المجد للأفكار

دكتور أحمد البهنساوي
أولا: فكر ولا تشخصن…
النابهون الناجحون دائما ينقبون عن أفكار.. لا عن أشخاص
المهم دائما كنوز الأفكار..
ليس مهمًا ماذا كتب على باب المنجم؟ ولا من صاحبه؟ ولا ما حجمه؟
ولا ما هو موطنه الأصلي؟
المهم دائما ماذا يحوي بداخله من كنوز نفيسة.
فلا شيء أنفس من الأفكار!
وعلى العكس من ذلك، فالمتحجرون من الناس إذا وصلته الفكرة تجاهل جوهرها وبدأ يبحث لها عن شخصنة بمعني الحكم على الفكرة من خلال الشخص المنسوبة إليه لا من خلال مضمون الفكرة
وطبعًا هذا میزان مختل ينتج عنه إما تعظيم وهمي للفكرة وإما تقزيم وهمي لنفس الفكرة أيضًا لمجرد ربطها بشخص قد يرونه عظيما وقد يرونه وضيعا.
وهؤلاء المشخصنون انهزاميو الفكر، لا يقدمون ولا يتقدمون؛ لأنهم يسجنون الأفكار خلف قضبان الشخصنة، ويهبطون بالفكرة من التحليق في سماء الرحابة إلى النبش في تراب الشخصنة بحثًا عن جثث أشخاص!
وهذا كله قتل للموضوعية، واستبعاد للمنطق، واعتقال للفكر .
وهؤلاء يخسرون خسارة فادحة يصفها فيلسوف الجزائر (مالك بن نبي) قائلا:
إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص، فإننا نحرم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضد.. وعلى العكس نتورط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.
وهذه بالضبط نظرة فرعون لدعوة سیدنا موسى عليه السلام
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) الشعراء الآية 18
ترك فرعون جوهر الدعوة ورأى أن العيب فيها هو شخص موسی الذي كان يومًا ما ربيبًا لدى فرعون.
وطبعا من أبرز صور الشخصنة كفر أبي جهل ورفضه الإسلام السبب شخصي محض في نظر أبي جهل (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الزخرف 31
طبعا كان أبو جهل يقصد رجلا مثل الوليد بن المغيرة الذي يمتلك مالا ممدودا وبنين شهودا.
هو اعتراض إذن على شخص الرسول الكريم، وليس اعتراضا على القرآن.
وهو خلاف على شخص الرسول، وليس خلاقا على الرسالة.
و باعث هذا كله التعصب والكبر والعناد والتمسك بالرأي والجمود
عند حدود الشخصنة.
وعلى نقيض ذلك كله… فإن روعة التفكير الموضوعي في قصة سیدنا یوسف عليه السلام ، تجلت عند ملك مصر، فلم يقف الملك عند التاريخ الشخصي لسيدنا يوسف عليه السلام.. لم يقل الملك عنه إنه فتى عبراني.. وإنه بيع بيع الرقيق.. وإنه كان غلاما لدى عزیز مصر.. وإنه كان سجينا.. وإنه.. وإنه..
بل وقف الملك عند فكر يوسف ونظر إلى علمه فوجده حافظا للحساب، علينا بالألسن واللغات، ولما اقترب منه أكثر لمس تطابقا بين روعة الفكر وعظمة الشخص، فجعله على خزائن الأرض وقلده وسام التقدير والتمكين (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) يوسف 54
ولذلك كان من أهم دعائم المنهج العلمي في البحث هو التزام الحيادية والتخلص من التأثيرات والتحيزات الشخصية.
الهدف دائما هو الفكرة، لا الشخص.
والأروع من ذلك كله أن تخرج بالفكرة من الإطار الشخصي الضيق إلى النطاق الإنساني العام.. بل لا مانع أن نأخذ الأفكار من الحيوان والنبات ونطورها ونصنع منها أفكارًا فوق العادة .
– ألم نستلهم صناعة كاميرات المراقبة متعددة العدسات من تركيب عيون الذبابة التي تحتوي على ثاني وعشرين ألف عدسة، ولم نقف عند تاريخها الشخصي المقترن بالقمامة والقاذورات ؟!
– ومن الشكل المفصلي لأرجل العنكبوت استلهمنا صناعة الروبوتات الآلية المستخدمة في الإنقاذ والتفجيرات.
بل ومن أنثي العنكبوت الأسود أخذنا أفضل أنواع الخيوط الجراحية ولم ننظر إلى الخسة والانحطاط الخلقي في عالم العناكب التي يسرق بعضها بعضا، وتأكل الأنثى ذكرها، وتأكل الأمهات أولادها أحيانًا.
– ومن فطر البنسليوم استخرجنا جزيئات (البنسلين) المضاد الحيوي الأشهر، ولم نقل إن فطر البنسليوم مجرد عفن متطفل.. وأخذنا أيضًا من زميله فطر الأرجوت مادة قلوية لوقف النزيف، ولم نقف عند تاريخ الأرجوت السيئ في إصابته لسنابل القمح.
– ومن سرطان البحر أخذنا أدوية مانعة للتجلط مثل الهيبارين، ومن الطحالب والرخويات والكائنات الدنيا حدث ولا حرج عن استخلاص مسكنات الألم، ومضادات الأورام وقاتلات الجراثيم والفيروسات.
– ومن الخنزير أخذنا أفضل أنواع صمامات القلب واستخلصنا الأنسولين لعلاج الملايين من مرضى السكري.. ولم يمنعنا عن ذلك معرفتنا بدناءته المعيشية.
– ومن الثعابين أخذنا ترياقا لعلاج الجلطات والسكتات الدماغية وقصور القلب الاحتقاني..
فعلنا هذا ولم نأخذ موقفا فكريًا أو شخصيًا بالابتعاد عن الثعابين لكونها مجرد زواحف سامة بغيضة.
– بل وتعلمنا من زهرة عباد الشمس كيفية الاتجاه الصحيح والترتيب الأفضل للهليوستات العاكسة في محطات توليد الطاقة الشمسية.. لم يمنعنا عن ذلك كون عباد الشمس مجرد نبات لا يملك عقلا مفكرًا راقيًا .
– فدائما المجد للأفكار، لا للأشخاص ولا للكائنات، فالأفكار على حد تعبير (فيكتور هوجو) هي أقوى شيء في الكون كله.. أقوى من الجيوش وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأثره.
ثانيا: كن.. ملك مصر !!
والآن يا صديقي أخبرني إذن كيف ستتعامل مع الأفكار؟!
هل ستتعامل معها بموضوعية كما تعامل ملك مصر مع سیدنا يوسف؟
أم هل ستتعامل معها بشخصنة -عفوًا- کما تعامل أبو جهل؟!
وإذا كنت تختصم شخصية المفكر فمن الحماقة أن تختصم الفكرة.
فهل ستهشم التمثال الرائع لتعيده إلى أصل خام معدنه الرخيص؟!
أم هل ستلتقط جوهر الفكرة وتطلق العنان لعقلك ليتجاوز كل ما هو شخصي ورجعي وتقليدي سعيا وراء الحقيقة الخالصة؟!
وهل تستطيع القفز معي نحو التفكير الابتكاري والإبداعي؟!
لم يعد بوسعي الآن سوى أن أقول لك: دائمًا فكر.. دائما لا تشخصن..