الحنين إلى الماضي حالة مرضية
الحنين إلى الماضي حالة مرضية

بهجت العبيدي
وفقاً لموقع medicalnewstoday، فإن النوستالجيا مصطلح يُستخدم للتعبير عن الحنين إلى الماضي، أو العيش في الماضي، وهو نوع من المرض، وتعريفه: هي متلازمة تصيب الإنسان الذي يحن دائماً إلى الماضي والعيش مع الذكريات، بحيث يصبح الشخص المصاب بهذه المتلازمة يرى أن الماضي جميل جداً بكل ما فيه من أحداث أو علاقات، ويرى أن الماضي كان أسهل وأبسط وأكثر متعة. هذا على مستوى الأفراد، حيث ينتابهم الإحساس بعددٍ من المشاعر التي تجعل الشخص يفكر بشكلٍ مستمرٍ في الماضي، مثل: (الندم، الغضب، العار، الذنب). الاعتقاد بأنَّ التفكير بالحياة بشكلٍ بائسٍ وحزين يُمكن أن يغفر أخطاء الماضي. الظن والشعور بأنَّك لا تستحق السعادة. الخوف من المستقبل وعدم تقبل الحاضر.
إن التعلق بالماضي والانشغال الزائد به ربما قلل في نظرنا من قيمة الحاضر وكره في نفوسنا حتى التفكير والتخطيط للمستقبل. ولن نعود إلى الاهتمام بالحاضر بشكل جدي إلا بهجرة الماضي والاستقرار في الحاضر والاعتراف بأننا جزء من هذا الحاضر وأننا نحن المسؤولون عن المشكلات التي ينتجها هذا الحاضر ونحن المطالبون بحلها وليس غيرنا.
ونحن في هذا الصدد نرى أن الإنسان الذي يصاب بهذه المتلازمة دائما ما يصبغ على فترة زمنية خالية الكثير من المثالية، وكثيرا ما يتغنى الإنسان بالماضي خاصة هذا الذي يعاني واقعا مريرا، فعلى المستوى الفردي، لو افترضنا إنسانا يواجه مصاعب شديدة في حياته الآنية، فإنه لا يتورع في أن ينسب لحياة آبائه وأجداده ما لم يكن بها من صفات حيث تستعر جينات خياله ليضيف لتلك الأيام التي ربما لم يرها ما ليس منها في شيء، والمؤكد أنه يبالغ مبالغة هائلة فيما ينسبه إلى أولئك الأجداد وهؤلاء الآباء، فلو افترضنا جدلا أن هناك شخصا – يعيش حالة من المعاناة المادية – كان جده يمتلك خمسة أفدنة، فإنه مع مرور الوقت يتحولون إلى عشرة ثم إلى عشرين ثم يتصاعفون وربما مع الوقت نسمع من أحفاده أن هذا الجد كان من الإقطاعيين وأن الخدم والحشم كانوا في صرايا هذا الجد، وما ذلك إلا نتاج خيال شخص، أو أشخاص، منهزم في واقعه، فيلجأ لصناعة انتصار من خياله، فيلجأ لمثل هكذا كذبة تريحه.
ويبدو أنه من الغرائز التي ولد بها الإنسان هذه الغريزة، غريزة الحنين للماضي، مهما كان هذا الماضي، والتي تعرف ب “نوستالجيا” وهي تعني الحنين (بالإنجليزية: Nostalgia، من اليونانية القديمة وتعني «ألم الشوق») هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، إذ يشير إلى الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد، وصفت على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة ثم أصبحت بعد ذلك موضوعاً ذا أهمية بالغة في فترة الرومانتيكية. وهي تمثل حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها.
وإني أذهب إلى أن الصورة التي يقدم بها هذا الماضي يكون لها دور في هذا الحنين، فإما أن يخفت قليلا، إن قُدِّم في صورته الحقيقية، وإما تشتعل جذوته اشتعالا، وذلك إذا تم تصويره على أنه المثال الذي يجب أن يحتذى، وإذا أصبغ بصبغة من خيال ذلك المصور له.
وإني أذهب إلى أن الماضي الذي يقدم لأمتنا العربية والإسلامية فيه من المبالغة الكثير، وذلك ابتداء من عصر النبوة الذي يتخيل البعض، نتيجة للصورة التي يقدم بها، أنه كان خالٍ من الذنوب والآثام، وأنه كان مثالا يجب أن نسعى إلى تحقيقه مرة أخرى، والحقيقة بكل تأكيد ليست كذلك، فالناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم الناس في كل عصر فمنهم التقي الورع، كما هؤلاء الصحابة الكرام، ومنهم المرائي المنافق والجبان والمتخاذل والمتقاعس والمطفف الكيل والخائن بصره، كما صور ذلك القرآن الكريم، وحذر الرسول عليه السلام منهم، إن كان ذلك على مستوى التقوى، فعلى مستوى الحياة فإنها كانت حياة قاسية شظفة العيش، فلا مقارنة بين ما نتمتع به الآن من نعم، وما كان متاحا في تلك البيئة الصحراوية القاحلة، وما ننعم به الآن من تقدم علم وتكنولوجي لم يكن ليحلم بواحد على المليون منه هؤلاء الذين عاشوا فترة النبي الكريم، وما يتمتع به إنسان اليوم من رعاية صحية لم يحظ الإنسان في الجزيرة العربية منذ ما يزيد عن خمسة عشر قرنا بأقل القليل منه، والمستوى العلمي والثقافي بين إنسان اليوم وإنسان تلك الحقبة الزمنية لا مجال للمقارنة بينهما.
هذه مسلمات يستطيع العقل البسيط أن يتوصل إليها ببعض من التفكير، ومع ذلك فإن حنيننا لتلك الفترة الزمنية حنين مبرر بل مُتَفَهّم، حيث أنه حنين ليس لزمن بقدر ما هو حنين لإنسان عظيم هو خير البشر أجمعين قدّر له الله واختاره رسولا للبشرية في هذا الزمن وتلك البيئة التي يظل لها على طول الزمان وعرضه حنين مقيم بين ضلوع أتباع المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم.
وإذا انتقلنا لفترة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حقبة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فلم تكن هي تلك الفترة، لا من الناحية الإيمانية ولا الدنيوية، التي يمكن أن تكون هي المثال الذي ننشده ونحِنُّ إليه، فما أن انتقل الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى وإذا خلاف يدب بين المهاجرين والأنصار عمن يخلفه صلى الله عليه وسلم إلى أن حسم الخلاف بحزم شديد عمر بن الخطاب، وما أن تسلم الخليفة الأول أبو بكر الصديق الحكم إلا وخرج من الدين من خرج وإذا بقوم يرفضون إعطاءه الزكاة، ووإذا بنفر وقد ارتدوا عن الإسلام، هؤلاء الذين جهّز لهم الخليفة الجيوش وحاربهم حتى عادوا في حظيرة الإسلام، أما بالنسبة للأمور الدنيوية فلم تختلف في شيء عن حقبة الرسول الكريم.
وكما هو معلوم لدى الجميع فلقد انتهى حكم الخلفاء الراشدين بفتنة عظيمة، قاتل الصحابة رضي الله عنهم بعضهم البعض، حتى قتل فيها بعض المبشرين بالجنة كان على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب الخليفة الرابع، والذي كان قد قُتِل قبله الخليفة الثالث عثمان بن عفان حينما ثار عليه أهل الأمصار وحفَّزهم وساندهم العديد من الصحابة، بل وشارك في قتله محمد بن أبي بكر الصديق، ويزعم الشيعة أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت مُشجِّعة الثوار ومُحفِّزة إياهم على عثمان “اقتلوا نعثلا فقد كفر”، هذا الذي يرفضه أهل السنة، رغم أنه مدون في كتبهم، حيث بينوا ضعف الأسانيد واعتبروه من مفتريات ابن قتيبة، وابن أعثم الكوفي، والسمساطي، وقال الصلابي في كتابه: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رويت هذه الرواية من طريقين عند الطبري: ويكفي أن في رجال الإسناد نصر بن مزاحم العطار المجروح في كتب الرجال بالصفات الآتية: شيعي، منكر، تركوه.
وأما الطريق الثاني: ففي إسناده عمر بن سعد، وهو قائد السرية الذين قاتلوا الحسين ـ رضي الله عنه ـ وهو عند رجال الحديث لا يصح حديثه، متهم بالوضع، متروك، فالرواية غير مقبولة الإسناد في أي من طريقي روايتها.
تلك الفتنة التي مازالت آثارها قائمة حتى يومنا هذا، ولن ندخل في ذلك كثيرا، حيث أن هدفنا هنا ليس رصدا للتاريخ، ولكنه محاولة على تأكيد أن صورة الماضي لم تكن بهذه الروعة التي يقدمها هؤلاء المتيمون بالماضي الحابسين أنفسهم، ويريدون حبسنا معهم، فيه. وليس في ذلك تحقيرا من هذا الماضي حاشا لله، ففيه من الصفحات الناصعة ما يدفعنا دفعا للزهو به والفخر العظيم بانتمائنا إليه، ففيه تجسد الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبالإسلام في نقائه وصفائه، وفيه ضُرِبَت أروع صور الشجاعة والبطولة، وبه أقيمت دول إسلامية عظيمة ساهمت في الحضارة الإنسانية بسهم نعتز به ونزهو.
إني أدرك أن الحنين للماضي هو حنين لتلك الصفحات الناصعة، والتي لزاما عليّ، لكي أكون صادقا معه ومع نفسي، أن أعلن للقارئ الكريم أنها حتما لن تعود، فلقد كانت نتيجة لظروف زمانها، تلك الظروف التي أيضا لن تعود، فكما أن الزمن لا يعود للخلف، فإن ما وقع في الماضي الذي هو نتيجة لمعطيات وعوامل حدثت في هذا الماضي والذي هو يتسق مع تلك العوامل الموضوعية التي حققها وخلقها إنسان ذلك العصر بما يتناسب معه، فإن علينا، إن أردنا أن نعيش عصرنا، أن نخلق الظروف الموضوعية التي تناسب هذا العصر الذي نعيش فيه لنحقق نتائج طبيعية لتلك الظروف والعوامل الموضوعية التي يجب علينا أن نخلقها خلقا يتناسب مع زماننا.
إننا إذا استطعنا ذلك، فساعتها فقط يمكننا أن نحقق نتائج مشابهة، ليست هي، لتلك التي تم تحقيقها سابقا، وهي بكل تأكيد ستكون متسقة مع حضارة اليوم، لأنها لابد أن تكون قد خرجت عن عقل قد تمت صياغته وتكوّن وفق المنظومة الفكرية والثقافية والعلمية في هذا العصر، وليس عصرا سابقا، لم يعد يربطنا به من سبب، والمقصود هنا هو سبب مادي عقلي، أما تلك الثوابت والمسلمات التي تتفق فيها كل الأزمان والحضارات والأديان وهي القيم فهي صالحة! في كل عصر.
المؤكد أننا أعلم بأمور دنيانا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤكد أنه يمكننا أن نجد لنا موضع قدم في عالم اليوم، دونما تعالٍ على الأمم الأخرى من ناحية، ودونما تحقير من شأن أنفسنا من ناحية أخرى، نحن لا ينقصنا شيء لنثبت، في عصر غير عصر أسلافنا، أنفسنا وذواتنا كما أثبتوا هم أنفسهم، إننا نمتلك ما لم يتوفر لهم من علم ومالم يتحصلوا عليه من تقنيات، إن الذي ينقصنا، كما أزعم، هو أن ندرك واقعنا ونعيش عصرنا، دونما تنكر لماضينا، ودونما استغراق في العيش فيه.