العشاء الأخير

غادة صلاح الدين
لا يعرف كم من الوقت استغرقه في النوم، تَلَاشَى الفارق بين الخميس والأحد، مذاق الأيام واحد لا يتغير، فكل شيء قابل للتغيير إلا حياته، خمسة عشر عامًا قضاها في الأسر، يتذكر يوم ارتعدت فرائصه وما زالت ترتعد كلما نظر إلى عينيها الحالمتين الضاربتين في الزرقة، تطوي بداخلها هديرًا لا يهدأ ، تخلت عنه أفكاره فراح يتطَلَّع إليها مَشْدُوهًا ، لا يمكن أن تكون جميلة ، فالكلمة فقيرة في معناها، تخلى عنه كبرياؤه وتوقف في حلقه الكلام، يتقدم إليها أم يُحْجِمُ، حدثها واكتفت بالنظرات حتى وجد نفسه في بيت والدها يرجوه أن يتمم الله بخير، أُمنية تمناها في لحظة صفاء بينه وبين السماء ليجد قلبه بعد ثلاثة أشهر أسير هواها، مازالت حجرة النوم مُظلمة، جمعهم فراش واحد، وقد مضى على آخر لقاء بينهما ساعتان، عابث الخد والعنق ورشف من رحيق الفم، احتواها بحنان يكفي ألف امرأة، راحت منه إلى ما وراء الحلم، لحظات من الأرق والوساوس بدت شاخصة أمامه، بالأمس.. ليس بالأمس فقط، رجع بذاكرته قليلًا، منذ بضعة شهور، لاحظ أشياء بدت أمامه غريبة، لم يتوقف عندها كثيًرا، أسير لا يرجو الحرية، تبدأ حريته بإنجاب طفل، لم يتذَمَّرْ، واستسلم للفحوصات والتحاليل.
جميعها أكدت خُلُوَّه مما يعُوقُه عن الإنجاب، لم تتقبل الأمر بسهولة، ونَفَتْ عن نفسها ما رأته مهينًا لها، وأكدت قدرتها على الإنجاب، احتدم النقاش بينهما؛ مشتعلًا حينًا وهادئًا أحيانًا، لكن النار تَضْطَرِمُ تحت الرماد.
ظل مُؤَّرَقًا طوال ليلته، وعلى غير توقُّعٍ، أرسل تليفون زوجته وميضًا مُتَقطِّعًا بلا صوت، معلنًا عن اتصال، أمسك بالجوال وتوالت الومضات وعلى ضوء المصباح الخافت، تبين أن المتصل مارسيل، لم يشأ أن يفتح الخط، تكرر ما سبق على فترات متقاربة، مع همسات تحولت إلى مناجاة، وعشق بدت ملامحه على وجه الزوجة، وتحول الهمس إلى صوت يملؤه الشوق، لا يمكن لزوجته أن تحدث مارسيل بهذه النعومة!
في تلك الليلة أرسل الجوال الومضات ذاتها، أشاعت في جو الحجرة ما يشبه البرق والزوجة راقدة تغط في النوم، أزاح عن رأسه وسائر جسده الغطاء واعتدل جالسًا، وبحرص شديد غادر الفراش ومازال الجوال يرسل ومضاته، أعلن الهاتف عن اسم المتصل، قربه إلى أذنه، اندفع من التليفون صوت أجش لا يمكن أن يكون لامرأة! مارسيل اسم مستعار، دوَّنَتْه زوجته بديلًا عن رجل خفي، تحققت هواجسه، أغلق التليفون بسرعة وراح يفتش عن باقي الأسماء والرسائل، أسفر التفتيش عن فضائح وعلاقات آثمة بينها وبين من سجلته على الهاتف باسم مارسيل، فاجرة وقادرة علي استبدال اسم رجل بامرأة، فكر أن يراقبها بعد أن تأكد من خيانتها، هو علي يقين ينقصه الدليل .
كل صباح تقف عند المنعطف تنتظر أتوبيس الشركة يقلها إلى عملها في السابعة صباحًا؛ لتعود إلى بيتها في الرابعة عصرًا، لم يتغير الحال منذ ثماني سنوات يوم أن التحقت بالشركة.
فيما يشبه الكابوس عاش سعيد حياته مع زوجته، حاول أن يقطع الشك باليقين، حدثه قلبه أن يراقبها لكنه لم يفعل، فكر في الانفصال عنها ولكن قلبه وقف حائلًا أمامه، فرك أنفه وقطب جبينه ورفع سماعة التليفون، اتصل بجهة عمل زوجته يطلب محادثة مدام مارسيل، ربما كان لمارسيل وجود حقيقي، لم يعثر على أحد في الشركة بهذا الاسم ، لم تكن مفاجأة لسعيد الذي مضى وراء هواجسه مُصِّرًا على معرفة حقيقة مارسيل هذا والوصول إليه في أسرع وقت.
تسارعت دقات قلبه وسابقت خطواته المتجهة إلى الشركة، تعمد الوصول إلى جهة عمل زوجته منتصف النهار ربما استشف شيئًا يبرئها أو يحيط بما لم يُحِطْ به علمًا.
اندفع إلى إدارة شؤون العاملين تتناثر من بين شفتيه كلمات ذاهلة ومن عينيه نظرات حائرة تسأل ولا تنتظر إجابة: مدام سهير .. مدام سهير.. من فضلك .. مكتبها فين ؟
اتجه سعيد إلى إدارة الحسابات بالطابق السادس، لم ينتظر المصعد، وثب صاعدًا درجتين أو ثلاث في قفزة واحدة، ليقف أمام رئيس الحسابات لاهثًا، أشار إليه بالجلوس، فانحط علي أقرب كرسي صادفه:
– مدام سهير .. مدام سهير من فضلك .
– سهير مين ؟
– سهير شفيق .. الله يسترك
ارتفع صوت المدير ينادي :
– مدام سهير … سهير شفيق عندك ؟
وقبل أن ينتظر الإجابة أفاد المدير أن السيدة سهير شفيق قامت بإجازة مدتها عشرة أيام اعتبارًا من أول أمس.
نهض سعيد مسرعًا وكأنما لدغه عقرب، تلفت حوله متطلعًا إلى وجوه المارة ، رأى زوجته في كل امرأة، اتجه إلى بيته، وفي ركن منزوٍ جلس قابعًا في أعماق ذاته، لا يفكر في شيء، لم يعد أمامه إلا لغز مدام مارسيل.
في الرابعة والنصف توقف أتوبيس الشركة عند المنعطف، نزلت الزوجة تتأود في دلال، أدارت المفتاح في باب الشقة؛ لينفتح عن سعيد قابعًا في انتظار المجهول.
مر اليوم كسابقه وسعيد في حيرة، جلس على الأريكة بكامل ملابسه حتى الصباح، ما إن أشارت عقارب الساعة إلى نور النهار حتى غادرت سهير زوجها ورائحة عطر غريبة فاحت من جسدها.
انطلق وراءها، من شارع إلى حارة، وبعد حوالي ربع ساعة توقفت على رصيف الشارع الرئيس قبل الوصول إلى الميدان، لم تستقل سيارة الشركة، ركبت سيارة أجرة و مازال يتعقبها، سلكت طريقً بعيدًاعن الشركة، توقفت السيارة أمام أحد البيوت الصغيرة، وتوقف سعيد على مبعدة منها، وراح يتابعها من مكمنه، غادرت سهير السيارة مترجلة نحو أول عمارة في آخر الشارع وسعيد من ورائها، ارتقت الدرج بسرعة حتى الطابق الثاني، وعلى باب الشقة قربت الجوال من إذنها تتصل بمارسيل، تلاحقت أنفاسه وهو يلاحقها ونظره متجه لأعلى، طرقت الباب برفق ليخرج عليها من باب الشقة وحش كاسر، ألقت بنفسها في أحضانه ودلفا للداخل بعد أن صفقا الباب في قلب سعيد، يمكن أن يطلقها الآن؛ لكنه في حاجة إلى شهود ، تعالت صرخاته وهو يدق الباب بعنف ، وتجمع خلق كثير وتعالت الصيحات ، انطلقت سهير مندفعة للخارج تطل من عينيها نظرات ناطقة بالتحدي، لم يعد الأمر يحتمل أكثر من هذا، أشاحت بيديها وبوجهها وانطلقت تشتعل في صدرها نارٌ حامية، انتقلت إلى رأس زوجها وتبادلا ألسنة اللهب:
– سعيد ..
– كنت