السُّنة النبوية وعلاقتها بالكتاب (3)
أ.د محمد فتحي العتربي
نكمل حديثنا بهذا السؤال :لكن لماذا هذه الثروة الحديثية الهائلة ؟ أحاول أن أجيب عن هذا السؤال مدافعاً عن تراثنا الحديثي ، فلا يتخذ الكم الهائل في مروياتنا سبيلاً للطعن في الرواية بعامة أو للطعن في السُنَّة خاصة ،إن محاولة إلتماس الهداية من حياة النبي (ص) والتأسي بأعماله جعل بعض الذين عايشوا النبي (ص) لا يتركون صغيرة ولا كبيرة مما قام به النبي (ص) إلا وقلدوه فيها، وذلك للطبيعة الخاصة بالنبي المعصوم الذي توفرت له معالم الكمال البشري والجمال الخَلقي والخُلقي، بحيث اعتبٍر(ص) نموذجاً فريداً ينبغي أن يُحتذي به في كل حركاته وسكناته فكان عندئذ النظر في كل عمل يقوم به علي أنه سُنة رغم أنه (ص) لم يكن يفرض علي المسلمين الاقتداء به في كل أمر ، بل كان كثيراً ما يردهم ويمنعهم عما يفتح عليهم باب المشقة والعنت :”ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي أنبيائهم” . ” إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحَدَّ حدوداً فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء – من غير نسيان – فلا تسألوا عنها “. فكانت مظاهر التيسير واضحة في حياة النبي (ص) في عبادته :” افعل ولا حرج ..” (2) ، وفي معاملاته :” ما خُيَّر رسول الله (ص) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً “، وقال (ص) : ” أيها الناس ، إن منكم منفنرين فأيكم ما صلي بالناس فليوجز فإن منهم الكبير والضعيف وذا الحاجة “. فلما تجاوز المسلمون مرحلة التلقي ( جيل الصحابة – جيل التلقي ) إلي مرحلة الرواية دفعت الأمانة العلمية – إن جاز التعبير – والحرص من الصحب الكريم وتابعيهم علي ألا يكتموا شيئاً مما بلغهم عن رسول الله (ص) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية واصطلح المسلمون الأولون علي اعتبار ذلك سُنَّة النبي (ص) ومعلوم أن الحديث النبوي أو المنسوب إلي النبي (ص) أعم وأشمل من السنة في ذاتها ، لأن الحديث اسم لما يقع به التحديث أو يقع عليه ، أي الأخبار ، قال الإمام ابن حجر : المراد بالحديث في عرف الشرع ما أضيف إلي النبي (ص) كأنهم أرادوا به مقابلة القديم الذي هو القرآن. والناظر إلي جهود الصحابة الكرام واجتهاداتهم بداية من حضورهم مجلس النبي (ص) والإنصات له ، والسؤال عَمَّ يُشْكَل لهم ، وعرضهم اجتهاداتهم علي النبي (ص) ثم كتابة بعضهم لحديثه (ص) ، وحفظهم له ونشرهم له ؛ يقف علي مدي تداول أخباره (ص) وتناقلها من بعده باللفظ النبوي إلا عند الاضطرار كانوا يقولون : ( أو كما قال رسول الله (ص) ). ( راجع :الصحابة وجهودهم في خدمة الحديث النبوي للمرحوم الدكتور / السيد محمد نوح :89-113، ط1 دار الوفاء مصر 1414هـ 1993م . وفي جيل الرواية تعددت الرواية وأسبابها حتي أن أستاذاً أردنياً رصد أسباب التعدد هذه في رسالة أسماها : أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف، ولخصها في تعدد الحادثة – والرواية بالمعني واختلاف القدرة علي الحفظ – وإختصار الراوي للحديث وحضور الراوي بعض الحديث – وتعدد الإجابات لكثرة المسئوليين – والخطأ – والكذب ( أحياناً )(. (أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف د/ شرف محمود القضاة ، الجامعة الأردنية ط 1 دار الفرقان عمان 1405هـ 1985م) . كل ذلك أدي إلي تضخم الثروة الحديثية ، وإذا أضفت ما تولد في جيل الفقه من عوامل أدت إلي اتخاذ مواقف أكثر توسعاً أو تحرراً من الحديث النبوي أيقنت أنه لا دخل للسُنَّة النبوية في هذه الظاهرة الروائية وكثرتها ، حتى إذا ما أتي جيل التدوين وجدنا المجامع الحديثية والسنن النبوية والمسانيد والصحاح تحفل بثروة حديثية لم تشهد أمة مثلها وكل ذلك تخليداً لتراث خير الأنبياء وحرصاً علي ألا يفوت الأمة شيئاً من ميراث النبوة ، الأمر الذي لا يؤثر علي حجية السُنَّة ودورها في بيان الإسلام وتعاليمه . وما ينبغي أن نلتفت إليه مع هذا الكم الهائل من المرويات ، هل اختلط الصحيح بالسقيم والمقبول بالمردود أم أن الله تعالي قيض لهذا العلم من كل جيل عدوله ينفون عن السُنَّة انتحال المنتحلين وغلو المغالين ووضع الواضعين ، حتي وصلت إلينا السُنَّة صحيحة نقية فيما عرف بالصحاح والسنن ، أحسب المكتبة الحديثية كافية في الجواب ، حيث وضع كل إمام لنفسه ضوابط وشروطاً للرواية إلتزم بها في كتابه ، ومثلت منهجاً فريداً في التوثيق. لكن السُنَّة النبوية في حاضرنا عانت من إشكالين مثلا حاجزاً بين الناس -أعني الكثير من المثقفين بخاصة- وبين السُنة . الإشكال الأول: المبالغة في الإهتمام بالعديد من الروايات الحديثية التي اهتمت بالفروع وفضائل الأعمال والآداب في الزي والشكل وحملها بعض دعاة السلفية علي الوجوب فيما دعت إليه واعتبروها شغلهم الشاغل، وميزان التفاضل وعليها يدور الحكم علي الناس بالإيمان والكفر مما أكسب الأمة موقفاً صدودياً عن السُنَّة بعامة، واختفت في ظل هذا الاهتمام الموسوم بالسلفي جوانب السنة الحية التي تقود الأمة إلي الشهود الحضاري.
والإشكال الثاني : ما واجهته السُنَّة من بعض ما يُسَّمون ( بالقرآنيين ) الذين اتخذوا من بعض الروايات الحديثية سبيلاً لرد الأحاديث النبوية كلها ، وطرحها للعمل بالنص الثابت الذي لا يتغير وهو القرآن الكريم . وإذا أضفنا إلي هذين الإشكالين موقف أهل الصنعة من المحدثين والأصوليين المعاصرين الذين يقفون بالسنة دائماً في خندق الدفاع ، فما أن يتطاول أحد الكُتاب علي حديث أو علي رواية لا تروقه جعلوها قضية القضايا وقلبوا الدنيا علي كل رأي مع أن الإهمال أحياناً يكون أصوب ، وبالأخص إن اتجه الجهد نحو تفعيل السُنَّة ودورها في حياة الناس وحل إشكالياتهم العلمية والعملية ؛ وهو ما نتكلم فيه في المقالة المقبلة إن شاء الله تعالى..