الخداع اللغوي بين التدليل والتضليل

بقلم: الأستاذ الدكتور السيد سالم

مما لا غرو فيه أن اللغة في أصلها نظام تواصلي يحقق بها الإنسان الاتصال اللغوي مع غيره من البشر، وهدفها دائما تغيير القناعات، وتأثير المتحاورين بعضهم في بعض.
وتأخذ هذه التأثيرات وتلك القناعات شكل حوارات، ومحادثات يتبادل فيه الطرفان الأدوار، معتمدين على الخداع اللغوي تارة والحقيقة اللغوية تارة أخرى، غير أن الغالب على تلك الحوارات هو استعمال لغة انزياحية سواء على مستوى الكلمة أو على مستوى التركيب، بل على مستوى فضاءات الخطاب وسياقاتها المتعددة، بغرض التأثير والإقناع.
إذن فبنية العملية الحوارية الخطابية ومدلولاتها تعتمد في المقام الأول على ماهية اللفظ وهيولاه، ومدلوله ومعناه، في إطار موقفي يعضد هذا المدلول أو يهمله.
وقد آل المقال أن يقف أمام هذه الظاهرة الخطابية موقفا تداوليا ليرى أثرها في المعنى، والذي قد يتسبب في كثير من الأحيان إلى تبديلٍ وتحريف، أوتزييف أوتجريف يؤثر سلبا على الموروث اللغوي للفظة، ورصيدها في الاستعمال؛ بل يصل الأمر إلى حد تقبيح مدلولها الحسن، واستغلاله في سياقات تخدم أجندة محددة ينتوي بها المخادع تمريرها على القارىء البسيط؛ ليحظى بتأييد أو توكيد؛ رغم أنه من الأولى التمسك بمعاني الألفاظ الحقيقية الشريفة المقصودة وعدم جعل الانزياح والتغيير أصلا يبنى عليه المعنى في كثير من المواقف الكلامية الخطابية. ولعل من نماذج بعض هذا الخداع، ما نراه منشورا في كثير من الجرائد والمجلات، أو ما نسمعه في كثير من القنوات المتلفزة، أو مبثوثا في وسائل الصحافة والإعلام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

2. تجار الدين “الدعاة إلى الله”
المتاجرة في اللغة: تاجر يُتاجر مُتاجرةً فهو مُتاجِر أي يمارس البيع والشراء ليحقق مكاسب. والمتاجرة قد ترتبط بالدين، ونجد هذا المعنى له أصل في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾.
وقد نزلت الآيات في أحبار اليهود الذين أخفوا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم- ؛ وهو مذكور عندهم في التوراة، ولما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فيدخل فيها أيضًا علماء المسلمين “الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم، فى مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجُعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة، أو نحو ذلك مما يستفيده المطبلون والنفعيون. وسُمي قليلًا لأن كل عِوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير، كما قال: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾. وهذا هو المعنى الحقيقي لمصطلح (المتاجرة بالدين).
وقد شاع مصطلح المتاجرة بالدين بعد الهجمة العلمانية الشرسة التي تعرض لها المسلمون جراء سقوط الخلافة، وإمعانًا في رغبة أعداء الإسلام في تحييد المسلمين عن دينهم حتى يضعف أثر الإسلام في نفوسهم، فقد أطلق المصطلح على كل (عالم رباني ينشد تحكيم شرع الله في حياة الناس أو داعية صادق يدعو إلى الله على بصيرة). وقد تولى كبر هذا الأمر وكلاء عن أعداء الأمة؛ يأتمرون بأوامرهم ويمكرون مكرهم.
وبدأوا في تشويه (العلماء والدعاة الثقات) بزعم أنهم يتاجرون بالدين حتى يعزلوهم عن المجتمع ويحولوا بينهم وبين عموم المسلمين، وفي المقابل يفسحون المجال لعلماء غيرهم بدلوا وغيروا ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، وهم الذين ينطبق عليهم وصف المتاجرة بالدين على الحقيقة! وبهذا التضليل والتحريف في اللفظ والمعنى تنقلب الأمور ويصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا في زمن نحيت فيه شريعة الله أن تحكم وأن تسود.
مشروبات روحية “الخمر”
فالخمر في لفظها تعني المخامرة للعقل التي تدل على ذهابه، فإذا سمع العاقل لفظها وقف شعر رأسه خوفًا على عقله منها، أما المؤمن فيرى فيها ما يرى العاقل، ويرى كذلك في هذا اللفظ سخط الله وعقابه؛ فينفر منها نفورًا شديدًا. فإذا غُيِّر هذا الاسم وأُعطي دلالة ناعمة، كقولهم في زماننا عنها: “مشروبات روحية” ظنّ السامع أن في شربها غذاء للروح، وهو عكس ما يؤدي إليه لفظ الخمر في اللغة. وقد ورد في الحديث عن الصادق المصدوق: “لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، حَتَّى تَشْرَبَ فِيهَا طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا”() أي يبدلون اسمها ومعناها الحقيقي ليبدلوا بذلك حكمها؛ ففي هذا خداع وتضليل على الناس في الألفاظ مما يلبس على الناس المفهوم الصحيح للاسم. ونستطيع القول: إن تسمية المشروبات الكحولية بالروحية، جاءت في الأساس من أجل الإقناع بأنها ليست حرامًا أو بها ضرر.
وهكذا نرى خطر هذه الظاهرة؛ التي من شأنها أن تخدع القارئ، وتؤدي -دون أن يدري- إلى تمييع مدلول المصطلحات، وتحريف معناها الحقيقي في الأذهان، ومن ثم تثبت في العقول بل ربما يصل الأمر إلى مرحلة الدفاع عنها..ولله الأمر من قبل وبعد !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
(1) ابن ماجه. (1952م). سنن ابن ماجه. كتاب الأشربة، باب الخمر يسمونها بغير اسمها. رقم: 3384. ج 2. ص 1123.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: