلقة في ظني لم ينظم على منوالها مادح، فتفرد بقافيته الراقصة، وإن جاء بعضها متعسفا، قلقا، على الرغم من امتلاء ذخيرته بالمفردات الرشيقة التي أجاد فيها. لم يلجأ كثيرا إلى المعجم اللغوي، ولا معاجم الشعراء لجلب قوافيه، فمذخوره اللغوي زاخر، يشهد على ذلك قصائده في غير المديح. كما جاء الوزن مستقيما مطربا أيضا، منسجما مع غرض القصيدة.

يبقى أن أشير إلى إجادة الصياغة عند الشوربجي، وتميزه في صياغة أفعاله وأسمائه، فقد ضمن لها سياقا روحيا إيمانيا مستوحى من سيرته صلى الله عليه وسلم فأضفت على الصورة جانبا نورانيا يناسب الجو العام، وإن جاءت بعض الأفعال قلقة في موضعها كالفعل رأى في قوله:   حتى رأوْا في يديه سبَّحَ الحَجَرُ فالصورة سمعية أكثر منها رئوية، وقوله: يا آية اللهِ في خَلْقٍ وفي خُلقٍ صورة مكرورة متداولة في البحر البسيط عند البوصيري وغيره من الشعراء المادحين، سواء في شقها الأول(يا آية الله) أو في شقها الأخير(في خلق وفي خلق). ويحسب للشاعر بعض الحكم التي جاءت في الأبيات، مثل: و أطهرُ الدمع ما جادت به العِبرُ، وقوله: بعضُ الدموع صلاةٌ بعضها سوَرٌ وكلها أحكم الشاعر بناءها وصياغتها، وهي دليل تمكن وقدرة في سياقها العام.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: