اللغـــــة هُــــويــــة أمّـــــة

الدكتور علاء إسماعيل الحمزاوي – أستاذ اللغويات بجامعة المنيا
يأتي ذلك اليوم تكريما لهذه اللغة الجميلة، ويُذكّرنا بالعلاقة الوطيدة بين اللغة والهُوية والوطنية والمواطنة، فالهُوية جملة السمات الإيجابية التي تُميز شخصا أو مجتمعا أو دولة أو أمة عن غيرها، ومن تلك السمات “اللغة”، فمن سمات المجتمع المصري أنه مجتمع فرعوني أفريقي عربي يتحدث العربية، فاللغة إحدى سمات الهوية للأفراد والمجتمعات، والوطنية هي إحساس المــرء بوجوده وتَمتُّعُه بالحقوق والواجبات في وطنه، والمواطنة هي السلوك الذي يترجم ذلك الإحساس متمثلا في الحفاظ على الوطن، وقد تجلّت الوطنية في مقولة النبي لمكة: “والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”، وفي دعائه للمدينة “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة .. اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد”، وتجلّت المواطنة في محاربة فرعون للحق متمثلا في موسى؛ حيث {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، مواطنة من فرعون تتمثل في إصراره للمصريين أن يكونوا وطنيين في محاربة موسى؛ خوفا أن يسلب منهم وطنهم.
وتتجسد العلاقة بين اللغة والوطنية والمواطنة فيما يسمى بـ”المواطنة اللغوية”، ونعني بها انتماء المرء للغته الأصلية التي تُميِّزُ وطنه عن غيره مع المحافظة عليها، فالعناية باللغة الأمّ مظهر من مظاهر المواطنة وجزء من الهُويّة الذاتية والقومية وسمة حضارية.
وقد تجلّت المواطنة اللغوية عند العرب الأوائل، حيث نجحوا عبر هذه اللغة أن يستعربوا العالم من خلال نشر الثقافة الإسلامية، وقد أسهم المسلمون الأعاجم في نشر العربية بعد أن فقهوها، حتى صارت لغة رسمية في بعض البلاد الإسلامية، وتركت أثرا كبيرا في بعض اللغات كالفارسية والتركية والأسبانية، وصارت لغة العلم أكثر من ثمانية قرون، حتى أقبل علماء أوربا على تَعَلُّمِها وترجمة تراثها العلمي فيما يُعرَف بعصر “الاستعراب الأوروبي”.
وتجلّت المواطنة اللغوية في الدستور المصري؛ حيث نص على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية”، وتجلّت كذلك في تعريب العلوم الطبية في بعض الدول، كما تجلّت في شخص الرئيس جمال عبدالناصر حينما أصرّ أن يلقي كلمته في الأمم المتحدة باللغة العربية في جلسة سبتمبر 1960، وبذلك يُعَدّ أول رئيس عربي يتكلم باللغة العربية في الجمعية العمومية، وطالب آنذاك بإدخال اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة على أن تتحمل الدول العربية النفقات المترتبة على ذلك القرار في السنوات الثلاث الأولى، وتم التنفيذ في الثامن عشر من ديسمبر 1973، لتصبح لغتنا الجميلة اللغة السادسة من لغات الأمم المتحدة تسبقها خمس لغات: الإنجليزية والفرنسية والروسية والأسبانية والصينية، ثم قررت الأمم المتحدة بتوصية من دول عربية وبخاصة السعودية والمغرب أن يكون الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، وفي 18 ديسمبر 2021 وافق الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) على مقترح عربي من دولة قطر وغيرها باعتماد اللغة العربية لغة رسمية لها بجانب الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية.
واللغة مرتبطة بمتحدثيها قوة وضعفا، يقول ابن خلدون: “إن قــوة اللغة في أمّةٍ ما تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم؛ لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتُها بين اللغات صورة لمنزلة أمّتها بين الأمم”، فإذا عدنا إلى الماضي حيث سيادة الحضارة الإسلامية للعالم نجد لغتنا الجميلة قد سادت في بلاد كثيرة من أوربا وأسيا وأفريقيا وأثّرت في لغاتها، فضلا عن اعتماد دول ومناطق كثيرة الأبجدية العربية في كتابة لغاتها كالتركية والأردية والأفغانية والسواحلية، وقد تجاوز عدد اللغات الأعجمية التي اعتمدت الأبجدية العربية منذ فجر الإسلام حتى ذلك الوقت أكثر من سبعين لغة، ولا يزال بعضها إلى الآن يكتب بالحرف العربي كاللغة الفارسية.
غير أنه في عصرنا الحاضر وقعت لغتنا الجميلة تحت تأثير عولمة اللغة الأجنبية، وانتشر لدينا ما يسمى بلغة “العربيزي” أو لغة “الفرانكو” بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي بالبلاد العربية، وانتهت بحوث لغوية إلى أن ذلك يعود إلى لغة رسائل الهاتف المحمول في أوائل القرن الحادي والعشرين، حيث إن حجم الرسالة يسمح بكتابة مائة وأربعين حرفا إنجليزيا أو فرنسيا، في حين لا تتجاوز الرسالة سبعين حرفا عربيا؛ ومن ثم فالرسالة العربية مكلِّفة، مما جعل بعض مستخدمي الهواتف ولاسيما الشباب يحررون الرسائل العربية بحروف أجنبية، والحروف التي ليس لها مقابل أجنبي كالهمزة والعين يُرمَز لها بالأرقام، فنُعِتت هذه اللغة بأنها لغة الأرقام، ثم سادت بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تمثل مظهر تهديد للهوية العربية، مع أن لغتنا العربية تحتل المركز الرابع عالميا من حيث عـددُ المتحدثين بها بعد الإنجليزية والصينية والهندية؛ إذ يقارب المتحدثون بالعربية نصف مليار متحدث معظمهم من العالم العربي، وذلك وفقا لتقرير صادر عن الاستخبارات الأمريكية.
وقد عقد بعض الباحثين مقارنة بين اللغة العربية واللغات العالمية الحية من حيث عدد الكلمات فوجد تفوقا ملحوظا للغتنا الجميلة؛ حيث تجاوز عدد كلماتها 12 مليون كلمة، في حين يبلغ عدد كلمات اللغة الإنجليزية 600 ألف كلمة، والألمانية 160 ألف كلمة، والفرنسية 150 ألف كلمة، والأسبانية 150 ألف كلمة، والروسية 130 ألف كلمة، والصينية 123 ألف كلمة، بل إن القاموس الأسباني يحتوي أكثر من 4000 كلمة عربية، ومع أن هذا كلام جيد لنا فإنه في الحقيقة غير مؤكد ولا يمكن تأكيده ولا قبوله، فليس هناك دراسة علمية حقيقية بعدد كلمات كل اللغة، وغير مجْدٍ القول بأن لغة ما هي أغنى من لغة أخرى في عدد كلماتها؛ لأن كل لغة يؤدي بها مستخدموها ما يريدون التعبير عنه، إنما المؤكد أن اللغة العربية لغة اشتقاقية، فمن الجذر الثلاثي تُشتَق كلمات كثيرة أفعالا وأسماء، في حين أن اللغات الأخرى لغات إلصاقية تعتمد على أصل ما مضافا إليه سوابق أو لواحق، ولعل هذا الأمر يؤهل لغتنا الجميلة أن تكون أغنى اللغات في عدد الكلمات، فضلا عن الثراء الدلالي للألفاظ والاستعمال المجازي لها وفقا للسياقات المختلفة.
وأسوق هنا خطابا قصيرا ألقته امرأة من البرامكة على مسامع هارون الرشيد، حيث دخلت عليه فقالت له: “يا أمير المؤمنين، أقــرَّ اللهُ عينك، وأتمَّ سَعدَك، وأفرحَكَ بما آتاك، حكمْتَ فقسطتَ”، فلما انصرفت قال لأصحابه: هل تدرون ماذا قصدت؟ قالوا: دعتْ لكم يا أمير المؤمنين، قال: بل دعت علينا، فتعجبوا وقالوا: كيف ذلك؟! قال: “أما قولها: أقــرّ الله عينك، فإنها تعني الاستقرار، والعين إذا استقرت مات صاحبها، وقولها: أفرحك بما آتاك أخذته من قوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}، أي آيسون من رحمة الله، وقولها: أتــمّ سعدك، تعني به زوال ملكي، فبعد التمام يأتي النقصان، قال الشاعر: (لكل شيء إذا ما تم نقصان)، وأما قولها: حكمتَ فقسطتَ، فأخذته من قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}”، انظروا إلى فطنة الحاكم ومستواه الثقافي!
فيجب علينا نحن العربَ أن نحافظ على ثقافتنا الوطنية ولغتنا العربية، ومن مظاهر المحافظة الاهتمام بالترجمة والتعريب لعلوم الآخر المتقدِّم باستثناء مصطلحات المخترعات والمبتكرات الحديثة، ولا يعني ذلك رفضنا للغات الأجنبية؛ فهي النافذة لنا على ثقافة الآخر وعلومه المتقدمة، والجهل بها يحرمنا الإفادة من ذلك، لكنّ المرفوض هو الذوبان في الآخر، فتضيع خصائصنا الثقافية وهويتنا العربية، وقد كانت الترجمة أحد روافد التقدم والتطور للأمة العربية، ولعلنا نتذكر هنا ازدهار حركة الترجمة في عهد المأمون ومدى إسهامها في صناعة حضارة عربية إسلامية، فيجب أن يكون لدينا انتماء حقيقي للغتنا الجميلة، ومن مظاهره الاهتمام بتعلّم القرآن في المؤسسات التعليمية، وأذكّر هنا برسالة للرئيس السيسي إلى الأمة العربية عبر برنامج “يحدث في مصر” دعا فيها إلى الاهتمام باللغة العربية والقرآن الكريم.
ومن مظاهر الاهتمام باللغة العربية وضع برامج متخصصة لتعليم الفصحى بطريقة ميّسرة، وتنمية الوعي اللغوي لدى المواطن، وتعزيز مكانة اللغة العربية في المدارس وتنويع مناهج تعليمها، والتحدّث بالفصحى في قاعات التدريس، ودعم الوسائل الإعلامية لنشر برامجها بالفصحى وحــثّ المشاهد على أهمية تعليم العربية، ولعل نشرات الأخبار في الإذاعات والشاشات دليل قوي يؤكد قدرة المواطن العربي على فهم الفصحى السهلة واستيعابها، وأفضل نموذج إعلامي للغة الفصحى إذاعة القرآن الكريم المصرية، فهي خير شاهد على أن اللغة الفصحى لغة مرنة يسيرة يسهل على المواطن فهمها، وحينما تُذكَر إذاعة القرآن الكريم يُذكَر الرئيس جمال عبدالناصر، فهو صاحب الفضل في إنشائها 1964؛ ليُسمَع القرآن مجوَّدا ومرتَّلا داخل مصر وخارجها؛ ومن ثم فإن القرار السياسي يلعب دورا مهما في تحقيق هذه المتطلبات؛ لأن مستقبل اللغة قضية وطنية سيادية، وفي السعودية يوجد أكبر مركز بحثي علمي للغة العربية هو مركز الملك عبدالله للغة العربية، وتقيم الإمارات سنويا أكبر مؤتمر دولي للغة العربية، ونطمح في مستقبل أفضل للغتنا الجميلة، فهي لغة الفكر والحضارة.
ورحم الله أحمد شوقي حين قال:
إِنَّ الَّـذي مَلَأَ اللّـغاتِ مَحـاسِناً جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضّادِ