الرسول الكريم ﷺ في عيون أصحابه 

 دكتور مصطفى شعبان
بسم الله نستفتح بها ذكرًا، والحمد لله نستزيد بها شُكرًا، نحمدك ونشكرك ونثني عليك حمدًا يكفيك وشكرًا يُكافيك وثناء يرضيك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى ولا يؤوده حفظ ما خلق، وأحسن كل شيء خَلَقَهُ ولم يخلقه على مثال سَبَق، يُعصى فيحْلُم، ويُطاع فيُكْرِم، ويُدعى فيَسْمع، ويُرجى فيَشْفع، لا دافع لقضائه، ولا مانع لعطائه، كما بدأ أول خلق يعيده، لا جالب لما ردَّ ولا رادَّ لما يريده، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات…
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خيرُ مَنْ جاد به الزمانُ، وأفصحُ من نطق بلسان البيان، صلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الملوانِ وسبح الثقلانِ:
أَغرُّ عليه للنبوة خاتَم *** من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة *** من الرسل والأوثان في الأرض تُعبد
فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا *** يلوح كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا نارا وبشر جنة *** وعلَّمنا الإسلام فالله نحمد
وبعدُ:
فما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا حلَّتْ ذكرى مَوْلِدِهِ الشَّريفِ إلا وحريٌّ به أن يقتبس من قَبَسِ النبي الأكرم هديِهِ وسَمتِهِ وسِيرته، ذلكم النبي الأجل الذي أخذ الله من أمته ميثاقهم لتؤمنن به ولتنصرنه، ذلكم النبي الأكرم الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه، فكانت ذكرى مَوْلِدِ صاحب هذا الميثاق لِزامًا وأجلٌ مسمى نستعطر فيه بشذى هديه، ونلتمس رشفًا من عَذبه صلوات ربي وسلامه عليه.
رسول الله الذي يَوْمَ أَنْ وُلِدَ وُلِدَ مَعَهُ كُلُّ نورٍ أضاءَ جَنباتِ العالَمِ وآذَنَتْهُ بِمَعْلَمِ الهُدى الأَعْظَمِ ومَوْئِلِ الحَقِّ الخاتِمَ، رسول الله الذي قال عَنْهُ صاحِبُهُ العِرْبَاض بْن سَارِيَةَ: ((إِنِّي عَبْد اللَّه وَخَاتَم النَّبِيِّينَ وإِنَّ آدَم لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَته، وسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنِّي دَعْوَة أَبِي إِبْرَاهِيم، وبِشَارَة عِيسَى بِي، ورُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وكَذَلِكَ أُمَّهَات النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَإِنَّ أُمّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَتْ حِين وَضَعَتْهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُور الشَّام)).
وقد فكَّرتُ وقدَّرتُ من أي خطوة أبدأ، فهُدِيتُ إلى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب وعيون صحابته الأجلاء الكرام، فهم أول من تلقى بشائر الحُبُور، وأول من أخرجهم النبي من الظلمات إلى النور، وهم أول من وجدوا حلاوة الإيمان إذ كان الله ورسوله أحبَّ إليهم مما سواهما، فلا جرم أنَّ لهم السبق في معاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله سِلمًا وحربًا، حَلًّا وتَرحالًا، عُسرًا ويُسرًا، ولا جرم أن لهم الحُسنى من كل سابقة خير وسانحة فضل، من أجل ذلك كان حديثهم عن رسول الله خير ما تَصْغَى إليه القلوب وتتشنَّفُ به الآذان.
سُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ” كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ ” (روضة المحبين ونزهة المشتاقين 1/418)…ولا – والله – مزيدَ على ما قال الإمام علي، فهل بعد ذاك الحب من حب، وصَدَقَ وخَيْرُ برهان على ما صدق أن نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة مع يقينه بأنه لا ريب واقعٌ بين أسنة سيوف كفار قريش، ومع ذلك ضرب الفتى عليٌّ أروع مثل في الفداء والحب الصادق.
والصديق أبو بكر رضي الله عنه يبلغه أن رسول الله يتأهب للهجرة، فيُسابق إلى استئذان النبي في الهجرة معه، فيردُّ رسول الله قائلًا: ” لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا”، فلما أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة أقبل على صاحبه الصديق يبشره فكأن أبا بكر لم يصدق ما سمعته أذناه فسأل رسول الله قائلًا: “الصحبة يا رسول الله”، فقال له: “الصحبة”، وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال أبيها الصديق ساعتئذ جاءته البُشرى فتقول: “فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ”. (السيرة النبوية لابن هشام 1/245).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [النساء: 69] الآية (تفسير الطبري 8/534). فهذا رجل لا يُطيق المُكْثَ في بيته حتى يمْثُلَ أمام رسول الله يدفعه حُبُّه وشوقهُ لتكتحل عيناه برؤيته.
وعن أنس بن مالك أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: “وماذا أعددت لها؟ ” قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ” أنت مع من أحببت” قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” أنت مع من أحببت “. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم”. (البخاري 3688، ومسلم 2639).
وتسمعُ سعدَ بنَ معاذٍ رضي الله عنه في مقولةٍ والله لو كُتِبَتْ بمداد الذهب ما وَفَّتْ حقَّها في التصديق والإيمان والوفاء والإخلاص والفداء، سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ حين قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن هشام وغيره في السيرة النبوية: ” يا رسول الله، هذه أموالنا بين يديك، خذ منها ما شئت ودع منها ما شئت، وما أخذته منها كان أحب إلينا مما تركته، لو استعرضت بنا البحر لخُضْناهُ معك ما تخلف منا أحد، إنا والله لَصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء، فامض بنا يا رسول الله حيث أمرك الله “. (دلائل النبوة للبيهقي 3/31).
أرأيت أروع من هذا مثلًا وأصدق من هذا حُبًّا؟!… حقًّا كانوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقين المحبين المُجِلّينَ.
ولمّا قدِم عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ في صلح الحديبية مفاوضًا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طرف قريش وحلفائها، قال واصفًا ما شَهِدَهُ من حب الصحابة وما رآه من تعظيمهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملكا قَطُّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن تَنَخَّمَ نُخَامةً إلا وقعت في كفِّ رجل منهم فدَلَّكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له”. (مختصر صحيح البخاري2/233).
وقريب من هذه الصورة جاء ولكن من قصة زيد بن الدَّثِنَّةِ، عندما ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: “أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟”، قال: “والله ما أحبُّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي”، فقال أبو سفيان: “ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا”، ثم قتله نسطاس”. (سيرة ابن هشام 2/172).
وروي عن ثوبان أنه كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل فيه قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الْآيَةَ، قال البغوي في تفسيره (2/247): “نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ، فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ يُعْرَفُ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ”؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِي مَرَضٌ ولا وَجَعٌ غَيْرَ أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَكَ اسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَأَخَافُ أَنْ لَا أَرَاكَ لِأَنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلَتِكَ، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ لَا أَرَاكَ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ”.
وكان من الصحابيات من وهبت نفسها ومالها وأبناءها فداءً لرسول صلى الله عليه وسلم، مثل سيدتنا أم أنس التي وهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم نخلاتٍ. فعن أنس بن مالك قال:” لما قدم المهاجرون إلى المدينة من مكة وليس بأيديهم شَيْءٌ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمئونة، فكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم أعذاقا لها، أي نَخْلاتٍ”. (صحيح ابن حبان6282).
ولم تتوقف فضيلة الفداء والتضحية عند أم أنس إلى هذا الحد، بل تعدت إلى بذلها ولدها أنسًا لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له فَقَالَ: «اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ ووَلَدَهُ» قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ”. (صحيح مسلم 2481).
وبلغت محبة رسول الله بامرأة أن ذُهِلَتْ يوم أحدٍ عن أبيها وابنها وزوجها وأخيها لما سمعت بشائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففَرِقَت عليه وانطلقت تبحث عنه حتى اطمأنت على سلامته، فقد أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: “لما كان يوم أُحد خاض أهل المدينة خَيْضَةً وقالوا: قُتِل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار مُحْرِمَةً فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم، استقبلت بهم أولًا، فلما مرَّت على أحدهم قالت: “من هذا؟” قالوا: “أبوك، أخوك، زوجك، ابنك”، تقول: “ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ “يقولون: “أمامك”، حتى دُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سَلِمْتَ مِنْ عَطَبٍ” (حلية الأولياء: 2/377).
وأخيرًا فلا يسع ذلكم المقام لاستيعاب مقامات محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه، ولا تكفي تلكم المقالة لاستعراض منزلته في قلوبهم، فقد رأينا أن منتهى راحة أحدهم أن يموت ورسول الله هانئ آمن سالم من كل عَطَبٍ وأذى، ورأينا أن منتهى لذة أحدهم ألا تفارق عينه ظِلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا أن منتهى هَمِّ أحدهم ألا يفقد رؤية رسول الله في الجنة لعلو مقامه عنه صلى الله عليه وسلم، رأينا فداء أتباعٍ لمتبوعهم لم تعرف البشرية له نظيرًا، وحُبَّ أصحاب نبيٍّ لنبيهم لم تشهد الإنسانية له مثيلًا، إنهم العصابة الذكية المرضية التي رضيها رب العالمين لصحبة نبيه في مسيرته لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: