الفرار إلى العزلة
كتب : الدكتور محروس بريك
﴿وإذِ اعْتَزَلْتُمُوهم وما يَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرفَقًا﴾
تصور تلكم الآية ببنائها اللغوي المحكم لحظة فارقة بين مرحلتين من مراحل الاعتزال؛ أولاهما عزلة القلب دون الجسد، وأُخراهما عزلة القلب والجسد معًا. وهما مرحلتان متعاقبتان؛ بينهما لحظة آنية خاطفة تكاد لدقتها تخفى بين زمنَي الماضي والمستقبل، إنها أسرع من أن يُعبر عنها بجملة طويلة؛ فما أسرعَ الوَقْع الصوتي المعبر عن هذا المعنى في قوله تعالى على لسان أولئك الفتية: (فَأْوُوا)! إذ رشّح دلالةَ السرعة _ المستفادة من الفاء_ ذلك الوَقُع الصوتيُّ في الفعل، حيث هذان المقطعان (فَأْ) (وُوا) اللذان يشبهان وثبةَ عدّاءٍ وثب وثبةً ثم أطلق ساقيه للريح يعدو فرارًا بروحه وجسده وهو لا يُلوي على شيء.
لقد لبث أولئك الفتية بأجسادهم زمنًا بين ظهرانَي الكافرين، لكن أرواحهم كانت معلقةٌ بخالق الأكوان لا بدونه من المعبودات الباطلة، كان ذلك فيما مضى (إذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) و(إذ) ظرف لما مضى من الزمان، و(اعتزل) فعل ماض، وكلاهما يشير إلى انقضاء تلك الحقبة من حِقبتَي الاعتزال، ويُؤْذِنُ ببدء حقبة الهجرة الكاملة حيث تفر الأجساد إلى الكهف فتُنشر رحمة الله على الأرواح وتتهيأ لها راحة الارتفاق والاتكاء على أرائك الإيمان، ولما كانت تلك المرحلة مراد النفوس والأجساد كليهما طالت الجملة وتوالت الأفعال فيها مؤذنة بامتداد زمن الهدوء والسكينة في المستقبل.
وما أشبه هاتين المرحلتين لفتية الكهف بمُكْث المسلمين في مكة تضطرب أجسادهم بين ظهرانَي كفار قريش في حين أن أرواحهم كانت معلقة بنور الحق، ثم هِجْرتهم أهلَ الكفر بأرواحهم وأجسادهم معًا، وما أشبهَ تلك اللحظة الفارقة الخاطفة بين مرحلتَي اعتزال أهل الكهف – بتلك اللحظة الخاطفة الفارقة التي تسلل فيها من بين براثن الكفر سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه.