الرسول الكريم في عيون شعراء غير مسلمين  

الأستاذ الدكتور أحمد فرحات – ناقد أكاديمي

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مركز اهتمام الشعراء غير المسلمين، فمدحوا أخلاقه الكريمه، وأثنوا على صفاته، وعددوا مناقب خلقه، وهم ليسوا مسلمين ولكن أخلاق الرسول جعلتهم يتوجهون إليه صلى الله عليه وسلم على اعتبار أن دينه يدعو إلى مكارم الأخلاق، وكان من الذين مدحوا الرسول-صلى الله عليه وسلم- أمية بن أبي الصلت، وأبو طالب بن عبد المطلب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وأبو عزة الجمحي،وغيرهم ممن كانوا لا يدينون بدين الإسلام، ولكنهم أحبوا الرسول الكريم، ووجدوا فيه النموذج الإنساني المتكامل.
ولكل واحد من هؤلاء سهم في مدح الإسلام ورسول الإسلام؛ فقُتَيْلَةُ بنتُ النَّضْرِ بن علقمة بن كلدة بن مناف بن عبد الدار بلغها أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أمر بقتل أبيها صبرا، فَقُتلَ، أدركت الإسلام وأسلمت، وكانت تحت عبد الله بن الحارث الأصغر ابن عبد شمس، وكانت شاعرة محسنة، وقبل أن يشرح الله صدرها للإسلام بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أبيها،فقُتِلَ . وقد عرضت قتيلة بنت النضر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه( )، فقالت مادحة معاتبة(الكامل):
يا رَاكِبًا إنَّ الأثيلَ مَظِنَّةٌ
من صبْحِ خامسة وأنت موفقُ( )
أَبلِغْ بهِ مَيْتا بأنَّ قصيدةً
ما إنْ تزالُ بها الرَّكائبُ تخفقُ
مِنِّي إليهِ وعَبْرةً مَسْفُوحةً
جادَتْ لمائحها وأُخرى تخنقُ
فَليسمعنّ النَّضرُ إنْ نَاديتُهُ
أمْ كيفَ يَسْمعُ ميتٌ لا ينطقُ
ظلّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُهُ
للهِ أَرْحَامٌ هناكَ تَشَقَّقُ
قَسْرًا يُقادُ إلى المنيّةِ مُتعبًا
رَسْفَ المقَيّدِ وهو عانٍ موثقُ
أَمُحَمَّدٌ وَلأَنْتَ نجلُ نَجِيْبَةٍ
في قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ( )
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا
مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المغيظُ المحْنقُ
فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تركت قرابةً
وَأَحَقّهمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعتقُ
لَوْ كُنْتَ قَابلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنفقَنْ
بِأَعَزّ مَا يغلُو به مَا يُنْفَقُ( )
فبكى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حتى اخضلت لحيته وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه.
وكان النضر الذي قتله الرسول صلى الله عليه وسلم صبرا من المستهزئين بالرسول وبالإسلام، وكان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب، ويقول محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود، وأنا آتيكم بأخبار القياصرة والأكاسرة، يريد بذلك القدح في نبوته.
والقصيدة تسير في خطين متوازيين: رثاء الأب، ومدح الرسول-صلى الله عليه وسلم. وبين الرثاء والمدح وشائج قربى،فالرثاء في جوهره هو مدح للمتوفى،ولكن المدح هنا مقرون بالعتاب، وطالبا من الممدوح الصفح والعفو والمنة، وهي أمنيات المادح من الممدوح. ولأن المتوفى يمثل ذروة العاطفة لدى المادح فإن الممدوح يمثل أعلى من ذلك، وشرط الإيمان لدى المسلمين أن يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من حب أي إنسان آخر، وهو ما توافر لدى شاعرة غير مسلمة، مما جعل التأثر بكلامها يبلغ الذروة لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى بكى واخضلت لحيته.
تبدأ الشاعرة الأبيات بالنداء غير محدد الاسم، تبعته بجملة خبرية مؤكدة بإن،أي أن النداء-وما يحمله من نبرة عالية الصوت بواسطة ذكر الأداة(يا)-منصب على الخبر المتضمن اسم مكان(الأثيل) وهو مكان مقبرة النضر، وهذا يمنح البيت نبرة حارة وعاطفة ذاتية متأججة، ومشاعر إنسانية ملتهبة وصادقة تجاه الأب الذي يرقد في منطقة نائبة عن الشاعرة، فالمكان الذي يقصده الراكب قد يصل إليه في صباح الليلة الخامسة من السير، ثم ختمت البيت بالدعاء للراكب(وأنت موفق) فكأنها تستجدي الراكب أن يصل إلى مكان القبر لإرسال رسالة إنسانية من ابنته.
الجهر بمضون الرسالة متمثل في الأمر المباشر(بلغ)، والبلاغ هنا قد يكون مفيدا لو أنه لحي يسمع ويرى، ولكنها تفاجئ القارئ بأن البلاغ لميت لا هو بسامع ولا براء، ونظرا لأن الميت هو ذروة العاطفة المتأججة فإنه هنا بمثابة الحي المنتظر الرسالة والتحية من أحبائه. ومضمون الرسالة المشار إليها آنفا يكمن في إبلاغ التحية، والتحية هنا حارة وشديدة الخصوصية؛ فالركائب تحمل التحايا للمحبين والمقربين، وما تزال تحملها بقدر حرارتها؛ لأنها تحية خاصة من الابنة التي بثت فيها كثيرا من الشكوى والضجر جعلتها تخفق دائما ، ولن تهدأ هذه التحية حتى تصل إلى الأب وهو قابع في قبره.
ولكن لماذا التحية؟ وما مدلولها؟ أو إن شئت: ما تأويلها؟
إن توجيه التحية إلى الأب هنا يحمل دلالتين: الأولى تحية شوق الابنة إلى الأب، وهي تحية صادقة لا بأس بها. والأخرى، هي تحية إعجاب لتحمله الموت صبرا جراء ما حدث له من فعل قد تكون هي نفسها معجبة به. لا سيما إذا علمنا أن أباها كان دائم القدح في نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يشتري كتب الأعاجم فارس والروم، وكتب أهل الحيرة، فيحدث بها أهل مكة، وإذا سمع القرآن أعرض واستهزأ به. وذكر ابن عباس في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) أنها نزلت في النضر بن الحارث( ). وهنا أيضا تكون الشاعرة متفقة مع ذاتها لأنها غير مسلمة، وقد كان الكفار أشد الناس تمسكا بمبادئهم وأهوائهم الباطلة. كما كانوا من المنصفين أيضا ؛ فقد ذكرت كتب السيرة والسنة حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : جَاءَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : اقْرَأْ عَلَيَّ ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النحل آية 90 ، قَالَ : أَعِدْ ، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً ، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ “.
وتجيء عبارة (مني إليه) بمثابة الشحنة العاطفية الزائدة من الابنة إلى أبيها، فهي متعلقة بالفعل (بلغ)، أي أنها توصي الراكب أن يبلغ عنها التحية إلى أبيها، وكذلك توصي بإرسال عَبْرتين: الأولى مسفوحة ومنسالة على الخدين راقراقة، والأخرى تحملها في ضميرها النابض بمشاعر الود، حتى كادت تخنقها، من غير أن تنزل. وبين العبرة المهراقة والأخرى المخنوقة تفيض مشاعر البنوة حارة صادقة. وهذه العبرة المخنوقة بين الحلوق لا يكاد يسمعها سوى من كانت له وبه، لذا جأرت بصوت مرتفع لتحدث نفسها في أسلوب تجريدي خالص،وسيلته الأمر والنبر:(فليسمعنّ النضر إن ناديته) لأنه الأب الوحيد القادر على سماع ما لا تستطيع هي الإفصاح عنه، ثم سرعان ما تثوب لرشدها وتفيق من غيها وتقول(أم كيف يسمع ميت لا ينطق؟)
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه.. جملة خبرية بعد أكثر من جملة طلبية إنشائية، وفيها تتحسر على أبيها وما آل إليه مصيره المحتوم، ملقية باللوم على إخوانه الذين وقفوا منه موقف العداء فبدلا من مناصرته والوقوف معه راحوا يضعون منه. ثم أرادت أن تستعطف قومها من المسلمين وتستجدي أرحامها منهم طالبة منهم المؤازرة لكن هيهات فقد قطعت هذه الأواصر. ثم راحت تصف مشهد القتل وصفا يقطر من دمها، وينخر في عظامها كلما تذكرته، فهو يقاد إلى الموت قسرا متعبا، يجرجر قيوده في مشية بطيئة حزينة مؤلمة. وفي لفتة بارعة منها استخدمت الفعل (يقاد) مبنيا للمجهول، ولم تظهر في البيت إلا ما يدل على وصف الطبيعة الإنسانية للبنت التي قتل أبوها صبرا، ولم تبدي سبب قتلة ولا الظروف التي قادت إلى قتله، ولعل هذا السلوك الأدبي ما جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يرق لشعرها، ويتجاوب معه بشكل لافت.
أما الخط الثاني في القصيدة وهو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتمثل في أسلوب النداء المعلوم والمحدد، بعكس النداء الأول، ولكي نضع الأمور في نصابها، فالشاعرة كافرة وتنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه الذي عرف به قبل الإسلام، ونادته بواسطة أداة نداء تدل على القرب، ثم مدحته بالأبوين معا، الأم أولا، ثم الأب ثانيا، فالأم نجيبة في قومها، والأب كريم في نسبه، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُعَمٌ مُخْوَلٌ،أي كريم الطرفين معا. وفي هذا استعطاف لطيف وتمهيد جيد للممدوح، وفي هذا أيضا اعتراف بالذنب والإقرار به، لأن كريم الطرفين أهل للصفح والمنة. أما جملة النداء فإنها لم تكتمل في البيت الأول وعن طريق التضمين أكملت البيت الثاني(ماكان ضرك لو مننت) وفي هذا أيضا إقرار بالذنب واعتراف بالجريمة؛ لأن صاحب الفضل هو الذي يملك المن والصفح. وتجيء (ربما) هنا للتقليل، لأن العفو عند رسول الله مأمول، وإذا لم يُرْجَ العفو عنده فممن يرجى؟!
ثم تُذَكّرُهُ صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم ووشائج القربى فيما بينهما، عن طريق ذكر النضر مرة أخرى مقرونا بالقرابة والرحم، وكم من معتد على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وكان نصيبه العفو والسماح والمغفرة، ولعل هذا ما جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر (لا يقتل قرشي بعد هذا صبرا)، ثم يطلق كلمته المؤثرة (لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن من البيان لسحرا) وفي رواية لحكمة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: