الدكتور هشام المنياوي يكتب: عينٌ عَلى الجِرَارِ – الحلقة الثالثة

عينٌ عَلى الجِرَارِ – الحلقة الثالثة

بقلم: الدكتور هشام المنياوي

 

5- عبقرية اللفظ

إذا كانت عبقرية ( العنوان والقوسين والصورة ) نماذج ثرية لأمارات التفرد في سرد  أديبنا الكبير ، فإن ( عبقرية اللفظ ) قيمة تضاف إلى أخواتها السابقات بكل تأكيد ، وبعيدا عن الخوض في القضية البلاغية الشائكة ( اللفظ والمعنى )؛ فقد قتلت بحثا ،أختارمن جرة( لعبة الثلاث ورقات : اللماضة والبراءة والقيمة ) ثلاث كلمات جرَّتْ كل كلمة منهم  جحفلا من الدلالات . أولاهم كلمة (نتبعثر) في سياق وصفه انطلاقة الأطفال المبرقة لحظ سماع قرع ( جاد الأجرس ) للطبلة معلنا غروب الشمس ، وحلول الإفطار، ذلك  قوله:

( . كان جاد الأخرس يجلس على السطح وبجواره الطبل الضخم ، يراقب الشمس حتى إذا أوشكت على الغروب وقف ، وعلق الطبل في عنقه ، فندرك نحن المتحلقين حول الدار أن المغرب على وشك ، وهنا يتعالى صياحنا ، ويتتابع : ” رَفَعَ الطبلة .. رَفَعَ الطبلة ” ونظل نرددها بصخب حتى يتم غروب الشمس ، فيقرع جاد الطبل ، فنطلق ” هيييييه ” عالية جدا ، ونتبعثر عدوا كل في اتجاه بيته .)

انظر إلى  أولا لفظ ( هيييييييه) هل ثمة لفظ غيره أكثر أمانة في نقل مشاعر فرح الأطفال ، بل ونقل صورة ذلك الفرح صوتا تكاد تسمعه حين قراءتك إياه ، ثم انظر ثانيا  إلى الدقة التي حملها الفعل (نتبعثر)؛ فهو يصور مشهد انصراف الأطفال بسرعة مصحوبة، باضطراب قادت إلى اصطدام بعضهم ببعض؛ بفعل الفرحة الهستيرية بسماع صوت الطبلة معلنة انتهاء الصيام ،ودخول وقت الإفطار ،وهذا المعني- بذلك التصوير -لا يقدر عليه سوى الفعل (نتبعثر)وهو أدق من أفعال أخرى، قد يتوهم قيامها محله من نحو:نتفرق -ننصرف-ننطلق-…أما اللفظة الثالثة التي تتجلى معها عبقرية أديبنا فى انتقاء ألفاظه بدقة ومهارة هي (جَرْيْ)في قوله على لسان أمه بعدما تضع بعض أرغفة الخبز:

(جَرْيْ على بيت خالتك )

وقد حَسُن هذا اللفظ- رغم لحنه لغويا -؛لكونه يمثل نقلا لحديث أمه بصورته التي نطقتها به، ولو أعربه أو عَرّبه (جريا) لساء ؛مثله مثل طرفة العوام لا ينبغي إعرابها كما حكى لنا الجاحظ :(إن الفصاحة في نقلها كما تنطقها العوام )!!واللفظ ساهم بشكل كبير في تصوير صوت حديث الأم بدقة وكأننا نكاد نسمع صوتها . أما اللفظة الرابعة فهي قوله عن أخيه عبد الله -يرحمه الله- (يستجدي )في قوله:

(كبرنا ، وأصبح عبدالله (رحمه الله) جراح تجميل مشهورا، ولكني أبدا لم انس مشاعر القهر التي كست وجهه وهو يستجدي زميله في المدرسة أن يسمح لنا بالوقوف في ظل بيته ، تجنبا لقسوة الشمس في مواجهة عيني .)

لعمري كيف نقل هذا الفعل مشاعر الشجن والعطف من الأخ الأكبر تجاه أخيه الصغير،حين تولى المضارع تصدير المشهد صورة مشاهدة للعيان ، مشفوعة باستمرار الحدث ، فكأن الاستجداء طال ، واستمر فعله !،إنه يستجدي من أجل أخيه ؛ حبا ، وشفقة ، ورحمة ، و(الحب الأخوي ) قليل الطرق من أدبائنا قديما وحديثا؛ حيث شغلهم الحب العاطفي بين الجنسين عن تصوير مشاعر الحب الأخوي بالصورة التي يستحقها ،وقد أفاض أديبنا الكبير العزف على أوتار الأخوة الصادقة في جرتيه الماتعتين عن أخويه (إبراهيم ) و( عبد الله ) ، وقد اقتبس لجرتيهما عنوانين من القرآن الكريم ( قال إني عبد الله ) و( إبراهيم الذي وفى ) وقد وشى هذان الاقتباسان بحبه  أخاه  عبد الله حبا ، يضارع حبه ( إبراهيم )، حين سوَّى بينهما اقتباسا باقتباس ، فجاء وصف أديبنا لتلك المشاعر بتفرد وتمكن يثيران الشجن والمتعة في آن!!

6-  براعة الاستهلال

مبدأ بلاغي شهير ، هام أديبنا به ؛ فطفق يبدع فى استهلال جراره إبداعا يدعو للدهشة ، ويقرب سيرته من المقال؛ لما كانت براعة الاستهلال من الأسس البنائية لفن المقال ، ويُبَرّأ سرده القصصي من مجرد الحكي، وسرد الأحداث ، ويُؤَصِّل لاستقلال ، وانفراد كل جرة من الجرار بالتعاطي معها على حده . فالمقدمة والنهاية هما عتبتان للنص بامتياز ، لأن الأولى عتبة دخوله والثانية عتبة الخروج منه(7)

وهو غالبا ما ينطلق في استهلاله من مبدأ عام  أو فكرة مجردة  في عمل أدبي أو منحى فلسفي ، ثم ينطلق منه إلى سرد مواقف من سيرته تدعم هذا المبدأ ، و تتناغم معه ؛

– ففي جرته ( الحفر في الذاكرة 3 ) استهل ذكرياته عن  (اللماضة و الشقاوة ) بالحديث عن الفقيه الظاهري محمد بن أبي داود وكتابه ( الزهرة )، وهو كتاب في الحب ، ثار عليه أقرانه من فقهاء المذاهب الأخرى بسببه ؛ فأطلقوا عليه( عصفور الشوك ) ليرى أديبنا في هذا الوصف ما يناسب شخصيته  (الأزعة الذي يجلب المتاعب كعصفور يحوم حول الشوك ) ، فينطلق من هذا الاستهلال إلى سرد بعض من تلك المتاعب التي جلبها هذا (الأزعة) الشقي  ! فبرع في  الاستهلال كما برع في السرد !

– وفي جرة ( الذي رأى ) استهل (فكرة الاشتغال بالحب عن البوح به) بالحديث عن مؤلفات الناقد الكبير محمد غيمي هلال من الربط بين العذرية والصوفية في كتابه ( الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية ) في  العربية والفارسية والتركية ، وينطلق من هذا الاستهلال – وتحديدا من عبارة الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي ( شغلني حبك عنك ) ليسرد لنا حكاويه عن  الحب المكتوم ،غير المصرح به يقول أديبنا :

(….هنا أستعيد أسماء الفتيات الصغيرات (وكنت صغيرا مثلهن) وقد أحببتهن على التتابع ، وأنا لا أزال (مفعوص) في مدرسة تمي الأمديد الإلزامية : سمية ، وسناء ، وحياة ، وحسينة ، مع فواصل انتقالية لا أتذكر الأسماء ، ويمكن وضعهن جميعا تحت شعار ( شغلني حبكِ عنكِ) .. ويستثني  من ذلك واحدة ، صرح بحبها ،وختم بها السرد !!

انظر كيف انطلق من مبدأ عام مجرد ، إلى سرد ذاتي يدعمه باستهلال ، وَطَّأ ، ومهَّد له، فغذى العقل قبل الوجدان بغزير علم  ، وعميق  ثقافة !!

– وفي ذات السياق استهل جرته ( تكلم حتى أراك ) بعنوان رواية إحسان عبد القدوس ( لا أكذب ولكني أتجمل ) ليطرق قضية تجميل واقع أصحاب السير الذاتية  تاريخهم بالتحريف أو الإضافة إليه ، أو الاقتطاع  منه ، ويرى أن هذا ضرب من مجانبة الإفضاء بالحقيقة يساوي الكذب ، واستطرد في الفكرة بسرد حديثه مع الكاتب المسرحي محفوظ عبد الرحمن حين أقبل عليه كثير من النجمات تتمنى كل منهن أن يكتب لها مسلسلا تلفزيونيا ،يصورها شخصية مكافحة في سبيل الوطن ،أو المجتمع ،أو التقدم ،أو التنوير ،أو العلم، أو السياسة ، بمعنى آخر يجمل صورتها ، في حين أنها إبان عمرها لم تكن نموذجا لذلك !..انطلق من هذا الاستهلال إلى سرد مواقف من حياته موجعة  وجعا ،عجز عن مواجهته بغير الصمت، والتخاذل لدرجة الانسحاب .. وكأنه بهذا السرد لموقف شديد القتام ، شديد الوجع، يعلن أنه ليس من زمرة هؤلاء الذين يجملون وقائع سردهم ،المليء بالانتكاسات ،  لكنه ،مع هذا، يتعالى عن التصريح الفاضح بأسماء من تسببوا في هذا الوجع عن قصد أو بدونه ،  مكتفيا بسرد الأحداث مجردة من التوثيق ، قضاء لشهوة البوح ، وأداء لأمانة الشهادة أمام التاريخ ، دون تشهير بأحد ، أو شماتة فيه ،  هذا أديبنا وهذه أخلاقه !! تلك السجايا الجميلة لا يقل عنها بهاءً حسن الاستهلال وبراعته  ؛ فالمضمون الشريف خليق بشكل يشبهه !!

7- براعة الخروج

من جوانب المتعة عند أديبنا الكبير أنه كما يحسن الاستهلال يحسن الخروج وكما يقول النقاد : ( نهاية صادمة نهاية بديعة ) أنتقل بك عزيزي القارئ  إلى جرة (عائلة لماضة وفروعها المزعجة ) وفيها يصف مشهد دخوله مكتب الدكتور علي الجندي- رحمه الله- عندما استدعاه إليه بعد وصلة  (لماضة ) معتادة من أديبنا ، يروي المشهد قائلا:

(…حتى دخلت مكتب العميد ، فنهض من خلف مكتبه ، صافحني وجلس ، وجلست . لم يكن ينظر إليَّ بقوة وهو يسألني عن بلدي ، فذكرت المنصورة وتمي . عاد إلى الصمت مرة أخرى ، وكان من الواضح –فيما أظن- أنه كان يفكر في عبارة اعتذارية مقبولة لا تجرح مقامه العالي بالنسبة لطالب ، وأخيرا .. جاءت عبارة :”تشرب شاي؟” فشكرته بعبارة لا أذكرها ، غير أنه استجاب لها ، وقد تأملني مليا لبضع لحظات ، ثم قال كلمة واحدة ، وهو يمد يده مصافحاً : شكراً ..

وخرجت .. دون أن أعرف لماذا أتيت ؟!…)

دعك من حسن السبك ،وبهاء الوصف، وسلاسة اللغة ، وجمال الصورة ، وانظر إلى براعة الخروج حين تولى الاستفهام طرح مئات الأجوبة المتوقعة ، وفي هكذا نهايات تتصارع الاحتمالات في ذهن المتلقي، الذي ينوب عن الأديب في مهمة إسدال الستار .

وفي جرة ( وما إلى ذلك ) ختمها بوصف بائع الحلوى ذي العربة الزجاجية  يقول :(أشاهده وأنا عائد من السينما ، ونادرا ما أجد مشتريا ، ومع ذلك كان الرجل يظل واقفا بقبات تحت طل وصقيع المنصورة منتصف الليل ، ينتظر رزقه بغير ملل أو فتور ، من هذا الرجل – بذكراه القديمة جدا – أستمد إلى اليوم إيماني بالعمل ، وضرورة الدأب والصبر على الأداء إلى آخر لحظة ممكنة ، طابت ذكر ذلك الحلواني ، الذي لم أعرف له اسما ، وهو إلى اليوم شاخص في وجداني !!)

براعة الخروج رصدت لمحة إنسانية في بائع الحلوى حلقت بالسرد من خصوصية الحدث إلى فضاء الإنسانية الرحب ، براعة الخروج صدرت لنا قيمة تربوية كبرى تعلي من شأن العمل ، وتحض على إجادته والإخلاص فيه مهما كانت المشاق والصعاب ..براعة الخروج هي حلو السرد الذي نختم به وجبة أدبية ،غذت الروح ،والفكر، والوجدان، وصدرت لنا المتعة التي تغيّاها أديبنا من جراره   !!

السرد النوعي :

من أروع قوالب السرد ذلك الذي يتناول فيه الأديب  فكرة نوعية، تستغرق مراحل متباينة من حياته ، حين يعقد المتلقي  مقارنات ذهنية بالغة الدقة والعمق بين ثقافات المجتمع  عبر حقبه  الزمنية التي ظرَّفَتْ تلك الفكرةَ مناط البحث  ، وتلك سمة من سمات السرد عند أديبنا الكبير ، فقد تناول ( الموت – الحب – الألم – الجرأة في قول الحق – الجراية – اللماضة – ….) بهذا النمط النوعي من السرد،  فصب أديبنا العسل من جراره صبا ، فتلقفته نفوسنا الجوعى ، تتجرعه بنهم، حين عمد إلي رصد قيم الحب والخير والجمال وتقديس العمل ؛ ما تمخض عنه اجتماع الناس على جراره العسلية ؛ كونها تنطلق من المقيد – السرد الذاتي – لتحلق في سماوات من القيم الإنسانية الرحبة فتغدو بها إلى المطلق الذي يستوعبه كل أحد ، ويتأثر به كل فرد ، ويأنس به كل شخص ، إن براعة الانطلاق من المقيد إلى المطلق سمة سامية من سمات سرد (الجرار العسلية  ) !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حواشي التحليل :

1-الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث – د يحيى إبراهيم عبد الدايم – دار إحياء التراث العربي ص113/114

2-عتبات جيرار جينت من النص إلى المناص – عبد الحق بلعابد- تقديم د سعيد يقطين – الدار العربية للعلوم ناشرون- ط1-ص67

3- للفرق بين بناء الجملة الاسمية وبناء الفعلية ينظر معاني الأبنية د فاضل السامرائي – مكتبة  دار عمار –ص9-16

4- الحيوان – الجاحظ – ت عبد السلام هارون -مكتبة مصطفى البابي الحلبي– ط2 3/132

5- انظر دلائل الإعجاز- عبد القاهر الجرجاني – ت محمود محمد شاكر – مكتبة الخانجي – مطبعة المدني ص 365

6- انظر مداخل النقد الأدبي – د محمد حسن عبد الله – الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر 2005م ص133

7- ( عتبات النص الأدبي ) د حميد لحمداني – مجلة علامات في النقد مج 12- عدد46 شوال 1423هـ- ص8

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: